هل توجد أخطاء داخل المصفوفة؟ هل يمكن أن نتحدث عن أخطاء أصلا في عالم الخيال العلمي؟ و هل تعتبر أخطاء تلك المتعلقة بالتصوير و التركيب و المسائل اللوجستية؟ و أخيرا، إلى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه الأخطاء على رؤيتنا و على موقفنا من هذا الفيلم؟
لن أجيب عن هذه الأسئلة باستفاضة كبيرة لأن طول الفيلم ساعتان و ربع و هو يحشد بالمشاهد المعقدة و الحركة التي تطلبت جهدا كبيرا في إنجازها، كما أن القصّة على بساطة خطّها السردي، فهي تنضوي في سياق خياليّ معقد جدا و متشابك، ما يجعل كلّ صنتمتر فيها مليئا بالفجوات و فاتحة لنقاشات طويلة، و مجادلات قد لا تنتهي بخير إذا كان مجادلك من المغرمين المتعصّبين للفيلم.
لكن من الضروريّ الإحاطة بأهمّ هذه الملاحظات، خصوصا و أن الأسطورة تقول : الماتركس متماسك إلى حدّ يجعله خاليا من الأخطاء. و الأخطاء لا يمكن أن تبدأ بالظهور إلا حينما يتخلّى المشاهد عن انبهاره الأعمى بما يشاهد، و يدرك أن لا فيلمَ بدون أخطاء. فما هي فجوات المصفوفة؟
يمكن أن نبدأ بالأخطاء الفنّية و التقنية، حيث يوجد الكثير منها، و لا أجد داعيا للتركيز عليها. هذه الأخطاء هي الدليل أن من أنجز الفيلمَ بشرٌ مثلنا، و هذا ما يزيد ـ بنظري ـ في تميّز الماتركس و تفوّقه. اِنعكاسُ محتوى شاشة الكمبيوتر على Neo و هو نائم كأنّه جهاز إسقاط Projector بينما هي شاشة عادية، اِنعكاسُ Neo و هو جالسٌ على نظارتيْ العميل Smith في وقت يفترض أن يكون فيه واقفا (مشهد انغلاق فمه في غرفة التحقيق)، الجدار الذي يتهدّم ببداية القتال لنجده في المشهد الموالي سليما، بعض المعلومات التي تنقصها الدقة كوصف الفيروس بالكائن العضويّ organism، وجود بعض العلامات الدالّة على أنّ الأحداث لا تدور في شيكاغو رغم أسماء الشوارع التي حاول المخرجان إيهامنا بها (وجود كلمة lift عوضا عن elevator لا يمكن أن يكون في مدينة أمريكية)، الريح التي تجد لها محلاّ في محطّة ميترو تحت الأرض، كلّها أخطاء تفصيلية يمكن التغاظي عنها حينما نقارنها بالتفاصيل الدقيقة الأخرى التي اعتنى بها المخرجان. ففي فيلم يجد لوقع الأمطار على الأرض، و لمسح زجاج النوافذ تأويلا ذا دلالة مهمة، لا نملك ترف الوقوف على أشياء كهذه.
لكنّ الأخطاء تتجاوز ذلك إلى السيناريو، و هي تنقسم إلى قسمين، أخطاءٌ تفصيلية، كان يمكن تفاديها بعناية أكبر، و أخرى جوهرية، تضرب جوهر السيناريو، و ربما تقتل الفيلم أيضا. لكن قبل الحديث عن ذلك، يجب أن نناقش فكرة الخطإ هنا : فأغلب المتعصبين للماتركس، يعتبرون أن التناقضات المنطقية لها إجاباتها في الأفلام اللاحقة، و في الأعمال الموازية الأخرى و هذا ما يخرجها من دائرة الخطإ. و هو أمر يمكن تفهّمه أحيانا، و يردّ في أحيان أخرى. فالأساس في النقد، هو أن الفيلم عملٌ قائم بذاته، و لا يمكن الحكم له أو عليه انطلاقا من عمل آخر. يمكن أن نقول إن نقطة ما في الفيلم تركت بلا تفسير واضح (مثل عملية التكاثر بين البشر المستعبدين) و هذا لا يحتسب خطأ بقدر ما يحتسب في بعض الأحيان كنقطة ضعف في القصة للتناقض أو اللامنطق الذي تفرضه (يكتفي الماتركس الأول بذكر أن الآلات تربّي البشرَ لتتزوّد منهم بالطاقة اللازمة، في حين أن الطاقة التي يفرزها البشر تضاهي الطاقة التي يستهلكها، ما يجعل من المسألة عبثية. في أعمال موازية، يذكر الأخوان أن المادة المستهلكة هي البشر الذين ماتوا، حيث يتحولون إلى ذلك السائل الذي يتغذى منه البشر، مع ذلك يبدو أن الطاقة المطلوبة لصنع ذلك السائل لم يقرأ لها حساب، ربما في أعمال موزاية للأعمال الموازية!) لكن في أحيان أخرى، نجد أخطاء لا تصلحها التنقيحات و الاجزاء و لو بعد عشرات الأعمال الموازية، خصوصا تلك المقترنة بالسيناريو. سوف نترصد الأخطاء الواضحة منها حتى تتوضح لنا الرؤية.
أولى الأخطاء الشنيعة في الفيلم، هي تلك المتعلقة بالبرغوث المزروع في بطن Neo. يفترض من ذلك البرغوث أن يكون أشبه بجهاز تتبع يقود العملاء إلى مورفيوس. فهل هناك حاجة إلى جهاز كهذا حين نعرف أن العملاء قادرون على تتبع Neo في أي مكان يذهب إليه داخل الماتركس؟ يظهر هذا الخطأ بشكل أكبر في المشهد السابق، أي في مكاتب شركة Metacortex، حيث يبدو أن مورفيوس الذي يمثل دخوله إلى الماتركس نوعا من القرصنة، أكثر دراية بإحداثيات العالقين في المصفوفة (مثل Neo) من العملاء الذين هم داخل الماتركس بصفة رسمية و لهم صلاحيات شبه مطلقة داخلها. مورفيوس من خلال محادثة الهاتف، أثبت أنه لا يعرف خريطة المبنى فحسب، بل يعرف موقع مكتب Neo تماما، بينما كان العميل Smith يسأل عن موقع المكتب و يبحث عنه... حتى لو افترضنا أن البرغوث كانت له مهمّة أخرى (و هو ما لم يتمّ التصريح به، ما يجعل المشهد كلّه غير ذي فائدة على السيناريو) فالمشكلة تظل مطروحة : لماذا لم يتبع العميل Smith تحركات Neo رغم أنهم يعرفون أن مورفيوس سوف يتصل به؟ لقد طال مشهد لقاء Neo برفاق Morpheus تحت الجسر دون أن يتدخل أيٌّ من العملاء، و لم يتبعوهم إلى حيث البيت الآمن، و تمت العملية الطويلة من دون مشاكل.
لو واصلنا مع مشكلة المراقبة، سنجد أخطاء أخرى، مثلا، يخبرُ مورفيوس Neo عبر الهاتف أن الخطّ مراقب، لكنّه يدعوه إلى القدوم عند الجسر. هل تراه يدعو العملاء بصفة غير مباشرة؟ الأغرب أن العملاء لم يأتوا، و ربما هم لم يراقبوا أصلا! ثمّ ما الداعي من لعبة الأرنب الأبيض؟ لو أن الفتاة كانت تبدي كتفها الأيمن، لفسدت اللعبة كلها و لما قابل Neo حبيبته المستقبلية، و لظل يتساءل عن حكاية الأرنب الأبيض التي ظهرت على الشاشة! لكن لنفترض أنّ الأمر من تجلّيات العرافة Oracle، لماذا جلب الفتى إلى ملهى ليليّ و إخباره فقط أنه يجب أن يعرف الحقيقة، و يجب أن يقابل مورفيوس؟ ألم يكن بإمكان مورفيوس أن يخبره بهذا عبر الهاتف مثلما فعل حين حاول تهريبه من عمله؟
بالمناسبة، هناك الكثير ممّا لا نملك إلا افتراض نسبته للعرّافة : ما أرسلته Trinity لـNeo عبر الكمبيوتر و هو نائم، يفترض أنها تعرف بالضبط متى سينهض (و إلا فبرنامج الدردشة الصامت من أيقظه و هذا أقل منطقية بكثير)، و يفترض أنها تعرف بالضبط من ستأتي مع الزبون، و متى، و ماذا تلبس (يجب أن تعرّيَ كتفيها ليظهر الأرنب) و كيف تقف (لو أنها وقفت بطريقة معكوسة لما رآه) باختصار يجب أن تعرف أمرا مستقبليا مستحيل المعرفة إلا على الأوراكل. أيضا من المحال أن يعرف مورفيوس لوحده أنّ Neo حالما يستلم المظروف سوف يفتحه، أو أنه سوف يبقى هناك في المكتب، إلا لو أخبرته العرّافة بذلك مسبقا، أما الأهم، فكيف عرف مورفيوس بأنّ Neo هو الفتى المخلّص؟ أعني أنه مجرد قرصان كمبيوتر يبحث عن حقيقة الماتركس. لو عدنا إلى عدد سكان Zion (أعلم أن أغلبهم ولدوا هناك) فالمفترض أن Neo ليس الوحيد الذي يبحث عن الحقيقة. ربما أخبرته العرافة أن المخلّص إسمه Neo، لكن من أدراه أنه ليس الشخص المطلوب؟ هل هو مجرد حدس؟ إيمان؟ الإيمان يقوم على حدّ أدنى من الحقائق أو المعلومات : يمكن لشخص أن يؤمن بالمسيح، لأنه يعرف عنه قصة إحيائه للميت، و شفائه للأبرص، أو قصة صلبه و عذابه الخ.. فماذا يعرف مورفيوس عن Neo؟ ربما تفاصيل أخرى من عند العرّافة. لماذا تتحدث بكل هذه التفاصيل خارج مشاهد الفيلم، و حين تظهر أمامنا يصبح الإلغاز هوايتها المفضلة؟
في الماتركس محاولات لتفسير بعض الظواهر، مثل ظاهرة "شوهد من قبل" Déjà Vu. لو أنّ أحدا منا عاش هذه التجربة (كانت الظاهرة تربكني كثيرا أيام الطفولة) لعرف قطعا أنّها لا تشبه مطلقا تلك التي عاشها Neo خلال الفيلم. المرء لا يشاهد أمرا مرتين متتابعتين بهذا الشكل، المرء يشاهد شيئا فيشعر كأنه عاشه من قبل، من زمن بعيد. لكن هذا لا يسبب مشاكلا في السيناريو، المشكلة الحقيقية قد نجدها أكثر في ظاهرة تغطية الشمس من قبل البشر، كما أخبرنا مورفيوس، لمنع الآلات من مورد طاقة لا ينضب. هذا يفترض أن هذه الآلات لا تملك القدرة على الطيران، و لا على بناء الأبراج الشاهقة التي ترتفع فوق السحب، لكنّ الصور التي جاءتنا من مدينة الآلات تثبت عكس ذلك تماما. الأكثر ابتذالا سنجده في الجزء الثالث، حينما تعلو مركبة Neo فوق السحب بسهولة تماما لتواجه الشمس. كيف يفترض منّي أن أصدق أن تلك الأخطبوطات الشرسة لا يمكنها ذلك؟ ثمّ كيف يمكن للبشر العيش في بيئة معدومة الشمس؟ من أين سيأتي النبات؟ من أين ستأتي المعادن و البروتينات و الفيتامينات؟
أخيرا، كان موت الشخصيات في الفيلم خاضعا لهوى الكاتبين أكثر من منطق الأشياء. فNeo لا يجب أن يموت قبل المشهد الأخير، و ترينيتي يجب أن تظل بخير، و مورفيوس يجب أن ينقذه Neo، أما Tank فيجب أن يقتل Cypher بعد أن يقتل من يقتل. من أجل ذلك كله، كان إطلاق الرصاص الكثيف و المرعب على الجدار من قبل العملاء، غير كاف لقتل الفريق المختبئ خلفه، و لذلك أيضا، لم يحضر العملاء بالعدد الكافي للإيقاع بفريق من المتمردين يضم أخطر المطلوبين على الإطلاق، و لذلك أيضا، كان وابل الرصاص الجهنّمي الذي أطلقه Neo من المروحية دقيقا إلى درجة استبعاد مورفيوس الذي كان جالسا بجانب العملاء، و لذلك، كان على العميل الذي وجه مسدسه إلى Neo على السطح أن يقول شيئا ما قبل أن يطلق الرصاص، شيئا كفيلا بترك الوقت اللازم لترينيتي لقتله و قول العبارة الشهيرة "Dodge this". و لأنّ حاجة كائنات الذكاء الاصطناعي للتعليق قبل القتل ليست كافيا، فقد أتحفنا المخرجان أيضا بطريقة Cypher الرومانسية جدا : يقتل الأقل أهمية في البناء القصصي مثل سويتش، و يترك ترينيتي و مورفيوس و Neo للنهاية...
يبدو أن الأخطاء أكثر ممّا ذكرت، ما يجعل تقييم الماتركس يحتاج إلى مراجعة صغيرة و تحويله من فيلم مقدس، إلى فيلم متميّز. فمثلما ذكرت سابقا، لا يمكن لفيلم يعجّ بكل هذه الأفكار و الرموز أن يخرج أنيقا، ممتعا، سلسلا، و هذا ما نجح فيه الماتركس. بشيء من المرونة، كان يمكن للفيلم أن يتفادى أغلب الأخطاء التي ذكرت، لذلك و نظرا إلى الجاذبية التي تميّزه، من الصعب التوقف طويلا عند هذه الأخطاء. إنها فقط أخطاء لمحو القداسة، و ليست للحطّ من قيمته. لقد قدم الماتركس سنة 1999 ليساهم في جعلها سنة فارقة في تاريخ السينما. يكفي إلقاء نظرة على ترشيحات جوائز الأوسكار لسنة 2000 لإدراك ذلك. و يمكن بمنتهى البساطة اعتباره أحد أعظم الأعمال المقدّمة في السينما على الإطلاق. فهل كانت لواحقه (Sequels) بمثل جودته؟
1 comment:
Un travail d'analyse magnifique sur un des films les plus important de la décennie 2000. Je ne sais pas si tu comptes pousser cette étude aux deux autres épisodes, mais je partage globalement le même ressenti que toi. J'estime que tout a été dit dans ce premier épisode et que les deux suivantes se perdent dans la continuité du modèle. J'ai découvert qu'avec le temps, il m'est de plus en plus difficile de regarder de nouveau cette trilogie, à cause de toute le pillage et la caricature (volontaire et involontaire) qui en a été fait depuis les 15 dernières années. Mais surtout, à cause du message de Morphéus que je trouve non pas seulement réactionnaire, mais complètement sectaire.
Bravo pour cette série d'articles, c'est toujours un plaisir de te lire :)
Post a Comment