Saturday, March 3, 2018

أفلامٌ خسرتْها جوائزُ الأوسكار!

نشهد هذا الأحد، النسخة التسعين من حفل الأوسكار. وهي وإن لم تكن أهمّ الجوائز السينمائيّة من الناحية الفنّية فهي حتما أهمّها إعلاميّا. تعدّل الساعات عليها وينتظرها الجميع حتّى وإن عبّروا عن رفضهم مسبّقا لترشيحاتها ولطرق التتويج بها.

لن يخرج هذا العام عن غيره من الأعوام التي شهدت جدلا حول اختيار أوسكار الفيلم الأفضل، أهمّ جوائز الحفلة. فلا بدّ للاختيار أن يثير سخط فئة ما. ولقد سجّل لنا التاريخ سجالات كثيرة، لعلّ أشهرَها، حفل سنة 1995 حين كان على لجنة التحكيم التقرير بين "فورست غمب" Forrest Gump، و"قصة من الصنف الرخيص" Pulp Fiction الحائز آنذاك على السعفة الذهبية، والخلاص من شاوشنك The Shawshank Redemption. أو سنة 1976 حين كان عليها تفضيل "أحدهم طار فوق عش الوقواق" على باري ليندن Barry Lyndon والفكّ المفترس Jaws وعصر يوم قائظ Dog Day Afternoon.

على أنّ هناك سنوات أخرى، لا تحتاج نتائجها إلى سجال أو جدل. بل قد تحتاج إلى خبراء نفسيّين واجتماعيين ومؤرّخين لفهم العناصر التي أدّت إليها. إنّها تلك السنوات التي أجمع الكلُّ فيها، على مرور الأكاديميّة (المانحة للجوائز) بجانب التاريخ، فعوض أن تقرن إسمها بإسم فيلم أيقونيّ، خسرتْ كثيرا بتتويج غيره.

في هذه القائمة، نتحدث عن أهمّ الأفلام الهوليوديّة (أو الناطقة بالانكليزية على الأقل) التي خسرها سجّلُّ الأكاديميّة حين لم يتوّجها بجائزته الكبرى. فهي أفلامٌ تتوّج جوائزَها لا العكس.



10 - سنة 2000
في حفل الأكاديمية الثاني والثمانين، تفوّق فيلم "جمال أمريكيّ" American Beauty عن جدراة، على منافسيه الأربعة، وأبرزهم الميل الأخضر The Green Mile والحاسّة السادسة The Sixth Sense، وفاز بالجائزة الكبرى. ولم يتطرّق أحدهم إلى غرابة خلوّ الترشيحات من فيلميْ نادي القتال Fight Club لدايفد فينشر والمصفوفة The Matrix للأخوين (الأختين فيما بعد) ويشوسكي. ربّما لأنّ الثاني فيلم خيال علميّ ثقيل Hard Sci-Fi، وربما لأنّ الأوّل ذو نزعة أناركيّة أو ذو طابع عنيف قد لا يعجب أكثر ناخبي الأكاديميّة. ولكنّ المؤكّد أنّهما بتقادم الزمن، تحوّلا إلى جزء من الثقافة الشعبية العالميّة. على عكس "جمال أمريكيّ"، لا يحتاج المرءُ إلى مشاهدة المصفوفة، لينسب إليها تلك الشفرات الخضراء المتساقطة بلا نهاية في شاشة سوداء، ولا يحتاج إلى مشاهدة نادي القتال ليدرك طبيعة العلاقة الملتبسة التي تجمع الممثّلين إدوارد نورتن Edward Norton وبراد بتّ Brad Pitt، أو ليعرف القاعدة الأولى للدخول إلى نادي القتال.

لكن لو سرنا إلى ما وراء مجتمعات الإنترنت، وصور الـ 9GAG وجداريّات المدن ووسائط الفنّ الحضريّ، سوف يتراءى لنا سياق تاريخيٌّ مهمّ ولد في لجّته هذان العملان. إنّ المرحلة الانتقالية إلى القرن الجديد، تنعكس بشكل بالغ على هذين العملين. لقد غيّر فيلم ماتركس صورة التكنولوجيا في السينما، واستطاع إحداث مقاربة بين شكلها المعاصر ووظائفها المستقبليّة. وطرحَ مثلَه مثل نادي القتال، صورة استشرافيّة للقرن الجديد : ثورة اتّصالية، مجتمع استهلاكيّ، حكّام خلف أنظمة معقّدة يديرها الضحايا، ويدافع عنها الضحايا، ويبنيها الضحايا.

حصل الماتركس على أربعة جوائز أوسكار بفضل المؤثرات البصرية المدهشة، ولم يقدر أن يتجاوز ذلك رغم ثقله وثرائه، أمّا نادي القتال فقد رشّح لأوسكار تقنيّ لم يفز به. والغالب أنّ أهل السينما لم يدركوا قيمة هذا العمل إلا بعد سنوات من صدورهما، لذلك مرّ الأوسكار بجانبهما دون أن يظفر بإسميْهما في سجلاّته.



9 - سنة 1977
فاز في هذه السنة فيلم رياضيّ Sport Movie لأوّل مرة في تاريخ الأوسكار. والحقيقة أنّ قصّة إنجاز "روكي" Rocky تضاهي قصّة الفيلم نفسه. هل كافأت الأكاديميّةُ كفاحَ سيلفستر ستالوني من أجل إنجاز فيلمه بالأوسكار؟ لا أستبعد ذلك. على أنّنا نعرف يقينا أنّ جودة الفيلم السينمائيّة لا يمكن أن تُقارن بتحفة مثل سائق التاكسي Taxi Driver.

يعتبر سائق التاكسي، مدخل مارتن سكورسيزي Martin Scorsese لعالم المخرجين الكبار، وهو أهمّ أعماله تقريبا مع فيلم آخر نتحدث عنه لاحقا. وكما عبّر الماتركس ونادي القتال بدقّة فنيّة عالية عن هوس الدخول إلى القرن الجديد، كان سائق التاكسي صورة دقيقة للتغيّرات الاجتماعية التي جاءت بها موجة السبعينات إلى نيويورك. لقد كان آداء روبرت دينيرو Robert De Niro أسطوريّا، لحدّ جعل من ترافيس Travis أحد أشهر الأوغاد، أو نقيضي البطل في تاريخ السينما.
كما شهد الفيلمُ انطلاقة الممثلة الشهيرة جودي فوستر، إذ أدّت دورا أثار جدلا كبيرا لسنوات عمرها التي لم تتجاوز الاثنتي عشر. كانت إيريس ملهمة ترافيس وطريقه نحو الخلاص. كلمة القدر التي أضفت لحياته معنى، ولو وهميّا. هل كان ترافيس بطلا أم وغدا؟ هل كان عنفه ردّة فعل متطرّفة لانحطاط المجتمع، أم هو نتاج مرَضيٌّ لتغيّرات العصر، مجرّد أضرار جانبية؟
منح مهرجانُ كانّ الفرنسيّ Cannes Film Festival سعفته الذهبية لفيلم مارتن سكورسيزي، وخلّده في سجّله، أما الأكاديميّة، فعجزت عن تقييمه كما يجب، ومنحت الجائزة لبطل أكثر نمطيّة، إسمه روكي بالبوا.



8 - سنة 1999
بعد فيلميْ قائمة شندلر والحديقة الجوراسيّة، كان العالم ينتظر تحفة ستيفن سبيلبرغ الجديدة. لا يتميّز هذا الرجل بنفسٍ إبداعيّ عظيم، لكنّ له قدرة عظيمة على إدارة أعقد المشاريع السينمائيّة واستخراج كنوز مبدعيه الصغار في شتّى عناصر الصورة، كما ترتكز صورته على كتابة سينمائيّة دراميّة الطابع حتّى لو كانت قصة الفيلم بسيطة قليلة الأحداث. لذلك كلّه، كان حدثُ إنزال النورماندي (دخول الأمريكيين إلى فرنسا لتحريرها من النازيين) كلّ ما يحتاجُ إليه سبيلبرغ ليصنع تحفة على كلّ المستويات.

فيلم إنقاذ الجنديِّ ريان Saving Private Ryan هو أحد أهمّ الملاحم في تاريخ السينما، وأحد أهمّ أفلام الحروب، وبعضُ مشاهده تملّصت من سياقها الدرامي لتصبح أيقونات سينمائية شهيرة.
لم يكن هناك من شكّ سنة 1999 أنّ جائزة الأوسكار في طريقها إلى سبيلبرغ مرّة أخرى. ربما بشيء من المنافسة مع تحفة روبرتو بينيني Roberto Benigni الحياةُ جميلة La vita è bella. لكنّ الأكاديميّة فاجأت الجميع بتتويج فيلم آخر بالجائزة هو شكسبير عاشقا Shakespeare in love.

ليس من عادة الأكاديمية الاهتمام بالكوميديا الرومانسية، لكن شكسبير العاشق حرّك بعض الأقلام المؤثرة مثل الناقد الكبير روجر إيبرت الذي منحه اربعة نجوم (من اربعة). وراج أنّ وراء الأكمة المنتج المهاب هارفي واينستاين Harvey Weinstein، إذ ضغط لتحويل وجهة التصويت. وكتب أحدهم واصفا السجال: الاختيار هنا بين الانتصار للحرب أو الانتصار للحب! هكذا انتصرت الأكاديمية للـ"حبّ" ولكنّ ذاكرة الناس احتفظت بالحرب، ونُسيَ "شكسبير عاشقا" كأنّه لم يكن.




7 - سنة 1974
اِرتبط إسم جورج لوكاس George Lucas بأفلام حرب النجوم حتّى يخيَّل أنّه لم ينجز غيرها. بالنسبة لي، أنجز خيرا منها سنة 1973، وتوّجت تحفته آنذاك بخمس جوائز أوسكار لم تكن جائزة أفضل فيلم من بينها.

كلّ شيء متميّز في فيلم جداريّة أمريكيّة American Graffiti. حقبة الخمسينات (وبداية الستينات) التي استعادها بدقة بالغة، عناية اختيار الألوان، لتمنح المشهد لُدونة (Plasticity) بطاقات المعايدة العتيقة، وتحوّل قصص اليافعين (Teenagers) المتقاطعة في شوارع كاليفورنيا إلى ذكريات صيف عابر. انسيابيّة اللقطات المنسجمة مع حركة السيّارات المتنوّعة. لا تشبه ميكانيكا السيارات في الجدارية الأمريكيّة، تلك التي نراها في أفلام هذا العصر، بل تأخذ سمة رومانسية مضحكة، وبدائيّة حميميّة، كأنّها تعود بنا إلى زمن ما قبل الصورة الباردة القاتلة للسيارة، أو كأنّها تستعيد بدايات علاقة الشغف التي تربط اليافعين بها.
لكنّه أيضا يستعيد الكثير من تفاصيل الصّبا الأمريكيّ، ومرحلة الاستعداد للانتقال إلى عالم الشباب. لذلك تجري أحداثه كلّها في ليلة واحدة لها دلالاتها، فهي ليلة حفل التخرج. تلك الليلة الصيفيّة الأخيرة، التي يتفارق فيها الزملاء، ويمضي كلٌّ إلى جامعته، وعالمه الجديد. ولقد عبّر لوكاس عن كلّ ذلك، بقالب جماليّ مدهشٍ لا يمكن أن يقارن أصلا بفيلم اللدغة The Sting، الذي يروي تفاصيل عملية احتيال جميلة على كلّ حال. هل أثّرت مبيعات هذا الفيلم على أصوات الأكاديميّة؟ ربّما، لكن من المؤكّد أنّها اختارت الفيلم الخطأ، وخسرت أحد أهم الأفلام في تاريخ هوليود (الثاني والستون في ترتيب معهد الفيلم الأمريكيّ لأفضل الأفلام في تاريخ هوليود).



6 - سنة 1952
لنتخيّل الآتي: مسرحيّة من تأليف الكاتب الكبير تينيسي ويليامز، يحوّلها إلى السينما مخرجٌ أمريكيٌّ بقيمة إيليا كازان Elia Kazan، ويلعب دور البطولة فيها ممثلان بحجم مارلون براندو Marlon Brando (العرّاب) وفيفيان لي Vivien Leigh (في مهبّ الريح). هل يمكن أن يكون هذا حقيقيّا؟ أجل، في عربة إسمُها الرغبة A Streetcar named desire، أحد كلاسيكيّات السينما الأمريكيّة، وأحد أفلامي المفضّلة. ما لا يمكن أن يكون حقيقيّا، هو عدم حصول هذه التحفة على الأوسكار، وخسارته لصالح غنائيّة جين كيلي Gene Kelly الراقصة : أمريكيٌّ في باريس An american in Paris.

من المؤكد أن فيلم جين كيلي، أحد كلاسيكيّات السينما الأمريكية أيضا، وهو أحد أفضل الأفلام الغنائية أيضا، ولكنّه عدا لوحاته الجميلة، لا يخرج قيد أنملة عن الصورة النمطيّة لباريس، وهو في أحسن أحواله لوحة إعلانية بديعة للسياحة في فرنسا.

كيف لهذا الفيلم أن يتفوّق على الدراما الثلاثية التي جمعت الشقراء ستيلا وزوجها ستانلي (براندو) بأختها بلانش دوبوا Blanche Debois؟ يقدّر الكثيرون أنّ الفيلم قدّم لنا أفضل آداء أنثويّ في تاريخ هوليود (فيفيان لي)، بالنسبة لي، قدم لنا أيضا آداء رجاليا مضاهيا في شخص براندو. ورغم الطابع المسرحيّ الطاغي على العمل، لا تزال بعض مشاهده احتفالا سينمائيّا ودراميّا خالدا. هاي! ستيلاّ! تخترق تلك الصرخة العاتية شاشة العرض، مثلما يخترق خيالُ الآنسة دوبوا واقعها الأليم، فيصوّر لها أنها سيدة مجتمع راقية، تستحق مكانة أرفع بكثير من حجرة حقيرة عند أختها. ويصوّر لها عنف زوجها، عنفوانَ فارس الأحلام الجدير بها… 


5 - سنة 1961
حين ظهرت نظريّة المؤلّف Auteur Theory، كان المخرجُ البريطانيُّ ألفرد هيتشكوك عنوانها الأبرز. فقد اعتبر الناقد الفرنسيّ أندري بازان André Bazin مؤسّس مجلة كرّاس السينما، أنّ هيتشكوك هو النموذج الأكمل للمخرج المؤلف. وتوالت الأطروحات لتتعمّق في هذا الطرح، وتبرز وحدة الصّورة السينمائيّة التي يقدّمها البريطانيُّ في كلّ أعماله.

وإن كان الجدل قائما حول أفضل أعمال هيتشكوك، فما من شكّ أن فيلم سايكو Psycho هو أشهرُها. يحتوي الفيلمُ على كلِّ تلك العناصر التي جعلت من هتشكوك إسما خالدا في تاريخ السينما. الجريمة، الغموض، الإثارة، الرعب النفسي والتوتّر المتواصل… يقال إنّ هتشكوك اشترى كلّ نسخ رواية روبرت بلوخ الأصليّة، حتّى لا يحرق أحدٌ مفاجأة النهاية. ولكن حتّى على معرفتنا بها، ظلّ الفيلمُ نموذجا للإثارة، وأصبح مشهد الحمّام وموسيقاه المرعبة مادّة لا تنضب للمحاكاة والاقتباس.

لا يكتفي هتشكوك بإبراز الإثارة في الأحداث، وفي غموضها. بل ينزع إلى عمليّة إسقاط لنفسيّة الشخصيّة البطلة على الرعب الخارجيّ الذي يتهدّدها، فيعيد تفكيك علاقاتها مع الآخر ويغوص في خفاياها من خلال الخطر المستحوذ على ظاهر الأحداث. وكان سايكو أحد أهمّ الأفلام التي أنجز فيها هتشكوك هذا النموذج. فأصبح من بعده سنّة سينمائية متواترة.

المضحك أنّ سايكو لم يكن أصلا مرشّحا للأوسكار سنة 1961، وفازت به كوميديا رومنسية بعنوان الشّقّة The Appartment. فيلم طريف وممتعٌ، ولكنّه لم يحدث أي تأثير حقيقيّ في السينما، ولا يمكن أصلا مقارنته بسايكو. بل إنّ هتشكوك لم يفز يوما بأوسكار أفضل إخراج رغم ترشيحه للجائزة خمس مرّات، ولم يحصل له فيلمٌ على أوسكار سوى ريبيكا Rebecca سنة 1941 وكان أول ترشيح له.

لم تكن الأكاديمية في ذلك الوقت تأخذ أفلام الإثارة بشكلٍ جدّيّ، وكانت تمنحها بعض الجوائز التقنية لا أكثر. واحتاج العالم إلى نظرية المؤلّف للاعتراف بقيمة المخرج البريطانيّ، قبل أن تأتي نظريّات أخرى مثل النظريّة النسوية Feminist film theory لتتوغّل أكثر في أعماله. هكذا تمكّنت أفلامٌ من نفس النوع مثل "صمت الحملان" على حصد الجوائز الكبرى فيما بعد.



4 - سنة 1972
إذا كانت الأكاديميّةُ قد فهمت أخيرا قيمة سينما الرعب النفسي والإثارة Thriller، فإنّها لم تفهم بعدُ قيمة الخيال العلميّ. وفي واحدة من أكثر لحظاتها تهوّرا، منحت الأكاديمية كلَّ الأوسكارات الأربعة التي ترشح لها "برتقالة ميكانيكيّة" A Clockwork Orange لفيلم فيليب دانطوني : الطرف الفرنسيّ The french connection. يُعتبر فيلم دانطوني نُقلة نوعيّةً في سينما الأكشن، من خلال واقعيّة مشاهده وواقعيّة موضوعه أيضا (شبكة تهريب الهيروين إلى أمريكا عبر أوروبا كانت موجودة بالفعل)، وساهم في خلق هذه الواقعيّة أداءٌ متميّز من جين هاكمان Gene Hackman.

هل كان هذا كافيا للتغلّب على تحفة ستانلي كيوبرك؟ لا أعتقد، فالأكاديمية مثلما ذكرتُ، تستخفُّ بأفلام الخيال العلميّ، ولا تعتبرها على قدر كافٍ من الجديّة. قد أضيف إلى ذلك علاقات كيوبرك السيّئة بهوليود، ما دفعه إلى إنجاز فيلمه في بريطانيا.

لم يحمه هروبه من هوليود، من المشاكل، فقد استُقبل برتقالة ميكانيكيّة بانتقادات لاذعة بخصوص العنف المفرط فيه، واعتبرهُ الناقد روجر إيبرت فيلما يحتفي بالعنف والرذيلة والسقوط الأخلاقي، واضطرّ كيوبرك إلى إيقاف عرض الفيلم في بريطانيا لمدّة طويلة.
لذلك ربّما، اِكتفت الأكاديميةُ بترشيحه لجوائز الأوسكار دون أن تتوّجه بشيء. ولقد كانت الطرف الخاسر في هذه الصفقة. فإذا كان "الطرف الفرنسيُّ" إيذانا ببدء تملُّص هوليود من قانون هايس Hayes Code (الذي يلزم المنتجين بلوائح أخلاقية تجاه مشاهد الأفلام)، فإنّ فيلم برتقالة ميكانيكيّة تهديم تامٌّ لمعبدها، تجاهلٌ تامّ لها كأنّها لم تكن. وإذا كان فيلم دانطوني شاهدًا قيّما على تلك الفترة الانتقاليّة، فإنّ فيلم كيوبرك لا يزال إلى اليوم فيلما مدهشا ومثيرا!
إنّه أحد الأعمال المرئيّة النادرة التي تتفوّق على مصدرها الروائيِّ على كلّ المستويات، وهو آية نادرة لحجم المعاني والأفكار التي يمكن أن تنقُلها الصورةُ وحدها.



3 - سنة 1981
أحيانا يصبح عدم التتويج بالأوسكار تتويجا في حدّ ذاته. مَن مِن المخرجين لا يتمنّى أن يوضع إسمُه في قائمة فيها ستانلي كيوبرك وألفرد هيتشكوك؟ لقد كان مارتن سكورسيزي Martin Scorsese قاب قوسين أو أدنى من هذا الإنجاز لولا فيلم الرّاحل The Departed سنة 2006.

ليس الرّاحلُ أفضل أفلام سكورسيزي، بل هو في رتبة متدنّية من قائمته الزاخرة بأعمال جليلة. ما يجعله أكثر المخرجين حضورا في قائمة الظلم هذه. لقد ذكرنا فيلم سائق التاكسي، ولم أذكر مثلا الأصحاب Goodfellas الذي خسر الجائزة لصالح الرّاقص مع الذئاب Dances with Wolves لقيمة الفيلم الثاني، لكنّه جدير بالقائمة.
لكنّ أكثر أفلام سكورسيزي تعرّضا للظلم، كان فيلم الثور الهائج Raging Bull سنة 1981، فقد خسر الجائزة لصالح دراما اجتماعيّة لا يكاد يذكرها أحد. من منكم يعرف فيلم أناس عاديون Ordinary People؟ أنا أيضا لا أعرفُه. وحين حاولت معرفته لم أجد شيئا يستحقّ الانتباه، أو على الأقلّ لم أجد شيئا يمكن أن يضاهي الإبداع الكبير الذي حقّقه الثنائي "سكورسيزي - دي نيرو" في الثور الهائج. قد يكون الفيلمُ أفضلَ عملٍ ثنائيٍّ لهما، وقد يكون مثلما تشهدُ بذلك قائمة معهد الفيلم الأمريكيِّ، أعظم فيلم لسكورسيزي على الإطلاق، وأحد أهم الأفلام في تاريخ هوليود (تضعه القائمة في المرتبة الرابعة (بعد المواطن كين، العرّاب والدار البيضاء). لكنّ الأكاديمية سنة 1981 لم ترَ هذا كلّه واكتفت بتتويج دي نيرو بجائزة الأداء، وتلما شونمايكر بجائزة التركيب.

يصوّر لنا الثور الهائجُ، قطعة من حياة الملاكم جايك لاموتّا Jake LaMotta المسمّى بالثور الهائج لعنفه المبالغ، وانفعاله الكبير، حيث يبرز سكورسيزي علاقة حضوره القويّ في حلبة الملاكمة، بحضوره العنيف في حياة زوجته. لقد تعامل سكورسيزي برهافة حسّ بالغة في تصوير شخصية لاموتّا داخل الحلبة وخارجها، قرب زوجته وبعيدا عنها، في لحظات تعبيره عن حبّه الكبير، وفي لحظات انتقامه المخيفة…
كيف لعمل عبقريٍّ كهذا أن يخسر أمام أول فيلم أخرجه نجمُ الشبّاك روبرت ردفورد؟ يقول أحدهم، لأنّ شعر ردفورد أجمل!



2 - سنة 1969
يقول روجر إيبرت حين خرج من العرض الأول لفيلم أوديسا الفضاء : كنتُ أرى بعض المتفرجين المغادرين بعد العرض، وهم واثقون بأنّهم كانوا أمام أجمل شيء شاهدوه في حياتهم.

يتّفق نقادٌ كثرٌ وسينمائيون كبار مع هذا الرأي، لعلّ أبرزهم مارتن سكورسيزي الذي تحدّثت عنه. حيث يعتبرون أوديسا الفضاء ( 2001 A Space Odyssey) آيةً سينمائيّة مكتملة الأركان. أوبيرا بصريّة خالصة الجمال، تحدّثنا عن الإنسان في مراحل نموّه المتعدّدة، وتطرح علينا في قالب سينمائيّ خالص، أهمّ القضايا التي تواجه إنسانَ هذا العصر، وتضع أمامه آفاقا عدّة.

لقد أعاد ستانلي كيوبرك من خلاله إعادة الاعتبار لجنس الخيال العلميِّ، وجعله صنفا سينمائيّا مثيرا، واسع الآفاق، وحاملةً لأبرز القضايا الإنسانيّة وأعقدها. ورغمَ اعتماد هذا الجنس على التقنيةِ لإحداث الخدع البصريّة اللازمة، فإنّه استطاع أن يظلَّ مدهشا ومثيرا للبصر بعد خمسين سنة من صدوره! ولو قارنّاه مثلا بفيلم كوكب القرود The planet of the apes الذي أنجز في نفس السنة (1968) وصار يعدُّ كلاسيكيّا، لأدهشتنا المقارنة.
رغم كلّ ذلك، لم ترَ الأكاديمية سنة 1969 أيّ شيء استثنائيٍّ فيه، وخيّرت عليه غنائيّة عائليّة بعنوان أوليفر! مقتبسة  من مسرحيّة غنائية مستوحاة بدورها من رواية تشارلز ديكنز الشهيرة… هكذا في لحظة مهمّة من تاريخ الصراع الفضائيّ الأمريكيّ السوفياتيّ، وقبل أشهر فحسب من نجاح الرحلة الأولى إلى القمر، بدا لهؤلاء أنّ تغليب قصة طفل بريطانيّ من القرن 19، أهمُّ وأعمق معنى من تتويج فيلم بعنوان أوديسا الفضاء!
وليكون الأمر عبارة عن ملهاة متكاملة، لم يُرشَّح الفيلم أصلا لأوسكار أفضل صورة، وفاز بتتويج وحيد عن الخدع البصريّة، كانت الجائزة الوحيدة التي حصل عليها كيوبرك من الأكاديمية طيلة مسيرته الكبيرة. هل هناك زلّة للأكاديمية أكبر من هذه؟



1 - سنة 1941
أجل، في هذه السنة حدثت خطيئة الأكاديمية التي سوف تجعل من جوائز الأوسكار ماهي عليه اليوم : جوائز اعتراف بجودة الأعمال، لكنّها أبعد ما تكون تتويجا للأفضل. ليس لأنّ الأفضل مسألةٌ نسبيّة (فهي كذلك طبعا) ولكنّ لأنّ الأفضل ليس دائما ما يثير اهتمامها.
“كم كان الوادي أخضر!" How green was my valley هو فيلمٌ للمخرج الكبير جون فورد، لا يكادُ المرء يعرفُ عنه سوى أمرٍ وحيد : فوزُه بالأوسكار أمام فيلم المواطن كاين Citizen Kane.

يبدو الأمر لوهلة أولى متناقضا، فمن الطبيعيِّ أن يفوز مخرجٌ معروف مثل جون فورد بالأوسكار، وهو الذي كان قد فاز بها في مناسبتين : في السنة التي قبلها عن عناقيد الغضب The Grapes of Wrath، وسنة 1936 عن المخبر The Informer (ثمّ فاز بها مرة رابعة سنة 1953 عن الرّجل الصامت The quiet man). أمّا أورسن ويليس Orson Welles، فكان آنذاك شابّا عمره 27 سنة تقريبا، وكان فيلم المواطن كاين، ثاني فيلم روائيّ طويل له كمخرج. المسألة محسومة إذا.

ربّما بالنسبة للأكاديميّة آنذاك، أمّا السينمائيون في ما بعد، فقد أوفوا "المواطن كاين" حقّ قدره، وعدّه أغلبهم أهم عملٍ سينمائيٍّ تمَّ إنجازه على الإطلاق. لذلك يحتلُّ دون منازع رأس قائمة معهد الفيلم الأمريكيّ لأفضل أفلام هوليود، حتّى بعد مراجعة القائمة بعد عشر سنين من إنجازها.

قد لا تبدو قصّة المواطن كاين بهذه العظمة. إنها حكاية الفقير اليتيم الذي فعل كلّ شيء ليتسلّق سلم المجتمع ويستوي عند هرمه ليدرك أنّه رغم كلّ نجاحاته لم يحقق سعادته. لكنّ أسلوب قصّها كان غير مألوف على السينما الأمريكيّة آنذاك. لقد أدخل أورسن ويليس على المشهد السينمائيّ أدوات ملهمة أصبحت بعد ذلك أساسيّة يتعلّمُها كلُّ طالب في معاهد السينما.
من الرّواة الكاذبين كأسلوب للسرد، إلى اللقطة العميقة Deep Focus كأسلوب عرض، إلى تقنيات الراديو كأسلوب صوت، إلى تفكيك كلّ الأعراف الهوليودية في التصوير والإنتاج وإعادة بنائها، مثّل المواطن كاين ثورة سينمائية شاملة لم تدركها هوليود في وقتها، بل أهمل الفيلمُ بشكل كبير، ولم يحقق نجاحا تجاريّا معتبرا، ولم يتمّ الاعتراف به إلا بعد إعادة عرضه في الخمسينات ورواجه في شاشات التلفاز.
ويمكن القول إنّ الأكاديمية لم تكن مخطئة في تجاهلها للمواطن كاين، بل كان ناخبوها كغيرهم من معاصري الفيلم، عاجزين عن إدراك قيمته الحقيقيّة، فخيّروا الفيلم الأكثر التزاما بما تعلّموه في أستوديوهات التصوير. إنّ عجزهم هذا هو بالفعل ما جعل المواطن كاين فيلما عظيما!



إنّ أغلب الأفلام المتوجة بالأوسكار هي أفلام على جودة عالية، وهي وإن كثر الجدل حول أحقّيتها، لا خلاف حول قيمتها. يضفي الجدال أحيانا قيمة أكبر لبعض الأفلام، ويزيد من حماسنا تجاه هذا الفيلم أو ذاك ويغذّي غرامنا بالشاشة الفضيّة الساحرة وهو ـ وإن زلّت الأكاديميّة زلات مضحكة ـ أجمل ما تقدّمه لنا حفلة الأوسكار.

Translate