Tuesday, September 5, 2017

تحفة تارنتينو التي ليست له


في الوقت الذي كانت فيه أغلفة المجلات السينمائيّة محتفية بمشاهد فيلم دنكرك Dunkirk، فاجأنا إدغار رايت Edgar Wright (صاحب فيلم Hot Fuzz وShaun of the Dead) بكوميديا رومنسيّة طريفة بعنوان بايبي درايفر أو السائق بايبي Baby Driver. ودون الدخول في مقارنات غير مجدية، أعتقد أنّه كان أفضل أعمال الصائفة المنقضية.

حين تشاهد فيلم بايبي درايفر فكأنّك تشاهد أفلاما كثيرة في الآن ذاته. في بداية العرض، يطالعك شاب غامض الملامح، خلف مقود سيارة سوبارو Subaru يوحي كلّ شيء فيها أنّها جاهزة لغزو الطريق، ثمّ تطالعك ملامح رفاقه الثلاثة، وهم يخرجون من العربة نحو البنك المواجه، فلا تحتاج إلى اجتهاد كبير لتعرف أنّك أمام أحد أفلام السرقة Heist Movies.
هناك الكثير منها، هناك تلك التي تتميّز بالهدوء، والمقاطع الحواريّة الكثيرة، والنهاية المخادعة plot twist. أعتقد أنّ فيلم اللدغة The Sting لبول نيومان Paul Newman وروبرت ردفورد Robert Redford من أشهرها. وهناك تلك التي تركّز أكثر على الأكشن، كفيلم سرقة السيّارات "رحل في 60 ثانية" Gone in 60 seconds. وهناك تلك التي تجمع بين كليهما، مثل رائعة ستانلي كيوبرك Stanley Kubrick "القتل" The Killing أو تحفة سبايك لي Spike Lee "عميل داخليّ" Inside man. ثمّ هناك تلك الأفلام التي لا تهتمّ بتفاصيل العملية بقدر اهتمامها بكلّ ما يحيط بها (الأشخاص، النتائج، الخ). إنّ السرقة نفسها تصبح فيها سياقا لا أكثر، وهي في العادة تروي عمليّة سطو فاشلة. أبرز نماذج هذا النوع هو فاتحة أعمال فتى هوليود الذهبيّ كوينتن تارنتينو Quentin Tarantino، مستودع الكلاب Reservoir Dogs. لذلك، فلو أنّ Baby Driver فيلم سرقة، فهو حتما فيلم سرقة من هذا النوع.



سنتذكر مستودع الكلاب خصوصا في تلك المشاهد التي تحدث عند مخزن الدكتور Doc الذي أدّى دوره النجم كيفن سبايسي Kevin Spacey. حيث يجمع أعضاءَ العصابة الذين يحملون أسماء مستعارة سخيفة، وطبائع طريفة مضحكة ووشوما مثيرة للغثيان، ثمّ يشرح لهم تفاصيل الخطّة المزمع تنفيذها ويوزّع الأدوار. وسنتذكر مستودع الكلاب حينما نرى جثّة دجاي-دي JD (أحد أفراد العصابة) في مرآب السيّارة، فنحن نعرف أنّه مكان تارنتينو المفضّل. ثمّ إنّنا سنذكره مع أغلب مشاهد الحركة حين يحتفي إدغار رايت Edgar Wright بالعنف ويصنع منه إستطيقاه الخاصّة، ونحن سنذكره حين لا تعمل خطّة الدكتور كما يُفترض وينقلب أفراد العصابة بعضهم على بعض، وتسود الفوضى.
من الصعب أن تُخطئ العين حضور تارنتينو في هذا العمل المهوس بنفسه، المنكمش على أسلوبه. تخبرنا لقطته الأولى أنّنا أمام عمل سينمائيّ يذكّرنا في كلّ لحظة أنّه فيلمٌ سينمائيٌّ، وأنّه لا يحاول بأيّ شكل أن يوهمنا بأنّه قطعة من الواقع. لا شيء واقعيٌّ هنا، لا سائق العصابة الذي يعمل بالموسيقى في أحلك الظروف وأصعبها، ولا المجرمة الخطيرة التي تقتحم البنك كما يقتحم النجوم افتتاحيّات المهرجانات العالمية، ولا ذلك الخروج الموقّع من السيّارة على أنغام تحفة جون سبنسر Jon Spencer Blues Explosion المسمّاة Bellbottoms. لا شيء حقيقيّ في كلّ هذا المشهد، ولهذا تزداد دهشتُنا وتتضاعف حين نتابع لقطة المطاردة الرهيبة بأنفاس منقطعة، فرغم أنّ كل شيء يوحي بالخيال، تبدو المطاردة واقعية جدا! لكنّ لحظة حضور تارنتينو الكبرى، تأتي عند نهاية هذا المشهد، إذ تتغيّر الموسيقى إلى طابع الـRythme & Blues، ويظهر الأصفر المشبع بالأحمر ليملأ عنوانُ الفيلم كامل الصورة. ذلك توقيع تارنتينو الذي عُرف به في كلّ أعماله. لكنّ إدغار رايت Edgar Wright لا يكتفي بالأخذ من صاحب مستودع الكلاب، وإنّما يحاول أن يذهب بالأسلوب إلى ما أبعد منه، فكان توظيفه للموسيقى أكثر عمقا.


اِستعمل رايت ـ كما في أغلب أفلام تارنتينو ـ مادّة موسيقيّة جاهزة، ولم ينجز موسيقى تصويريّة خاصّة بالفيلم Film Score. فسمح له هذا الخيار بتوفير مادّة موسيقيّة ثريّة ورائعة يمكن الاستمتاع بالاستماع إليها لوحدها. مثّلت هذه القائمة الموسيقيّة المميّزة أهمّ عناصر البناء الأسلوبيّ الذي طغى على الفيلم وأفرده بصمة خاصّة.
لكنّ موسيقى Baby Driver تتميّز عن موسيقى أفلام تارنتينو وغيره بتطابقها مع محتوى المشهد، فهي لا تكتفي بترجمة أحاسيس الشخصيات إلى المشاهد (في شكل موسيقى رومانسية أو حزينة مثلا)، ولكنّها تتحوّل إلى تعليق صريح على الأحداث، كما في لقطة دخول البطل بايبي Baby إلى حيث تعمل حبيبتُه رفقة أفراد العصابة، إذ يختار إدغار رايتْ من الأغاني، قطعة سام و دايف Sam&Dave "حين لا يكون حبيبي بخير" When something is wrong with my baby. وأيضا في لقطة وقوع بايبي وحبيبته ديبورا Debora في قبضة المجرم الهارب بُدِي Buddy، إذ كان اختيار إدغار رايت لرائعة باري وايت Barry White "لن أفرّط فيك أبدا أبدا" Never Never Gonna Give You Up أشبه بالتعليق الساخر على المشهد. ثمّ إنَّ الموسيقى التصويريّة عند إدغار رايت لا تبقى خارجة عن الفضاء السرديّ، وإنّما تقتحم خطّ الأحداث وتتداخل معها، وتنبعث من عناصرها. الموسيقى جزء من المشهد، تأتي من راديو السيارة، أو من عازف الساكسو في الطريق، أو من التلفاز، أو من أحد أجهزة الأيبود iPod الكثيرة التي تملأ جيوب البطل بايبي. وفي بعض الأحيان، تبدو وكأنّها تؤثّر على أحداث القصّة نفسها، فحينما تنبعث أغنية تي ركس T. Rex التي تقول "أوه ديبورا، أنت تبدين مثل حمار وحشيّ!" (لا أعرف كيف تبدو هذه الكلمات رومانسية بالانكليزيّة) كانت ديبورا Debora تلبس بالفعل زيّا أبيض وأسود.
يتسرّب التداخل بين الموسيقى والأحداث إلى أعماق البناء الدراميّ، فيتحوّل إلى دافع للأحداث، حينما يصبح وسيلة تعارف لطيفة بين الحبيبين، بحثا شيّقا في الموسيقى عن الأسماء، وعن الأحلام المؤجّلة. وأيضا في بعض اللحظات الأقل رومانسيّة، حين يصرّ بايبي السائق أن ينزل أفرادُ العصابة من السيّارة بالضبط مع إشارة الأغنية، أو حين ساهم بحثه عن موسيقى جيّدة في راديو السيّارة التي افتكّها من صاحبتها في إعطاء فكرة لطيفة لضحيّته المسنّة عنه، وهو ما خفّف عنه حكم المحكمة في النهاية…

يكشف كلّ ذلك عن عمل كبير قام به إدغار رايت لتحديد القائمة الموسيقيّة. لقد نصح تارنتينو زميلَه بعدم تحديد الأغاني بشكل قاطع عند كتابة السيناريو لأنّ استوديوهات الإنتاج كثيرا ما تجد مشاكل عند شراء حقوق استغلال هذه الأغاني. مع هذا، فقد أقدم إدغار على المخاطرة الكبيرة. نحن نعرف أنّه لو لم يحصل على أغنية ديبورا لـT. Rex، لاضطرّ لإعادة كتابة قسم كبير من الفيلم مثلا. الموسيقى أوّلا، هي ما يبدو شعار المخرج في هذا الفيلم. فالسائق بايبي يحدّد الوقت اللازم لعملية السطو بواسطة المقاطع الموسيقيّة، يختار المقطع المناسب ويحدّد به لحظةَ بداية العملية (الخروج من السيارة) ونهايتِها (العودة إلى السيارة) وهي أيضا لحظةُ بداية دوره كسائق فذّ. اِستوجبت طريقة عمل بايبي، كتابةَ مشاهد السطو انطلاقا من القطعة الموسيقيّة لا العكس، وهو ما دفع إدغار رايت إلى تسجيل الموسيقى بشكل مباشر خلال التصوير، وهذا وحده كافٍ للدلالة على عبقريّة الفيلم.


تسمح هذه الميزات بتصنيف Baby Driver كفيلم موسيقيّ بشكل ما، فلئن كان أبطاله لا يغنّون بشكل مفاجئ خارج السياق الدراميّ، فهم يغنّون داخله بتعلّات ذكية. ديبورا تدندن بصوت أثار انتباه بايبي، وبايبي يتابع أغنية تي راكس متمتما مترنّما راقصا، وباتز Bats (جيمي فوكس Jamie Foxx) يردّد مقطع Tequila وهو يفرغ خزّان المسدّس في ضحاياه، وحتّى الدكتور (كيفن سبايسي) كان له نصيب من الغناء حين تحوّلت عبارته (متخلّف يعني بطيء، هل هو بطيء؟) إلى مقطع رمكس Remix عبقريّ تسلّى بايبي بإنجازه.
والتأثير الكبير للموسيقى على المَشاهد، يجعلنا نتحدث عن كوريغرافيا موسيقيّة شبيهة بتلك التي نراها في الغنائيّات. خذ مثلا مشهد شراء القهوة، فمباشرة بعد شارة البداية، وانسحاب العنوان الكبير، تأخذنا الكاميرا في مشهد من لقطة واحدة طويلة، لتنقل لنا رحلة السّائق القصيرة من المبنى الذي يضمّ مخزن العصابة، إلى محلّ القهوة القريب. كلّ شيء كان موقّعا، محسوبا، منسجما مع خطواته الأقرب إلى الرقص، حتى الجدران التي كتبت عليها بعض كلمات الأغنية المصاحبة في شكل غرافيتي Graffiti. أو مثلا مشهد المجزرة الصغيرة التي تسبّب فيها باتز في مخزن تاجر الأسلحة، إذ كان كلّ شيء موقّعا على أنغام أغنية تاكيلا Tequila اللاتينية الشهيرة.


وحتّى قصة الحبّ البسيطة التي أضفت رونقا رومنسيّا لطيفا على الفيلم، تكاد تشبه قصص الحبّ التي نراها في الأفلام الغنائيّة. ولئن لم يؤدّ الحبيبان مقطعا غنائيّا متكامل العناصر، فقد أحالا ضمنيّا إلى ذلك، خصوصا في ذلك المشهد الرومانسيّ البهيج في محلّ غسل الثياب، حين اضطرّتهما سمّاعتا جهاز الأيبود iPod اللّتان يقتسمانها، إلى أن يتحرّكا معا بشكل منسجم كأنهما يرقصان مصحوبيْن في رقصتهما بحركة الأقمشةِ الملوّنة الزاهية اللولبيّة داخل آلات الغسيل.



لم يكن استعمال الأسلوب الغنائيّ بديعا سينمائيّا زخرفيّا لا أكثر، وإنّما كان منسجما تماما مع محتوى الفيلم. يجب أن نذكر دوما أنّنا نرى المشاهد بعيون السائق بايبي، هذا الفتى الغريب الذي فقد أمّه صغيرا بسبب حادث سيّارة، واحتفظ بذكرى صوتها العذب، وبحاجته الدائمة للموسيقى ليتجاوز مشكلة أذنيه التي خلّفها الحادث. لا يستطيع بايبي أن يستمع إلى العالم من دون خلفيّة موسيقيّة، لذلك كانت الأغاني حاضرة باستمرار، ولذلك أيضا كنّا نسمع الموسيقى من جهة واحدة حين ينزع أحدهم إحدى السمّاعتين من أذنيه.
ولأنّ السائقَ كما يقول باتز يجب أن يكون عينين وأذنين، فقد كنّا نرى الأشياء بعينيْ بايبي. لذلك بدت شخصيّات الفيلم ممعنة في الكاريكاتوريّة. بُدي Buddy ودارلينغ Darling العاشقان حتّى السخف، وباتز المتهوّر حتى الغباء، وأبوه يوسف Joseph الأكول، والدكتور زعيم العصابة الذي لا يجد كلمة سريّة سوى "بانانا" (موزة)... إنّ الواقع حتما لا يشبه كلّ هذا، ولكنّ بايبي يقوّض الواقع ويجعله أجمل بواسطة الموسيقى. معاناة والده المقعد والأصمّ تصبح أقل إرهاقا، وصوت الموت المنهمر من حوله يصبح أكثر هوانا، وأحلام حبيبته اللامعقولة تصبح أقرب إلى المنال. إنّ هذا هو أجمل ما في Baby Driver، الموسيقى التي لا تخدّر آلامنا فحسب، وإنّما تجعل الواقع ممكنا.
فيلم Baby Driver ليس فيلم سرقة فحسب، بل هو فيلم موسيقيّ بامتياز، وهو أيضا فيلم مطاردات لم نرَ مثله منذ زمن بعيد. ليس ذلك النوع من المطاردات التي تغلب عليها المؤثرات البصرية كما في سلسلة أفلام "السرعة والغضب" The fast and the furious. وإنّما تلك المطاردات التي نشعر بتفاصيلها ونراها على خارطة نرسمها في أذهاننا بسهولة.
لقد تلاعب إدغار رايت بأصناف سينمائيّة كثيرة في فيلم واحد، يطغى على أحداثه الرّصاص والأوغاد، وتطغى على أسلوبه الموسيقى، تماما كما كان يفعل تارنتينو في مرحلة التسعينات وبداية الألفينات، ولئن كان رايت أقلّ عبقريّة في كتابة الحوار، فقد عوّض ذلك بإحداث علاقة فذّة بين الموسيقى التصويريّة والأحداث. جاء Baby Driver بهيجا، متّقدا، حركيّا كما يجدر بأفلام الصيف، ولكنّها أيضا جاء مبدعا، ذكيّا، جديرا بأن يُذكر في شهر شباط القادم.


------------------------------------------------------------
العنوان : بايبي السائق Baby Driver
السنة : 2017
المخرج : إدغار رايت Edgar Wright
النوع : سرقة، مطاردات، جريمة، موسيقى، كوميديا رومانسية
البطولة : أنسل إلغُرت Ansel Elgort (بايبي)، جون هام Jon Hamm (بودي)، ليلي جايمس Lilly James (ديبورا)، كيفن سبايسي Kevin Spacey (الدكتور)، سي جاي جونز CJ Jones (الأب)
المدة : 112 دقيقة

Translate