يبدو أن العالم العربيّ في عجزه عن الفصل بين الفنّيّ و الأخلاقيّ، بين الاستيتيقا و الإيتيقا، ليس متفرّدا، و لا يختلف عن العالم الغربيّ إلا في حجم هذا العجز و مدى تأثيره على غربال النقد الفنّيّ. و من المؤكد أن العالم الغربيّ قطع أشواطا منذ قرون عديدة في هذا المجال، إلا أنّ ردود الفعل الشعبية تجاه بعض الأعمال الفنية كثيرا ما تثبت أن الطريق لا يزال طويلا، و أنّ سوء الفهم النابع عن قراءة أخلاقوية للفنّ لا يزال ممارسة كثيفة هناك.
لقد كان هجوم الناقد السينمائيّ الشهير روجر ايبرت على فيلم المخرج الأمريكيّ ستانلي كيوبرك (برتقالةٌ مُمَكْنَنَةٌ) أحد الأمثلة الشهيرة لسوء الفهم المذكور، كما هاجم الصحفيٌّ بنيويورك تايمز "فريد هيشنغر" الفيلم معتبرا إياه احتفاءً بالفاشيّة، حتّى إن كيوبرك المعروف بصمته فيما يتعلّق بأعماله السينمائية لم يجد مناصا من الإجابة. و ربما لم يتحدّث كيوبرك عن عمل من أعماله بقدر حديثه عن هذا الفيلم، كما لم يحدث لفيلم من أفلامه (و جميعا مثير للجدل) أن حظي بالجدل و اللغط الذي أثاره "برتقالة ممكننة". فقد تلقى المخرج رسائل تهديد بالقتل بعد عرض الفيلم، ما اضطرّه لمنع عرض الفيلم في بريطانيا (حيث كان يعيش آنذاك) و ذلك حتى وفاته، و هو ما حدث بالفعل، فأعيد عرض الفيلم في بريطانيا سنة 2000 بعد وفاة المخرج الأمريكيّ بسنة واحدة.
يقول ايبرت في بداية مراجعته التي كتبها سنة 1972 : برتقالةٌ ممكننةٌ هي مجرّد تهافت إيديولوجيّ، أو فانتازيا هوسيّة يمينيّة مجنونة تتخفّى وراء قناع التحذير الأورويليّ (نسبة إلى جورج أورويل و كتابه 1984). فهل كان محقّا في ذلك؟ و إن كان الأمر صحيحا، هل يمكن الحكم على عمل فنّيّ بالسوء أو الجودة انطلاقا من مواقفنا الأخلاقية منه؟
أخرج ستانلي كيوبرك فيلم برتقالة ممكننة (A Clockwork Orange) سنة 1971 حيث عرض في نيويورك لأول مرة، قبل أن يعرض في لندن بشهر، و ذلك سنة 1972. و هو أول فيلم ينجزه بعد تحفته الخالدة عن أوديسا الفضاء سنة 1968. و هو أيضا أكثر أعمال هذا المخرج إخلاصا للكتاب الأصليّ الذي اعتمد عليه. حيث اشتهر كيوبرك بعلاقته المتوتّرة مع الكتّاب الذين أخرج لهم أو تعامل معهم (آرثر كلارك في أوديسا الفضاء 2001، بيتر جورج في الدكتور سترانجلوف، و نابوكوف في فيلم لوليتا). و لذلك كان الكاتب البريطانيّ أنطوني بورجس Anthony Burgess متخوّفا من عرض كيوبرك لإخراج روايته. لكنّه في النهاية كان راضيا، رغم أن الفيلم لم يلتزم تمام الالتزام بالرواية، و كانت لكيوبرك بصمته الخاصة التي ربما جعلت الفيلم و في مرة من المرات النادرة جدا، أكثر ثقلا من الرواية الأصلية…
و لمن لا يعرف الفيلم و لا الرواية، يمكن اختزالها في ما يلي : آلكس مراهق مجرم منحرف يتلقّى علاجا خاصّا لإرغامه على نبذ العنف و الإجرام. و هو اختزال يذهب بالكثير من جمال الرواية القائم أساسا على لغة nadsat التي ابتكرها الكاتب و آلاف التفاصيل التي عبق بها الفيلم ليتجاوز بها فكرة الرواية الرئيسية. حيث حاول بورجس و من بعده كيوبرك أن يبرزا قيمة الاختيار كميزة بشريّة سامية، "البرّ هو ما يكون اختيارا. حين يعجز المرء عن الاختيار، لا يظلُّ إنسانا". لقد كان اختيار الكاتب لشخصية المجرم المفرط في العنف المجاني مهمّة لتبيين ذلك، لأن المسألة لو تعلّقت بشخص "طيّب" لن تثير جدلا بشأنها، لكن ماذا عن مجرم مفرط في عدوانيّته؟ أليس من الجميل ايقاف كل ذلك و إعادته إلى الجادّة و لو رغما عنه؟ أليس رومانسيّا هذا المشهد الذي يكون فيه الناس جميعا طيّبون و لو لم يشاؤوا ذلك؟ هنا تحديدا تكمن روعة الطرح، و هنا أيضا بدأت مشاكل كيوبرك مع منتقديه.
لقد قرّر كيوبرك أن الوسيلة الأفضل لتبيين هذه الفكرة، هي التركيز على الجانب "الشيطانيّ" في شخصيّة آلكس، و إرغام المشاهد على متابعة جرائمه المجانية : اعتدى و رفاقه على مشرّد عجوز، ثم اقتحم منزل كاتب ليتسلّى بضربه و اغتصاب زوجته أمامه، ثم اعتدى على رفيقيه، ثم اقتحم منزل امرأة و قتلها بتمثال اباحيّ. من الطبيعيّ على أيّ مشاهد "سويّ" أن يوافق على اعتبار آلكس شخصا خطيرا يجب إيقافه. هنا تبرز الفكرة التي يعدّها لنا الرجلان : إن الإيقاف لن يغيّر من الأمر شيئا (هذه الفكرة تظهر خصوصا في الرواية حيث يقتل آلكس أحد المساجين) و سيظلّ محافظا على طبيعته العدوانيّ، فماذا لو استعملنا تقنية حديثة تجعل المرء غير قادر على ممارسة العنف، بل تجعله يشعر بالغثيان كلما فكّر في ذلك؟ ألا نعتبر بذلك قد حميناه و قدّمنا له العون؟
لم يتوقّف كيوبرك عند هذا الحدّ، بل إنّه عبر اعتماده على نصّ بورجس الرائع، تمكّن من رسم ملامح الشخصية الشرّيرة الأكثر جاذبية في تاريخ السينما. إن آلكس ليس مجرّد مراهق همجيّ، إنه شخصٌ ذكيّ و جذاب، يجيد فنّ اللباقة، و يقدّر الفنّ الأصيل حيث يمثّل عشقه لبيتهوفن و سنفونيّته التاسعة أحد أعمدة الفيلم، و هو بذلك قادر بسهولة على استمالة المشاهد إليه رغم ما يقترفه من جرائم، و يجعل من الحكم على ما حدث له معقّدا و حرجا، و يجعل أيضا من الفيلم مدعاة إلى سوء الفهم.
يجب التوقّف هنا عند آداء الممثل مالكُلم ماكدوول Malcolm McDowell، فهو لم يرشّح لجائزة الأوسكار عبثا رغم كلّ اللغط و السخط و الغضب. كان ماكدوول يبلغ سبعة و عشرين عاما حينما قدّم الدور، و الحقيقة أنه لم يبدُ مراهقا بقدر ما بدا شابّا صغير السنّ، لكنّه كان مستعدّا تماما الاستعداد لآداء أفضل دور في حياته كما صرّح بذلك بعد سنوات عديدة. كيوبرك نفسه صرّح أنه لو لم يجد ماكدوول، لما أنجز الفيلم. لقد كانت مساهمة ماكدوول و لهجته الانكليزيّة المناسبة تماما لمعجم nadsat (و هو خليط من الانكليزية و الروسية و لهجة الكوكني التي يستعملها المنحرفون في انكلترا) كبيرة في التأثير على اليافعين ممّن شاهدوا الفيلم و حاولوا تقليد جرائمه.
بتأثير من كل ذلك، حدث سوء الفهم المعتاد : هذا المخرج يحتفي بالعنف، يحتفي بالاغتصاب، يحتفي بالشرّ ملقيا باللوم على المجتمع. ما أسهل لوم المجتمع على كلّ الرّذائل التي نقترفها! فهل كان كيوبرك يفعل ذلك؟ لأجيب عن السؤال بشكل جيّد، يجب إعادة قراءة الفيلم عبر مختلف المواضيع التي تناولها، أو تسرّب إليها.
1 ـ السلطة و السياسة
قدّم كيوبرك رؤيتين مختلفتين للسلطة، تظهر الرؤية الأولى في علاقة آلكس بطل الفيلم برفاقه أفراد العصابة، حيث يتحدّى Dim و Pete سلطته و يطالبانه بالتشاور في أخذ القرار (ديمقراطية؟) بل تماديا و قرّرا في غفلة منه أنهما بحاجة إلى مال أكثر، و طالباه بالامتثال للأغلبية لأنها الطريقة الجديدة (النظام الجديد؟). كانت إجابة آلكس جذّابة جدا، و جديرة بإسمه (راجع قصّة الإسكندر المقدونيّ مع العقدة الغوردية). كان يفكّر دون توقف، ثمّ اهتدى إلى أن التفكير لا يجدي، و أنّ الحل الوحيد يكون بالاعتماد على حدسه، على فطرته التي تعرف ما ينبغي أن يفعل، هكذا و من دون مقدّمات هاجم آلكس رفيقيه و ألقاهما في الماء محدثا في يد أحدهما جرحا غائرا.
أما الرؤية الثانية، فتظهر من خلال شخصية وزير الداخلية و معارضيه بزعامة الكاتب الذي آوى آلكس. يمارس كلّ من الشقّين لعبته الناعمة من أجل الإطاحة بالآخر : يعتمد الأول على العلماء لتحقيق إنجاز يتغنّى به الرأي العام (تقنية لودوفيكو و تجربتها على آلكس)، و يدعم حظوظ حزبه في الانتخابات، و يحاول المعارضون ضربه بالاعتماد على المَكَنة الإعلامية التي تجيد التلاعب بالرأي العام، و ما كان من وزير الداخلية إلا عكس الهجوم و الاعتماد على نفس السلاح الإعلاميّ لضربهم مجددا في نهاية الفيلم.
يجب الانتباه إلى هذه المقاربة لأنها مهمّة جدا، و لأن المخرج تعمّدها منذ المشهد الأول، حيث تظهر لنا حانة كوروفا للألبان (Korova Milkbar) في شكل هرميّ في قمّتها آلكس و رفاقه، ثمّ نجد يمينا عصابة بيلي بوي Billy Boy النازيّ (بما أنها يمينيّة) و فرقة من الهيبيّين يسارا في إشارة واضحة إلى شقيّ السلطة التقليديّين. الحقيقة أنّ المشهد الأول حافل بالإشارات و غنيّ بالأفكار، لكنّ ما يهمّنا منه، هو الإشارة الواضحة إلى مسألة السلطة. إن آلكس و جماعته يمثّلون السلطة في شكلها العتيق، شكلها الأرستقراطيّ القائم على الغلبة، و القهر، و السيطرة. لا يوجد نفاق و لا توجد مراوغة، بل مواجهة حقيقية سلاحها العنف، و ضحيتها الخاسر. و بنفس الشكل، كانت مواجهة آلكس ضد رفاقه. يجب ملاحظة أمرين هنا : كافّة عصابة آلكس تحمل أسماء قياصرة روس، و لو عدنا إلى المرّات التي سبح خلالها آلكس في رغائب مخيّلته، لوجدناه في كلّ مرّة يعود رومانيّا مهوسا بالعنف و الجنس، إنها تلك الصّورة النيتشيّة "الرومانسية" لروما القويّة في مقابل تلك الصورة المريضة و المختلّة لسلطة الدول الحديثة : حكومة تنسج الحبال للمعارضة، معارضة تنسج الحبال للحكومة، مؤامرات، كذب، دسائس، نفاق، و الجرائم تأخذ طابعا أكثر جديّة. ففي صراع آلكس على السلطة، لم يصب أحد بسوء تقريبا، بل إنه أنقذ فتاة من الاغتصاب على يد عصابة بيلي بوي. أما في صراع وزير الداخلية مع المعارضة، كاد آلكس أن يلقى حتفه، عدا العذاب الجهنميّ الذي تعرّض له. كل ذلك يحدث من خلف لباس أنيق و ابتسامة وديعة، تلك هي الوحشية الناعمة للعصر الحديث!
2 ـ العائلة
لئن كان كيوبرك صريحا في إظهار مسؤولية السلطة في محنة آلكس، و السلطة بصفة عامة في ما آل إليه أمره، فإنّ موقفه من العائلة كان أقل وضوحا بكثير، لكنّ هذا التغافل هو ما يخدم فكرة كيوبرك بالأساس. لقد بدا والدا آلكس، أكثر أهل الأرض وداعة و مسالمة، تأتي أمّه صباحا لتطرق بابه و تعلمه بضرورة ذهابه إلى المدرسة، يعلمها أنه ذاهب مساء لأنه مريض، فتذهب للعمل و قد أرضت ضميرها. إن أي شخص يتوقّف قليلا عند هذا المشهد، يدرك حجم المسؤولية التي يلقيها كيوبرك في وجه الوالدين. غائبان تماما و قد أخذ العمل كلّ وقتيهما كما يقضي النظام الاقتصاديّ العالميّ، تاركين ولدا وحيدا في مواجهة العالم. في غياب الوالدين، يجد آلكس نفسه مع المرشد الاجتماعيّ المسؤول عن حالته، إنه أشبه بالمربّي الذي يذكّر آلكس بواجباته تجاه المدرسة و يحذّره من مغبة الانحراف بسلوكه، أو هذا ما يبدو للمشاهد العاديّ. أما ما يريد كيوبرك أن نراه، فهو بعض التفاصيل المهمة و المحيطة باللقاء : أمه سلّمت المفتاح للمرشد، المحادثة تمت في غرفة نوم الوالدين، آلكس كان شبه عار تقريبا، التصاق المرشد به و ضربه له على خصيتيه، تماثيل النساء من الخلف على شكل ديكور حانة كوروفا للألبان… كلّ ذلك يؤكّد استغلاله الجنسيّ في غياب الوالدين، إن آلكس لم ينشأ عدوانيّا، لقد تكيّف من المهد لذلك!
تخبرنا الصورة أن الوالدين يدفعان ثمن أفعال ابنهما، لكن الحقيقة عكس ذلك، و عندما يعود آلكس من معتقله الرهيب، يجد والديه قد تخلّصا من كل أغراضه لتسديد ديونه تجاه الضحايا، كأن معزّة ابنهما لا تستحق أن يضحّيا قليلا للاحتفاظ بشيء ما منه، وحشيتهما الناعمة، ذهبت بالأفعى في حادث اصطدام عفويّ، تماما كحادث الاصطدام الذي فسّر به آلكس قتله للسيدة التي تعيش مع القطط. و بنفس الوحشية، أخبراه عن استحالة استقباله عندهما، لأنهما لا يقدران على إخراج المستأجر الجديد الذي أخذ مكانه في البيت. قالا ذلك و سكبا الدموع كأنّهما الضحية. و هو ما لعب عليه كيوبرك : الظاهر و الباطن.
3 ـ الدين
هذا الباب هو الأكثر غموضا و إرباكا في الفيلم. لقد كتب أنطوني بورجس روايته بخلفية مسيحيّة واضحة. يكفي أن نعرف أن الرجل استلهم فكرة الرواية انطلاقا ممّا عاشه من أحداث أليمة إثر اعتداء عصابة من المنحرفين على زوجته في منزله تسبب في إجهاضها. لذلك نجد المشهد يتكرر تقريبا في الرواية، حيث يهاجم آلكس بيت كاتب (البيت الذي سماه بورجس عمدا Home) و يقطّع مسودّة روايته المعنونة "برتقالة ممكننة" و يعتدي بالفاحشة على زوجته أمامه. لقد تعامل الكاتب مع ما حصل له بأخلاق مسيحية واضحة تقضي بالعفو و مجابهة الكراهية بالحب و المغفرة، و عوض أن يهاجم الرجلُ آلكس في كتابه، اعتبره ضحية مجتمعه، و استفاد من وحشيته ليدلّ على قيمة حرية الاختيار كما أشرت آنفا. كما نجد في الرواية قسّ السجن كصوت وحيد للحكمة و للإنسانية، و هو الذي اعترض على تعريض آلكس للتجربة الرهيبة. إن حق الإنسان في الاختيار هي فكرة دينيّة جوهرية، فهل حافظ كيوبرك على نفس التمشي؟
المؤكد أن القسّ ظل بالفعل صوتا للعقل و الحكمة، و هو الذي استمع إلى آلكس و حاول مساعدته، و لكن وراء القسّ توجد المسيحيّة كما صوّرها كيوبرك، و هي ليست صورة لطيفة بالمرّة. لقد سخر كيوبرك من جلسة الوعظ، و جعل القسّ يبدو في موقف هزليّ مثير للسخرية و لم تبد كلماته ذات تأثير يذكر. كما بدا من خلال النشيد الذي ردّده المساجين في نهاية الجلسة، دور الدين الرئيسيّ في "التحكم" في الشعوب و "تأطيرهم" بما يوافق إرادة أعلى من إرادتهم. "لم أكن أحبّ ضعاف الحال، لم أكن أحب صوت رعاتي، لم أكن أحب أن يتحكموا بي…" هكذا يقول النشيد، و هكذا يجب أن يغنيه المساجين تحت إرغام مأمور السجن ذي الشارب الهتلريّ. و يجب التذكير هنا أن النشيد تغيّر في الفيلم و لم يكن ذاك الذي أشار إليه بورجس في الرواية. و لكنّ كيوبرك يذهب إلى أبعد من ذلك.
في المشهد الموالي، نجد آلكس يقرأ "الكتاب الكبير" بنهم. ماذا حدث له؟ هل تعرّف على خطاياه؟ على العكس تماما، لقد تعرّف ربما على خطايا المسيحيّة كما نظر إليها كيوبرك. آلكس، يستمتع بلحظات الوحشية التي يحدثّنا عنها الكتاب المقدس، يجد أن الكتاب يناسب رغباته الساديّة تماما، إن آلكس لا يتمنى أن يكون المسيح المخلّص، بل يريد أن يكون الرومانيّ الجلاد. أليس هذا الرومانيّ جزءا من خلاص المسيح؟
لقد ظهر المسيح أكثر من مرة في الفيلم، و بصورة مريعة ربما، فهو إما رازخ تحت سياط الجلاد الرومانيّ، و إما يرقص مصلوبا على أنغام موسيقى بيتهوفن. إن كيوبرك يعتبر الثقافة الرومانيّة المسيحيّة التي قامت عليها الحضارة الأوروبية، ترتكز إلى حدّ ما على الانتشاء بعذابات المسيح. و هو ما يبدو أن المخرج يعتبره انحرافا في حدّ ذاته لا يمكن أن يُصلِح مجتمعا.
لقد أبدى كيوبرك اِعجابه بشخصية القسّ و اعتبره صوت النزاهة و الإنسانية في الفيلم، لكنّه مع ذلك لم ينزّه مؤسسة الكنيسة تماما، و اعتبرها جزءا من النظام، إنها أداة أخرى من أدوات القمع و سلب الحريّة و إن ادّعت حقّ الإنسان في الحريّة كما أراد لها كاتبها.
4 ـ العلم :
يقدّم الفيلم دائما على أنه فيلم خيال علميّ، و الحقيقة أنه عدا طابعه المستقبلي (على مستوى الديكور خصوصا و بعض الأدوات المستعملة) فمن الصعب ربما اعتباره فيلم خيال علميّ، لكنّ تجربة لودوفيكو هي ما يدخل الفيلم في هذا التصنيف. تقوم التجربة على مبدأ بافلوف الشهير المتعلّق بالعلاقة الناشئة بين الفعل و ردّ الفعل. يتلقى آلكس جرعات من مادة تسبّب له وهنا و شعورا بالغثيان، و يتزامن هذا الشعور مع مشاهد العنف و الجنس التي يُرغم على مشاهدتها (في مشهد سينمائيّ خالد) ما يجعله يربط بصورة لا واعية بين العنف و الشعور بالغثيان. الحقيقة أن كيوبرك لا يبدو شديد الاقتناع بنجاعة التقنية كما سنرى لاحقا، لكنّ التقنية تقدّم مساحة مهمّة لتناول العلاقة الشائكة بين الدين و الأخلاق.
يظهر العلماء و الدكاترة في قالب شيطانيّ بارد، و بعبارة استباقية : في قالب ميكانيكيّ. كلّ همّهم إرضاء الحاكم، و إنجاح تجاربهم دون طرح التساؤل الإيتيقيّ اللازم. و حتّى خطابهم التبريريّ لآلكس، كان دوما يأخذ شكلا ميكانيكيّا شأن من يكرّر ما تلقاه. كيوبرك يدخل العلماء في دائرة الاتهام، فهم المسؤولون عن آلات الحرب التي يشاهدها آلكس، و هم المسؤولون عن صنع أدوات العنف عموما. رغم ذلك فهم يبدون متأنقين، أصحاب علم و هيبة، و يفعلون ما يحمي المجتمع. إنها ثنائية الظاهر و الباطن التي يبنيها كيوبرك رويدا رويدا.
5 ـ الإعلام:
يظهر الإعلام أساسا من خلال الصحف، حيث تظهر لنا كوسيلة إخبار في ظاهرها، و كوسيلة تلاعب و تحكم بالرأي العام في باطنها. لقد أخبرت الجريدة عن آلكس، و فعرف أبواه جرائمه و صدّقا ما قيل فيها، و قرّرا قطع علاقتهما به بكل وحشية (رغم الدموع التي أبدياها)، فالإعلام قادر على التفريق بين الولد و أمّه. و الإعلام، هو أيضا من أخبر الكاتب بقصّة آلكس الذي وجده أمام منزله، و أوحى له باستغلاله سياسيّا. و الإعلام هو الذي أخبر العجوز المشرّد و الشرطيّين (صديقاه السابقين) عن حالته التي تجعله غير قادر على الدفاع عن نفسه، ما سمح لهم بالاعتداء عليه. و بعبارة أخرى فالإعلام في مرحلة أولى كان وراء محنته. لكنّ الإعلام أيضا، هو الذي أعاد إليه أبويه بعدما عرفا ما حدث له من مآس، و هو أيضا ما كاد يذهب بمستقبل الوزير السياسيّ، و ما أعاده للأضواء في ما بعد. إن الإعلام هو السلاح الشيطانيّ في النظام العالميّ الجديد، حيث يمكنك أن تحطّم شخصا من دون أن تمتدّ يدك إليه. إن كيوبرك ينبّه إلى هذا الأمر، و يشدّد إلى أنه عنف يفوق شيطانية و وحشية بمراحل ما كان يفعله آلكس من عنف بدائيّ.
6 ـ الجنس:
يظهر لنا الجنس من خلال آلكس، فجّا، لا إنسانيّا، أقرب إلى العنف منه إلى الجنس. لكنّ يبدو أن كيوبرك مرة أخرى يعتمد على الظاهر و الباطن ليثبت لنا أنّنا لا نقيّم الأشياء بصورة دقيقة. يصوّر الفيلمُ آلكس فتى منتشيا بفحولته، من خلال كؤوس الحليب المزيدة، و من خلال مشهد المضاجعة مع فتاتين، حيث صوّره كيوبرك بطريقة ساخرة على أنغام افتتاحية وليم تلّ الشهيرة. فهل كان بذلك منحرفا جنسيا؟ كلاّ، لكنّه أقدم على اغتصاب زوجة الكاتب ( و أنقذ فتاة من الاغتصاب على أيدي عصابة بيلي بوي) و هي النقطة التي ستعود بنا إلى ما خفيَ من علاقة آلكس بالجنس.
لقد أشرنا إلى مشهد المرشد و آلكس في غرفة نوم أبويه، و ما يعنيه ذلك من تعرّضه للتحرش و ربّما الاغتصاب صغيرا، لكنّ التحرّش بآلكس لم يقف عند هذا الحدّ. ففي السنّ كان عرضة للتحرّش، و لئن أشار أنطوني بورجس في الرواية إلى ذلك صراحة، فإنّ كيوبرك صوّر ذلك بطريقة ذكية، حيث نرى في مشهد الجلسة الوعظية، أحد المساجين الذين يرسلون القبل لآلكس، قبل أن نجده واقفا خلف آلكس في ساحة السجن حينما قدم وزير الداخلية.
كما نجد إشارات خفية في منزل صاحبة القطط، تشير إلى بشكل أو آخر إلى أمّه. إن علاقة آلكس بأمه لا تبدو على ما يرام. لا ننسى أنها من أعطى المرشد مفتاح الشقة ليلتقي بآلكس في غرفة نومها. تلبس سيّدة القطط باروكة حمراء شبيهة بتلك التي تلبسها أمّ آلكس، و تضع في كامل الغرفة لوحات إباحية صارخة (سنعود إلى اللوحات حينما نتحدث عن الفنّ) إحداها تشير إلى امرأة شقراء في وضع مثير، عارية إلا من حذاء أحمر و تسحق رجلا يلبس الأبيض على سقف الحجرة، سنجد فيما بعد أمّ آلكس بذات الحذاء الأحمر و الشعر الأشقر، تبكي في حرقة بعدما عاد ابنها من السجن ليزيد من عذاباتها. و حينما ضرب آلكس تلك سيدة القطط بالتمثال الضخم، تفادى كيوبرك صورة الارتطام البشعة، بمشهد اللوحة التشكيلية التي تمثل أفواها نسائية. مرّة أخرى، يذكّرنا هذا بالفم الصناعيّ المغرق في كأس من الماء في حجرة نوم آلكس. لا أحد يشكّك في هوية صاحب الفم، كما لا أحد يشكّ في ما يعنيه أن يرتشف المرشد من ذلك الكأس في استمتاع.
لقد صوّر كيوبرك عبر الجريمة، انتقامه من أمّه، لكنّه أيضا لم يبرّر له فعله. إن ما أراده كيوبرك مثلما فعل في كامل أطوار الفيلم هو التنبيه إلى أن الظاهر الذي يجب أن يدان، لا يجب أن يغفلنا عن الباطن الأكثر وحشية و الأكثر انحرافا و ان اتّخذ شكلا ناعما. يهاجم المخرج من خلال علاقة آلكس بالجنس، الرؤية الجنسية المنحرفة لهذا العالم الجديد. و ربّما لو ذهبنا أكثر، لقلنا إنّه أيضا يهاجم النسويّة أو يسخر منها في شخص سيدة القطط. فنحن نعلم رمزية القطط، مثلما نعلم دعوة الحركات النسوية للمساواة الجنسية (اللوحات التشكيلية في منزلها)، كما يمكن استنتاج ذلك من خلال تماثيل اللبؤات في خلفية المنزل، و التي يمكن أن تمثّل ليليث الشهيرة.
7 ـ الفن:
الحديث عن تصوّر كيوبرك للفن من خلال هذا الفيلم، مسألة شائكة حقا. إن أحد الأعمدة الفقرية للقصة، هي حبّ آلكس لموسيقى بيتهوفن. في الرواية نجد آلكس متيّما بالموسيقى الكلاسيكيّة في عمومها، و ما ينتج عن ذلك من لفظ للموسيقى الحديثة. لكن يبدو أن كيوبرك لا يذهب هذا المذهب كثيرا. فهو بشكل أو بآخر يحتفي بالموسيقى الحديثة، من خلال مزج الموسيقى الكلاسيكيّة بالموسيقى الالكترونية مثلما ظهر في موسيقى الافتتاح (جنازة الملكة ماري). في الآن نفسه، قد يكون في مشهد مغازلة الفتاتين في متجر بيع الأشرطة الموسيقيّة إشارة إلى احتقار كيوبرك إلى الذوق الفنيّ العام. إن هذا العالم صار يفتقر إلى الذوق، نلحظ هنا تقنية التوازي التي حدثت بين تمتّع الفتاتين بمثلجات ذات شكل قضيبيّ و ذوقهما الموسيقيّ الفج الذي قد يمثّله المتجر، في مقابل توازي تمتّعهما بمضاجعة آلكس و الاستمتاع بموسيقى بيتهوفن. هناك أيضا تناقض بين لباس الفتاتين الهيبيّ و لباس آلكس ذي الطابع الباروكي القديم. يمثل آلكس الفنّ القديم الأصيل، في مقابل عالم يفتقر إلى الذوق، في مقابل فنّ مفرغ تماما.
تظهر قيمة الفنّ في الفيلم، كفضيلة لا تقبل النقاش، اعتمد عليها الكاتب و المخرج لإرباك القارئ/المشاهد بشأن الحكم على ما حدث لآلكس. لم يخسر آلكس ملكة السمع، أو القدرة على المشي، حيث يمكن أن يعتبرها المتلقّي نوعا من العقاب العادل، لكنّه خسر حقّه في التمتّع بالفنّ، خسر أصالته. يدفعنا ذلك إلى التفكير في علاقة "الشرّ" بالفنّ. فهل الفنّ نتاج الخير فحسب؟ هل يمكن أن ننتج فنّا من دون شرّ؟ ألا يعدّ الشر حينئذ ضروريا؟ و هل نحن مستعدون لخسران الفنّ من أجل القضاء على الشرّ فينا؟ لقد قال الدكتور برانون الشيء نفسه حينما أدرك خسارة آلكس : إنه العقاب الذي يجب أن يناله. و لكم بدا شيطانيّا في قوله ذاك.
إن العلاقة التي أرساها كيوبرك من خلال الأفلام القصيرة التي مرت أمام أعين آلكس المكبّلة بين النازيّة و بيتهوفن مهمّة جدا. ففيها إشارة واضحة إلى ألمانيا التي أنتجت كلي الطرفين. بل إن هتلر نفسه كان من أشد المغرمين بالموسيقى. فهل يمكننا الفصل بين عناصر خليط متجانس مثل الطبيعة البشرية؟
في مشهد آخر، يبرز كيوبرك هذا الصراع بين الفنّ الكلاسيكيّ و الفن المعاصر، حيث كان آلكس يهزأ من تمثال القضيب الذكريّ المنتصب في منزل سيّدة القطط، بينما بادرت هي بالهجوم عليه باستعمال تمثال بيتهوفن. لقد كانت الجريمة تتعلق أساسا بقتل الفنّ المعاصر!
يبدو أن كيوبرك يعتبر الفنّ الحديث شريكا في جريمة تكييف الإنسان وفق النظام الجديد، و لو توغّلنا في هذه الفكرة، لوجدنا أن السينما كانت من بين الأدوات التي استعملت لهذا الغرض. لا ننسى أن تقنية لودوفيكو تقوم أساسا على الصورة. و لقد علّق آلكس (حتى في الكتاب) على تأثير الصورة بشكل بليغ جدا : "لقد كان الفيلم الأول قطعة سينمائية رائعة كتلك التي تصنعها هوليود، كانت الأصوات مريعة حتّى كأنك تحسبها حقيقية… كم هو طريف أن تكتشف أن لون الدماء لا يغدو حقيقيا إلا حين تراه على الشاشة"!
و مع معرفتنا لعلاقة كيوبرك بأستوديوهات هوليود، يمكن أن يتوضّح لنا تحذيره المقنّع. لكنّ المثير للسخرية، أن فيلمه الذي يحذّر فيه من التأثير السلبيّ للسينما، تسبّب في حدوث الجرائم. حيث سجلت بريطانيا حالة اغتصاب أقدم عليها مراهق مقنّع في زيّ أبيض و لا ينفكّ يغنّي مثل آلكس (الغناء تحت المطر)، كما اقتحم بعض المنحرفين منزلا لنهبه مستعملين ذات الأقنعة التي استعملها آلكس.
فهل كان كيوبرك مساهما في هذه الجرائم أم محذّرا منها بعد فوات الأوان؟
يقول كيوبرك إن الإنسان العدوانيّ، لا يحتاج إلى مؤثرات خارجية ليفعل ذلك، و إنه لا يؤمن بتأثير تلك العوامل عليه، أي بعبارة أخرى، يدين آلكس بوصفه المسؤول الأول عن جرائمه، و لكنّ ذلك يتعارض مع ما تضمّنه الفيلم من إدانة للسياق الذي صنع آلكس.
إن إشارات كيوبرك واضحة بخصوص ذلك، و لا يمكن التغافل عنها، حتّى أولئك الذين سخطوا على الفيلم، لم يسيئوا تأويلها بقدر ما أساؤوا فهمها. الموازاة واضحة تماما بخصوص ضحايا آلكس الذين تحوّلوا بعد أن صار عاجزا، إلى معتدين. فقد اعتدى عليه المتسوّل الذي ضربه في بادئ الفيلم، و لم يخلّصه إلا صديقاه اللّذين أصبحا شرطيّين. إنهما ديم و جورجي اللذين اعتدى عليهما بإلقائهما في الماء، و قد حانت لحظة انتقامهما. أغرقاه في مشهد لا ينسى و أشبعاه ضربا. يجد نفسه تحت رحمة الكاتب المقعد الذي اعتدى عليه سابقا. الكاتب أيضا يمارس انتقامه الفظيع.
هذه الصورة التناظرية التي حوّلت آلكس من معتدٍ إلى ضحية، يفترض منها أن تفضي إلى استنتاج بسيط : العقاب الإلهي، أو انتقام الأقدار، الذي وضع آلكس أمام ضحاياه. فالترتيب الزمنيّ يفترض أن البادئ أظلم. فما الذي يحملنا على التفكير بشكل معاكس؟ لماذا نفترض أن آلكس لم يكن البادئ؟
الحقيقة أن آلكس ليس ضحية أبدا، و لم يبحث كيوبرك أن يجعله ضحية، بل هو صناعة، إنتاج حضاريّ لزمن البرتقالة الممكننة. و إنّ هذا المجتمع مجبل على العنف، بشكل أو بآخر. لقد كان آلكس ضحيّة ضحاياه حتّى لو لم يحدث اعتداؤه عليهم. فكيف ذلك؟
هناك مشهد لا معنى له تقريبا في الفيلم، مشهد لا يمكن أن يضيف أي شيء لفيلم طوله ساعتان و ربع تقريبا، و هنا أعني مشهد وقوف آلكس عند ضفاف التايمز. حيث نرى آلكس ينظر إلى أعلى في شرود، و في المشهد المقابل، تبدو مياه التايمز تغمر أغلب حلقات أعمدة الجسر الشهير، ثم تعود الصورة إلى آلكس، لنجده بالهيئة نفسها، لكنّه ينظر إلى أسفل، إلى ماذا ينظر؟ تعود الصورة مرة أخرى إلى النهر و تتوغل فيه، لا نلحظ أي شيء يذكر سوى أن حلقات الجسر التي كانت مغمورة قد كشفت، ما يعني نضوب الماء من التايمز. في اللقطة الموالية يظهر المتسوّل و نلحظ من خلفه عودة مستوى المياه إلى حالتها الأولى. ماذا يعنيه هذا؟ و ماذا يريد كيوبرك من وراء هذه اللقطة؟ الحقيقة أنني لم أجد لها سوى معنى واحد : التدليل على طول الفترة الزمنية الفاصلة بين خروجه من السجن، و بداية انتقام ضحاياه. إذ يبدو أن كيوبرك يريد أن يركز على طبيعة الإنسان العدوانية الشريرة التي تأبى أن تنسى أو تضع فكرة الانتقام جانبا. لقد كان آلكس في لقائه الثاني بالمتسوّل مختلفا، و عبر عن روح بارّة بصدقته التي أغدقها على المتسوّل، لكنّ العجوز نسي ذلك تماما إذ تعرّف على آلكس. تجاوزت عدوانيّته الزمن و السياق و أصرّت على الظهور. و هو أيضا ما ظهر في تصّرف صديقيه ديم و جورجي. ألم يحصلا بالفعل على انتقامهما بالتسبب في زجّه بالسجن؟ لكن ربما أخذهما بعين الاعتبار فهما رفيقاه في العنف. فماذا عن الكاتب؟ لقد كان يخطّط لاستغلال الفتى قبل تعرّفه عليه. لقد كان فعلا يريد له الشرّ سواء فعل ما فعل أم لم يفعل. أما والداه فلقد تحدثت بالفعل عن دورهما الرئيسية في صنعه.
إن آلكس هو التمظهر البسيط للعنف الخفيّ الذي يشكل المجتمع، هو الصورة الفجة للشر الكامن في الإنسان الذي هو نحن. آلكس هو ذلك الشكل البدائيّ للاوعي، و ما تقنية لودوفيكو إلا طريقة لتكييفه، لجعله في صورة متحضّرة، إن البرتقالة الممكننة التي يحدّثنا الفيلم عنها، ليست آلكس، بل كل ما حوله، بينما آلكس هو التعبيرة المتمرّدة عليها!
حينما سئل بورجس عن مصدر العنوان، أكد أن العبارة معروفة في لهجة الslang الدارجة عند المنحرفين و الصعاليك في انكلترا. لكن اللغويين يؤكدون على عدم وجود العبارة، و ما يفيد معنى الكائن الحيّ الذي يتصرّف بطريقة ميكانيكية، هو عبارة الثمرة الممكننة. فلماذا استعمل الكاتب كلمة برتقالة؟ يقول بعض الباحثين، إن الكاتب بحكم عمله في القوات البريطانية بماليزية، يعرف كلمة Orang الماليزية و التي تعني إنسان. و هذا يعني أن البرتقالة الممكننة في حقيقة الأمر إحالة مباشرة على الإنسان الممكنن.
من الدارج في النصوص العربية، و أيضا في بعض اللغات الأخرى مثل الإيطالية و الفرنسية، اعتماد عبارة "البرتقالة الميكانيكية" و هي عبارة لم يستسغها الكاتب لأنها توحي بآلة تأخذ شكل الكائن الحيّ في حين يريد الكاتب عكس ذلك المعنى.
و الإنسان الممكنن المكنّى بالبرتقالة، لم يكن آلكس في الرواية، و هو ما فهمه كيوبرك، فأشار إليه بطريقة ذكية جدا. يجب أن نعود إلى مشاهد كثيرة لملاحظة ذلك : مشهد الدكتورة برانون و هي تحادث آلكس، حيث كانت تلبس ربطة عنق برتقالية. مشهد عودة آلكس إلى منزل أبويه، حيث كان والده يلبس قميصا و ربطة عنق برتقاليين، مشهد العجوز المتسول و هو يسأله صدقة عند نهر التايمز، حيث كان يلبس دثار عنق برتقاليا. مشهد لجوئه إلى منزل الكاتب، حيث كان الكاتب يلبس منامة برتقالية. مشهد والديه و هما يزورانه في المستشفى حيث تبلس أمه معطفا برتقاليا داكنا. مشهد الطبيبة النفسانية الدكتورة تايلور و هي تتأكد من عودته إلى ما كان عليه، حيث تلبس فستانا يطغى على اللون البرتقالي. و أخيرا مشهد وزير الداخلية و هو يطعم آلكس أكاذيبه، كان يرتدي قميصا و ربطة عنق أصفرين يقربان من اللون البرتقالي. و المؤكد أن هذه الأمور لا تحدث في سينما ستانلي كيوبرك بمحض الصدفة. فإدانة كيوبرك لما يسميه بالطريقة الجديدة أو ما نعرفه بالنظام الجديد واضحة، و ما حدث لآلكس بعد خروجه من السجن، حتى وصوله إلى المستشفى و تلقّيه الأكاذيب من وزير الداخلية في مشهد لا ينسى هي تقنية لودوفيكو الحقيقيّة، و ليست تلك التي أجريت عليه في السجن. لقد تمّ تدجين آلكس، و تمّ ترويض حالة العنف فيه، لتنتقل من مستوى الظاهر إلى الباطن، و من التمرّد إلى التنظّم وفق أهواء المجتمع، و هو ما توحي به اللقطة الأخيرة، التي يظهر فيها مضاجعا امرأة وسط تصفيق الحضور.
إن كيوبرك لا يبرّر للعنف، و لكن ينبّه إلى تلك المستويات التي لا نراها منه، و لكنّها تحدث من حولنا كلّ يوم، بل إننا نمارسها بشكل غير واع بسبب نظام عالميّ صارم يحوّل الإنسان إلى برتقالة ممكننة.
برتقالةٌ ممكننة، فيلم مفرط في العنف و الجنس، ليس لغاية الاستمتاع بالعنف و الجنس، و إنما لغاية تعرية اللاوعي البشريّ الذي يجد متعة في العنف بقدر ما يجدها في الجنس. و لغاية تعرية عناصر النظام العالمي الجديد كما يراه ستانلي كيوبرك، مفرغا من الجمال، ممعنا في الوحشية، حتى و إن تظاهر بغير ذلك. قد نختلف مع كيوبرك و قد نتبنّى موقفه. لكننا على أية حال، لا يمكن أن ننكر الزخم الابداعيّ الذي يمثّله هذا الفيلم. و لا يمكن أن ننكر الجانب الجماليّ الهائل في المبنى و في المعنى. و رغم كون مشاهده العديدة مثقلّة بالإشارات و الأفكار فإنّ ذلك لا يضيّق على المشاهد بقدر ما يصنع له فضاء رحبا للخيال، و كذلك الفنّ الرفيع.
No comments:
Post a Comment