Monday, July 27, 2009

الجلسة السابعة

جلست في هذا المكان للمرّة الأولى منذ سبع سنين.. و منذ ذلك التاريخ و أنا أحاول إيجاد موعد دوريّ معه..

هو موعد غراميّ و لا شك، ففي مواعيد الغرام وحدها ما يجعلنا نرتجف هيبة و نتحرّق شوقا. و في مواعيد الغرام وحدها نحرصا حرصا أن نبدو في خير حال، بينما نشعر هلوسة أننا في أسوإ حال..

كنت قد هيّأت نفسي لكل نشاط ممكن، و كل نشاط على هذه الرمال ممكن، و جميل الإمكان أيضا. لم أنس أن أدّخر مجهودا طفوليا للسباحة، و مزاجا رائقا للمزاح و التندر، و استعدادا تاما للجنون، و ربّما حصة للنّوم و طبعا بطنا خاوية للأكل!

لكنني أفاجأ بي، أترك كل هذا جانبا، و أمسك القلم! إنها حاجة الكتابة. و قد تعلمت أن لا سبيل عن تلبية حاجة الكتابة. لكنني تساءلت أيّ سبب يضطرني اليوم أن أكتب عن هذا المكان بعد سبعة مواعيد بدون تعليق؟

أذكر أنّني فكرت سابقا في الحديث عن مواعيدي هذه، لكنني في كل مرة أحاول فيها ترجمة مشاعري إلى كلمات، أجدني ظالما مقصرا، فما الذي جدّ هذه المرّة؟

كنت جالسا أتأمّل الجزيرة بعين خاوية و أخرى لا شيء فيها كما يقولون، و في مبادرة غريبة منّي، تناولت القلم و الكراس، أنا أريد الكتابة إذا! أكان ذلك أمرا أمرتني به الجزيرة خفية دون أعيه؟ لن يدهشني ذلك أبدا، فلهذه الجزيرة سرّ غريب، و أمر مريب، و إنّ الناظر إليها، ليشعر بذلك أيّما شعور..

و كأنّها تخاطب فيه مكامن حسّه فتأمره بالسعادة حينا، و بالحنين إلى الذكريات حينا آخر.. هذه الجزيرة العارية من الخضرة، الحبلى بالأسرار.. لم أكن أتخيّل أوّل أيامي هنا، أن لها كل هذه السطوة على المكان..

كم تندّرنا بها حينئذ، و كم أمضينا الساعات نبحث عن تشبيه مناسب لها.. سمّاها الكثيرون الباخرة، و سمّاها آخرون الحذاء، بينما رأى أغلبنا أنها تشبه أنف أحدنا، فاستقرّ رأينا على هذا التشبيه بعدما غلبنا الضحك..

لكنني اليوم أرى فيها كبرياء يفوق ما لأنوفنا جميعا، و أن سلطتها على المكان لا جدال فيها.. أحاول عبثا تخيّل البحر بدونها، فترتسم صورتها في ذهني و يختفي البحر و الناس الذين يضم جميعا!

رأيتها و البحر هادئ مستقرّ، فإذا بها المشرف على هدوئه، المؤمّن لسكونه. و رأيتها و أمواج البحر تلتطم، فإذا بها من يرسل الأمواج في وقع مستفزّ متعمّد ! حتّى الناس كانوا في دخولهم إلى المياه الخفيفة الصافية و كأنهم يحجون إليها، و في خروجهم من الماء كأنهم عائدون من الحجة..

أيّة رسائل تحمّلها تلكم الأمواج، و أيّة كلمات تتبعثر بتيعثرها (الأمواج) على الرمال، و سيقان الرائحين و الغادين؟ استدرت إلى الخلف فطالعني الجبل المتدثر بالسباسب و الأعشاب. فاجأني المشهد الأخضر، و كأنني ألحظه للمرة الأولى. و عدت أتأمّل صحراوية الجزيرة. و لوهلة خيّل إليّ أن الأمواج قد ازدادت عنفا!

ترى ما الذي يحدث بين اليابسة العامرة بالناس و الحياة، و بين الجزيرة التي و كأنّها مصدر كل تلك الحياة؟ أيّ صراع يدور بينهما طوال السنة؟ لقد بات المشهد غريبا فعلا، و بتّ أتخيّل المياه حبلا يتجاذبه الطرفان. و كأنّ كليهما يبحث أن ينسب البحر إليه! هذا بما فيه من حياة و مرح، و تلك بما تحمله من سحر و غموض، و للناظر أن يحار بينهما طويلا، حيرة هذا البحر التي لا تنتهي!

لكنني أعلم أنّ هناك أمرا ما لا ريب فيه في كل هذا... و نهضت متوجّها إلى تلك المياه الطفلة أداعبها، و أنا أحمد الله على نعمة هذا الصراع!


فاروق الفرشيشي
27 ـ 07 ـ 2009

Monday, July 20, 2009

"وراء كل نجاح عظيم امرأة"

"فتحي! هل نبدأ؟"
"لحظة واحدة، لماذا كل هذه العجلة؟"
"لم أعد أطيق الحرّ... لِم لم أعمل مراسلة في روسيا؟! أف.."
"حسن، سنبدأ العدّ، استعدي."
و تعتدل لمياء في وقفتها، و تتطلع إلى آلة التصوير بذات الحرفية و ذات النشاط اللّذين جعلا منها مراسلة قارّة، رغم حداثة عهدها بعالم الصحافة المرئية.. تقف بجانبها امرأة لا يخفى ارتباكها على عين متفرّسة خبيرة. و كان بيّنا أن آلة التصوير الجاثمة قبالتها هي سبب كلّ تلك اللعثمة المتأرجحة بين عينيها و يديها. و لولا الآلة، لاحتار كل متأمّل في هيأتها في أمر ارتباكها.. قامتها المديدة، شعرها القصير المصفف على طريقة قصّة الولد الشهيرة، الصبغة التي تحجب بياض شعرها المحتمل، الاحمر الذي يحاول جاهدا جعل ابتسامتها مشهدا محببا. و حتّى زيّها الخالي من أية ملامح، كأنّه لباس قوّات البرّ أو حرس الحدود الصحراوية.. كان كلّ شيء فيها يوحي بخشونة و صلابة. و لم تكن ناقلة البضائع الضخمة المنتصبة وراءهما إلا لتزيد الأمور سوءا. فلم يكن من العسير على أيّ طفل صغير يعاني التوحّد أن يدرك من هو آمر تلك الشاحنة و ناهيها..
"هل أنت بخير؟ إننا على وشك البدء."
وبذات الإرتباك المخيّم على سحنات وجهها، يجيب المرأة :"أ.. أجل. أجل. تفضلوا."
و تعالى صوت المصوّر من أمامهما : "أكشن!" علامةً للبدء. فأخذت لمياء نفسا عميقا و شكّلت على شفتيها الخمريّتين ابتسامة عذبة، و قالت بمرح : "سيّداتي، آنساتي! مرحبا بكنّ مرّة أخرى في برنا.."
"stoooooop"
يهتف بها المصوّر و هو يبعد عينه عن عدسة الآلة. فاستدارت إليه شيماء متضايقة، بينما بدا للمرأة أنها صرخة تنادي بخلاصها، فنفخت بقوة و راحت تحرّك قدميها و كأنها تريد التيقّن من سريان الدماء فيهما!
"لماذا تتحدثين و كأن البرنامج موجّه للنّساء فحسب؟"
"لأن البرنامج موجّه للنّساء فحسب. هل تكفيك هذه الإجابة؟"
"و من أدراك أنت يا فتاة؟ صديقي يتابع البرنامج مثلا."
كادت تسأله إن تيقـّن من أنه ليس فتاة، و لكنها لم تشأ افتعال المشاكل منذ البداية.. فاكتفت بقولها : "هذا لأنه صديقك، يريد فقط رؤية براعتك في التصوير.. و صدقني، أنت بارع جدّا ما دمت تهتمّ بعملك و تترك أعمال الآخرين و شأنها!"
كانت لهجتها عصبية، و كان كلامها سريعا مكثفا كرذاذ المطر، فقط لو كان بذات اللطف! لكن ذلك لم يعد غريبا على مسامعه، فقد صوّر معها أكثر من مرّة و في كل مرّة يزداد اقتناعا أنّ النساء لا يصلحن لهذا العمل.. ربّما كان من الأنسب بقاؤهنّ في أستوديوهات التصوير المكيفة المترفة، و تمتيع النظارة الكرام بوجوههن الرّقيقة و سيقانهنّ..
"نحن مستعدّتان!"
"لحظة واحدة!"
و بينما انهمك هو في اعداد الشريط، كانت ميساء تقول للسيّدة في عصبيّة :" هكذا هم دائما! يحشرون أنوفهم في كلّ شيء! في المرّة القادمة سأطالب بالعمل مع فتاة. صدقيني! الرجال لا يصلحون إلا لفرقعة أصابع أقدامهم على الأرائك في المنزل.. لم تعد الحياة تحتمل وجودهم.. هل تعلمين؟ لقد قرأت مؤخّرا كتابا يتحدّث عن تطوّر الجنس البشري. يؤّكد مؤلّف الكتاب أن الجنس الذكري لم يعد أساسيا و أنّ الانتقاء الطبيعي سيتخلّص منه في الدورة القادمة!"
تقول ذلك بذات السرعة التي انقلبت بها سحنتُها من العصبية إلى الحماس، و كـأنّ ما تفكّر فيه قد حدث بالفعل. و كادت تهتف إنّها تحلم بالسفر إلى المستقبل كما في أفلام الخيال العلميّ، لولا أن سمعت هتاف المصوّر يدعوهما للاستعداد."
"هل ستتجاهلين المشاهدين الذكور؟"
"أجل."
لم يبد اهتماما بإجابتها و لا بابتسامتها الجذلة، و إنّما وضع عينه أمام عدسة المصوّرة و أشار بيديه إيذانا بالبدء، لكنّه سرعان ما توقّف متسائلا:" أيّة معتوهة هذه؟! قبل ثانية كانت تنظر نحوي في ابتسام، و الآن هي تتحدث مع السائقة كأنها في منزلها!"
و بينما كان يتساءل عن أيّة فكرة حمقاء يتحدّثان، كانت ميساء تسأل السائقة و هي تحاول التأكد من تصفيفة شعرها الأشقر بيسراها:" بالمناسبة، هذه الـsemi remorque، كيف نسميها بالعربية، أنت تكتبين حتما هذه المفردات في الأوراق الرسمية، أليس كذلك؟"
"كلا، أعمل لشركة خاصة، لذلك فهم يستعملون الفرنسية، لكن يمكنك استعمال مصطلح ناقلة بضائع. هكذا يسمونها في الفضائيّات."
و نظرت إليها و هي لا تزال تعبث في شعرها، و أضافت : "ألم يكن من الأجدر أن تبحثي في هذه الأمور قبل إعداد التحقيق؟"
" هل من مشاكل في التصفيفة؟ خصلة في غير موضعها أو ما شابه ذلك؟"
حدّقت في وجهها السائقة مستغربة، متسائلة في قرارة نفسها :" هل كانت تستمع إلى ما أقول؟!"
ثمّ إنّها قالت بسرعة مخافة أن تنتقل الفتاة بمخيّلتها إلى عالم آخر :" أجل جيّدة، لا عيوب، لا أخطاء، هل نبدأ؟"
و استدارتا إلى المصوّر الذي كان ينتظرهما بدوره. فأشارت هيفاء بيدها أن كلّ شيء على ما يرام، فهتف :"أكشن!"
"سيّداتي، آنساتي سادتي! شكرا لكم على متابعتكم لبرنامجكم الأسبوعيّ : وراء كل نجاح عظيم امرأة! حلقة اليوم سوف تروي لنا قصّة نجاح من نوع خاص جدّا نجاح أنثويّ في ميدان كانت الكلمة الوحيدة فيه، كلمة جافـّة غليظة! كلمة ذكوريّة تحديدا. لكنّ المرأة في بلادنا أبت إلا تحديَ كلّ تلك القيود و كسرها! اليوم يا عزيزاتي لو شاهدتنّ شاحنة.. شاحنة .. semi remorque كهذه، فلا تستغربن أن ترين امرأة خلف مقـ... fu** ! لماذا توقـّفت عن التصوير؟"
كانت صرختها هادرة و قد انقلب كل حماسها إلى غضب عاصف.. و لم يجد هو بدورها إلا أن يصرخ :"و لكنّك لم تخبريني مسبقا بنيتك في تصوير الشاحنة! كيف تشيرين إليها بتلك الطريقة المفاجئة؟!"
"و الذي كان سيغيّره أيّها العبقريّ؟ هل تحتاج إلى خارطة طريق لترفع الآلة شبرا إلى الأعلى؟"
"كلا يا آنسة! و لكن من الغباء تصوير الشاحنة من تلك الزاوية!"
و قبل أن تجيبه، كان هو يضيف في صرامة :" و هذا هو عملي على ما أظن!"
عاصفة تعبث بها من الداخل، و لم يكن أحد بحاجة لسماع ردّها حتّى يدرك ذلك. لكنّ المصوّر ظل يرمقها بصرامة حتى أشاحت بوجهها عنه، و ابتعدت عن ضيفتها بضعة أمتار.. ربما لتلتقط أنفاسها و تسب كل شيء تعرفه دون أن يسمعها أحد..
غمغم المصوّر في حنق :"حمقاء ككلّ النساء."
و قالت هي في سخط:" وغد! ككل الرجال!"
بينما ظلّت الضيفة حائرة فيما ستفعل. في النهاية، قدّرت أنّ تهدئة الخواطر قد يكون مفيدا. فاستدارت إلى الصحفية الشابة، و قالت لها :" هوّني عليك. هيا، لننته من كلّ هذا. تعالي."
و تجذبها من يدها متضاحكة محاولة صنع شيء من المرح في المكان. و أسرّت لها في ودّ:" لو تعلمت شيئا من هذه المهنة، فهو الصبر حتما! لا يمكنك تخيّل عدد الكيلومترات التي قطعتها وحيدة، و لم يكن بوسعي إلا أن أصبر."
ثم تستدير إلى المصوّر و تهتف :"ما رأيك بهذا المكان؟"
تطلّع عبر عدسة التصوير إلى حيث تقفان ثم أومأ برأسه موافقا.
"أف. أخيرا رضي عنّا الخليفة!"
انتظرت منها السيدة خطابا جديدا عن الرجال الحمقى، و لكنّ المراسلة الشابة اكتفت بتلك العبارة، ثم غيّرت لهجتها تماما و هي تسأل :" هل حفظت جيّدا ما ستقولين؟ اسمعي، لا أريد تلعثما و لا مساحات من الصمت. تحدّثي بلهجة الواثق. أريد من المتفرج أن يلتصق بكرسيه من الرهبة و الاحترام!"
"اه، أرجو ذلك، و لكن.. اسمعي، من الضروريّ أن نبدأ الآن، فقد نفذ صبره."
لم تقل ذلك للضغط عليها أو تخويفها، بل هي تعلم أنّ كل ذرّة غضب تسبح بين قلب المصوّر و روحه، هي قناطير من السعادة تسري في شرايينها، هكذا هي دوما كيمياء البشر، سعادة بعض على حساب بؤس الآخرين، و ما من قوّة ستخل بذاك التوازن يوما. لكنّها اليوم، لا ترى في ذلك التوازن أمرا مسلّيا، لذلك قاطعت المنشطة لاسكاتها و الإسراع بالبدء. إنّ وقت رحلتها قد تأخّر...
و تشير سناء إلى المصوّر بحركة سريعة عصبيّة، و تتسمّر في مكانها كأنها على وشك الانطلاق في سباق عدو سريع. و بمجرد أن أنزل المصوّر يده إيذانا بالبدء، عادت كل جوارحها للعمل دفعة واحدة، و في تزامن طريف أثار دهشة ضيفتها.
كانت تتساءل أيّة كتلة من النشاط تملكها، و أيّة روح تحرّكها؟ و خمّنت أنّ تركيزها منصبّ أساسا على الحفاظ على ابتسامتها رغم كل الشد العصبيّ، و أيضا على الكلمات التي أعدتها مسبقا فلا تنسى منها حرفا، لذلك فقدت المسكينة أيّة قدرة على السيطرة على يديها و وسطها. و بدا لها أنّ خاصرة الصخفيّة قد سرحت بخيالها إلى حفلة زفاف أو ما شابه! لحظة. لِم توقف كل شيء عن العمل دفعة واحدة؟ حدّقت في المكبّر الممتد إلى شفتيها، ثم نظرت إلى الصحفية و لسان حالها يصرخ :"اللعنة! لم أسمع سؤالها!"
ثم تذكّرت أنها تعرف ما عليها أن تقول.. ما أهميّة السؤال إذا؟!
"أقود هذه الناقلة منذ 3 سنوات تقريبا."
"جيّد، و هل يعني ذلك أنّك من أصحاب الخبرة؟"
"كلا، و لكن الشركة تثق بي.. هناك من يعمل منذ نحو 15 سنة.."
"و لكنّه لا يحظى بذات المنزلة التي تحظين بها، أليس كذلك؟"
"الأمر لا يتعلّق بالمنزلة، لاحظي أنّنا نتحدث عن مجرد سوّاق شاحنات نقل."
ثم إنّها توقفت عن الحديث و قد لاحظت أن في عيني الصحفيّة أن أمرا ما على غير ما يرام. و كان توقفها كافيا لتحسم سناء أمرها و تدعو فتحي لإيقاف التصوير، ثمّ تنفخ في حنق علّ ذلك يذهب بشيء من توتّرها و نفاذ صبرها. ثم إنّها ابتعدت عن ضيفتها في خطوات سريعة..
"الحمقى! لا يجيدون فعل أيّ شيء."
قال ذلك فتحي و هو يتابع المشهد من بعيد. ثمّ إنّ أمرا خطر بباله و هو يتابع حركاتهما، فألصق عينه بعدسة الآلة و هو يقول :"لنكمل التصوير من دون صوت، سأعد مقطع حماقات يكسر كبرياء تلك المغرورة. و سأضحك عليه رفقة وسيم كثيرا."
و ضحك في جذل قبل أن يتابع و محاكيا صوت زميلته بطريقة كاريكاتورية ساخرة :" ألم أقل لك أن تتركي قارورة العطر هذه و شأنها؟ كيف سأقابل صديقي اليوم؟ هه؟ كيف سأقابله؟" ثم غيّر نبرة صوته لياحكي صوت السائقة الأجش و قال :"لا داعي للعطر، فهناك دوما رائحة سيشتمّها. ثم إنّك التهمت آخر ما تبقى من أحمر الشفاه الذي أهدانيه صديقي.. إذا كان صديقك معدما لا يقدر على الذهاب إلى فرنسا، فلا داعي لإتحافه بالعطور."
ثم انفجر ضاحكا و قد راقت له المزحة، و فكر في أنه من الممكن أن يعد حوارا أكثر طولا و أكثر امتاعا. ربما لو أضفى شيئا من السوقية على الموقف، ستضحك الشلة طويلا هذا السبت. على الأقل سيكون الأمر أفضل من هذا التحقيق السخيف الذي تسعى هذه الصحفية عبثا إلى إتمامه. و تذكّر أنه اختار العمل معها بمحض إرادته، فأطلق سبابا سوقيا ساخطا..
" لم يكن جمالها يوحي بكل تلك العجرفة التي تبرهن عليها كلماتها. اعتقدت أن الأمر سيكون مشابها لما حدث مع دليلة.. يا حسرة على أيام دليلة.. و لياليها!
و شرد مع دليلة، حتى إنه لم يسمع شيئا من صراخ أسماء يدعوه إلى التركيز. و حينما تفطن، كانت الصحفيّة قد اقتربت منه كثيرا. حينها، علم أنّه سيسد أذنيه في اللحظة التالية رفقا بهما! لكنّه رغم ذلك سمع هديرها الغاضب :
"إسمع يا سيد! هناك ألف شخص يريدون العمل معي، و لو أنّك عازم على قضاء اليوم... لا تضع أصابعك في أذنيك حين أكلّمك! سأكتب فيك تقريرا! سأقضي على حياتك المهنية بجرّة قلم! و لسوف تندم كثيرا!"
"كنت أعيد الشريط إلى الخلف، و لا داعي للصراخ."
"و لماذا تعيد الشريط؟ أترك كل شيء مسجلا، فسأحتاج إلى ذلك لمراجعة أخطائي."
فابتسم في سخرية و قد فكر أن يقترح عليها تصوير كل حياتها، فهي كمية من الأخطاء المتراكمة. لكنه آثر أن يحتفظ على حياتها لبعض الوقت. موتها بفعل الغضب ألطف ممّا تستحق! هكذا فكّر، و لذلك أجاب:" لن يكفيَك الشريط على أية حال."
"و لِم لم تحضر ما يكفي من شرائط التيجيل؟ أي احتراف هذا؟"
"معك حق! لكنهم أخبروني أنني سأعمل مع محترفة! لن أقع في هذه الخدعة مجددا، أعدك!"
طبعا لو أجابته، فستنفجر حنجرتها، فأعصابها لم تعد تتحمل.
و ابتعدت بخطواتها الواسعة العصبية، و هي تقسم بكل عزيز عليها أن تكلّفه وقاحتُه مستقبلـَه.. و جال بخاطرها أن احترامها لعملها سبب لها مشاكل كثيرة.. لقد كان من السهل على فتاة بمثل جمالها و ذكائها أن تنشط إحدى حصص الميوعة التي يشاهدها الناس كأنها الأفيون.. كان يسيرا عليها أن تعمل جارية إعلامية و تربح أموالا طائلة دون أن تحترق أعصابها. و لكنّها اختارت الثنيّة الوعرة، و هي تعرف جيّدا ما ينتظرها!
إنها تعرف كم الرجال الذين سيحنقهم نجاحها، و تعرف أنّ هذا المصوّر المعتوه المتخاذل لن يكون إلاّ مثالا مبسطا عمن تخفيهم الأقدار!
الغريب أن هذه الأفكار أثلجت صدرها، و كأنها تجاوزت هذه الصعاب بالفعل، و بلغت المجد الذي تبغيه. كان احساسها بقوّتها و قدرتها على التحدي يريح أعصابها و يمحو كل أثر لما حدث منذ لحظات. و أكملت الأمتار التي تفصلها عن السائقة بقفزتين استعادت بهما تركيزها، و قالت لها في اهتمام :"هيّا يا سيّدتي، لننته من كل هذا، إسمعي، ركزي أرجوك و لا ترتجلي. لنتّبع ما اتفقنا عليه منذ البداية."
"و لكن يا ابنتي، تعلمين أنني لم أجد وقتا كافيا لأحفظ كل ذلك بالحرف. أحاول ما استطعت و لكن .. و حتّى الأجرة، فلا أخال أنني سأحصل على أجرة ممثلين."
"أجرة؟ أية أجرة؟"
و تعالى صوت المصوّر يهتف :"هاي! ألن نبدأ؟"
كانت حسناء قد أدركت من نظرات ضيفتها المتفاجئة الجزعة أنها وقعت في ورطة بتساؤلها، لذلك أسرعت تقول :"هيّا، خذي نفسا و لنبدأ."
"أكشن!"
"سيداتي آنساتي سادتي، مرحبا بكم مرّة أخرى في برنامجـ..."
"اسمعي، لقد اتفقنا أنني سأنال أجرا!"
و ينقطع التصوير مرة أخرى، و تنفخ حسناء في غضب، بينما علّق فتحي في سخرية و شيء من الشماتة :"من الواضح أنّها ستمضي ليلة عصيبة جدا!"
أما السّائقة، فلعلها أحسّت بأنها أخطأت التوقيت.. لكنّ عيني الصحفيّة كانتا تشيان بالغدر، و هي تعرف هذه النظرات جيّدا، عرفتها في كل مكان تقريبا و في كل مرحلة من مراحل حياتها المليئة بالآلام. لذلك، فهي لم تعد مستعدة لتحمل المزيد، و لذلك أيضا، بات من الأفضل التعويل على شعار "الوقاية خير من العلاج".. كان من الضروري أن يكون كل شيء واضحا منذ البداية.. ثمّ لحظة واحدة.. إنها لم تتسبب في انقطاع التصوير إلا هذه المرة، و على كل حال فهذا لا يهمّها في شيء تقريبا، فهم الذين يبغون التصوير و ليس هي!
كان كل ذلك حافزا قويا كي تستعيد ثقتها بنفسها، و تواجه الجميع بموقفها. ها هي ذي تقول بصوتها الغليظ الفظ :"من حقي أن يكون كل شيء واضحا منذ البداية، لا أريد تفاصيل غامضة، هذا أقرب للسلامة!"
"و ما الذي تريدينه واضحا بحق السماء؟ ألم نتفق على كل شيء منذ البداية؟"
"أنا لا أضمن أن آخذ مستحقاتي عن التحقيق."
"و كيف تريدين هذه الضمانات؟ أن نوقع عقد عمل مثلا؟ ماذا نكتب؟ عقد في استجواب صحفي؟ أي حديث هذا الذي تتحدثين به؟"
أسقط ما في يد المرأة و لم تجد إلا أن تسكت و تحاول إقناع نفسها بأن كل شيء سيسير على ما يرام. و فكّرت في ما يمكن أن تفعله لو غدر بها، فبدا لها ذلك مريعا مرعبا! ثم شحذت حزامها بعنف و قوّة و كأنها تحاول الاطمئنان على صلابتها، أو كأنها تستمد كل قوتها من ذلك الحزام المتين، و راحت تنتظر الصحفيّين لإنهاء الأمر..
كان ثلاثتهم هذه المرة مقرين العزم أن ينهوا العملية الآن، لا داعي لقطع التصوير، لا داعي للتنبيه للأخطاء، سيتكفل التركيب بستر كل العيوب، و حجب كل المشاكل.. المهم الآن إجراء الحوار! و لم يدرك أحدهم أنهم قالوا في تزامن مدهش :"سأنتهي من هذا الآن!"
قالوا ذلك سرّا دون أن يتخيّل أحدهم أنّ العزائم وحدها لا تقضي الحوائج، و أن هناك أمورا قد لا يكتب لها أن تتحق مهما جاهدوا. هل تراهم أدركوا ذلك حينما سمعوا هديرة آلة ضخمة تقترب؟ أم أنهم اكتفوا بالتحديق في المركبة الصفراء في ذهول و هي تقترب نحوهم في بطء مستفز؟!
"ستواصل طريقها إلى مفترق الطرق القادم!"
لكنه كان يعلم أنّها لن تفعل، كان يعلم أنّها ستقف بالضبط حيث يعملون، و أنّ أحدهم سينزل ببذلته الرمادية المقرفة و يقول لهم :"ستجري أشغال هنا!"
و قبل أن تتدخل حسناء، اندفع هو نحو عون البلدية لإنقاذ المذبحة التي قد تحدث. فجذب الرجل إليه و كأنه يعرفه منذ زمن، و قال له في هدوء و مودّة مفتعلة :"اسمع يا أخي، نحن صحافة، نحاول أن نجري حوارا قصيرا ثم نمضي و شأننا، لن تنتظروا كثيرا. صدقني."
لكن العون بدا كآلة لم تلقّن غير تلك العبارة الجافة :"ستجري أشغال هنا!"
"دقيقة يا رجل، لن تضير أحدا!"
"ستجري أشغال هنا!"
ربّما شيء من المال قد يعيد له انسانيّته. فكر في ذلك و هو يشير إلى حسناء بيده أن آتي بالمال. لكنّها زفرت في عصبيّة و اندفعت نحوهما صارخة :" اسمع أيّها العون! أنا أؤدي واجبا وطنيّا، و ليس من حقّك منعنا!"
كانت عبارتها أشبه برصاصة الرحمة على حلم انجاز التحقيق، فقد أشاح فتحي بوجهه في يأس، بينما أشار العون إلى رجاله بالنزول و هو يكرر بلهجته الآلية :"ستجري أشغال هنا."
"اللعنة!!!"
لكن بات من الواضح أن اللعنة قد حلّت بها لا بأعوان البلدية، و أنّ تحقيقها بات مهددا أكثر من أي وقت مضى..
"ماذا أفعل الآن؟"
ذلك التساؤل المقيت، الذي لا يتبادر إلى ذهن المرء إلا رفقة موجة يأس مرير، و تيّار قارس من العجز و القهر! لا للدموع الآن.. لا للضعف أمام هؤلاء الحمقى.. سأجد حلا حتما، المرأة لم تخلق أبدا لتكون ضعيفة.. المرأة وهبت الذكاء لتتجاوز هذه المصائب الذكورية.. يا لحماقتهم! يا لحماقتهم! الا يفهم أحد معنى التحقيق الصحفي؟ هؤلاء الأوغاد! كل حماقة يقترفونها تفوح برائحة التيستوستيرون العطنة!
"ماذا نفعل الآن؟"
و الآن يسألون ما العمل! يا للأوغاد!
و استدارت إليه و هي تفكر في صب جام غضبها و حقدها على أذنيه الكبيرتين، لكنّ سائقة الشاحنة سبقتها بالقول "اركبوا معي الشاحنة، يمكننا أن نبتعد قليلا، فهناك طريق جانبي لا تطاله قدم إلا في ما ندر."
أحنقها أن لا تنفّذ في المصوّر ما عزمت عليه، و خيّل إليها أن فكرة السّائقة سيّئة، لأن هذا المكان هو أفضل ما يمكن الحصول عليه. أمّا المصوّر فقد قال :" و لِم نصطحبك في الشاحنة؟ يمكننا أن نتبعك بالسيّارة."
"لا أدري.. نسيت أمر السيّارة."
و لكنّ نجلاء فكّرت في أمر آخر تماما، و كان جليّا من بريق عينيها أنّها طربت كثيرا لما دار بخلدها! و من دون سابق إنذار، هتفت في وجه مصوّرها :"لأنّك لا تحسن التفكير أبدا يا فتحي! سنصوّر داخل الشاحنة! سنجري الحوار داخل الشاحنة! و هكذا لن يقطع حتى رئيس الجمهورية حوارنا!"
حاول التظاهر بعدم المبالاة، و لوّح بيده و هو يقول :"فكّرت في التصوير داخل الشاحنة في نهاية التحقيق، أردت شيئا من التنويع و لكن.. كما تشائين. المهم أن نخلص من الأمر بسرعة."
"ها! هكذا أنتم دائما! تفكرون في كل شيء، و لا تقولون شيئا لاثبات ذلك! يا للكبرياء الزائف!"
ثم استدارت إلى ضيفتها و هي تقول :" هيا! إلى الشاحنة!"
تبعتها في رضا إلى حيث المركبة الضخمة، و دعت في سرّها أن ينتهي الأمر سريعا، فقد تأخّرت بعض الشيء عن موعد رحلتها..
و تفتح أبواب الشاحنة لثلاثتهم. كان داخلـُها على قدر من السعة. على الأقل، كان كافيا لتحمّل عملية تصوير بتلك الآلة الكبيرة. و جلست نجلاء حذو السائقة و هي تتأمّل المكان كأنها تدخل إلى دار جارتها لأوّل مرة... لا يمكن وصف هذا الفضاء بالانوثة حتما، عكس سيارتها حيث يطال الأزرقُ السماويّ و الورديُّ كل زاوية، و كل مقعد.. لكن نظافة الشاحنة و حسن ترتيب الأغراض فيها، تشيان بأنّ امرأة مرّت من هنا.. لو أن رجلا كان سيّد هذه المركبة، لكانت رائحة التبغ خانقة فيها..
وراء المقاعد كانت هناك مبرّدة صغيرة تفي بغرض الاحتفاظ على سلامة الأغذية لبرهة من الزمن. و بجانبها غطاء صوفي لعلّها تحتاجه ذات ليل موحش البرد.. مجموعة من الأشرطة الموسيقية التي لا توحي بميل إلى لون موسيقي ما بقدر ما تفضح حاجة السائقة إلى شيء من الضجيج المرتب.
و خطر للفتاة أنّه كان حريّا بها أن تجلب معها بعضا من أشرطتها، تضعها فوق هذه العناوين السخيفة حتى تحيل على شخصيّة أكثر انفتاحا و روح أكثر جمالا. و لكن ذلك الوغد كان قد جلس بحذوها و أغلق الباب و معه كلّ أمل في التراجع... لا بأس، الحوار هو أهم شيء الآن، و فيما بعد سنهتم ببقيّة التفاصيل.
و استدارت تقول لمصوّرها بلهجة عمليّة :"أعدّ الآلة، سأبدأ بالحوار مباشرة، و فيما بعد سنهتم ببقيّة الأمور."
فأجابها وسط هدير الشاحنة التي بدأت تشق طريقها بعيدا عن أعين رجال البلدية و كؤوس الشاي التي يرتشفونها قبل بداية العمل:" أعيدي مراجعة الأسئلة، كي لا نضطر إلى قطع التصوير إذا. فالعصبية تنسينا الكثير لو تعلمين."
"هذا ليس من شأنك."
و استدارت إلى السائقة تقول :"هل أنت مستعدة؟"
"أجل، أمهليني حتى نخرج من المنعرج و نستقر على سراط مستقيم."
تأمّلتها غيداء في إعجاب و هي تخرج من المنعرج الضيّق بسلاسة و مهارة. كانت تجلس جلسة السيد الواثق من نفسه، و كانت قبضتها على عجلة القيادة تشبه قبضة الخلفاء على عصا الحكم. إنه عالمها، و إنّها فيه لملكة!
و لكنّ إعجابها لم يدم طويلا. ها هي ذي تفسد كل شيء باقتراح أحمق :"ألا تعتقدين يا آنسة، أنّ هذه الأتعاب الإضافية، من حقّي أن أؤجر عليها نقدا؟"
"ربما، و لكن لِم نتحدث عن هذا الآن؟ لنؤجّل المسألة إلى ما بعد."
"لا. لا تأجيل بعد الآن، اسمعي، أريد كل شيء واضحا الآن!"
"ما الذي تريدينه واضحا؟ هه؟ هل نحن نصابون؟ ا ُنظري إلى هذه البطاقة! تأمليها جيّدا!! نحن صحافة، و قناتنا محترمة جدا، و لا داعي للإهانات يا سيّدتي."
"و منذ متى كان الحديث عن الحق إهانة؟"
"يا سيّدتي، الفتاة تريد أن تشحذ كل تركيزها لإدارة الحوار، و هذا كل ما في الأمر. و فيما بعد أضمن لك أن لا تهضم حقوقك."
كانت هذه قولة المصوّر، و كان من الواضح أنّ لها تأثير على السائقة و الصحفية، فقد صمتت كلتاهما و كفتا عن النقاش المحموم. أما هو، فقد رفع آلته و حام بعدستها في أرجاء المكان، ثم قال بهدوء:"استعدا."
ثمّ وجهها إلى زميلته قائلا :"أكشن."
فشكلت ابتسامة العادة و اندفعت تقول :"نحن الآن داخل الشاحنة، نصطحب السيّدة صابرين و هي تقوم بعملها الشاق.. سيّدة صابرين، ألا ترين أن هذه المهنة عسيرة على النساء؟"
"أنا أعمل سائقة منذ نحو 3 سنوات. لم أتعرّض لأية صعوبة مهنية، رؤسائي فخورون بي، و أنا محل ثقة كبيرة."
"تعتبرين نفسك من أصحاب الخبرة؟"
"الأمر لا يعتمد كثيرا على الخبرة.. هناك من يعمل .."
و صمتت و هي تتأمل حركة شفاه غيداء التي كانت تحاول أن تسرّ إليها بالكلمة. اللعينة، لقد سألت هذا السؤال من قبل، و هي تريد أن تتدارك بشيء من الارتجال! ألم تقل إن الارتجال ممنوع؟ أه! هي ذي الكلمة. و تابعت و قد أدركت ما تعنيه الصحفية :"
"هناك رجال يعملون منذ نحو خمس عشرة سنة، لم يحظ أحدهم بذات الثقة التي أحظى بها.. توكل إليّ عادة نقل بضائع على غاية في الأهمية.." و عادت تتأمل في شفتي الفتاة قبل أن تضيف ببطء:" أكثر أهمية من... من أن ينقلها هؤلاء الرجال!"
"و لكن مهنتك متعبة حقا، أليس كذلك؟"
"ربّما، و لكن أعتقد أن كل المهن متعبة. ما ينسينا التعب هو حب المهنة! لقد اخترت مهنتي عن طواعية و حبّ، و هذا أهم ما في الأمر. من النادر أن توفر لك مهنة ما، كل هذا القدر من الجمال الطبيعي.. ألا تشاهدون الحياة عبر النافذة؟ ا ُنظروا مليّا!"
"أ لا ترين أنّك كامرأة تعمل في هذا المجال، تتحدين نواميس الطبيعة؟"
"أعتقد أن الرجال هم من يتحدّون نواميس الكون بالعمل في هذا الميدان! هذه حياة جميلة فيها ما فيها من المشقة، و لكنّها تناسب النساء! إن كذبة ضعف المرأة يجب أن تتلاشى إلى الأبد."
"ألا ترين أنّ تميّزك عن الآخرين يجعل من حقّك المطالبة بزيادة في الأجر؟"
"ربما... أعتقد أنه من الصعب أن ندرك في هذا العصر أن المرأة تتقن عملها بشكل أفضل من الرجال. نحن لانزال نعتبر مساواة الجنسية في الأجر هديّة ضخمة تقدم للمرأة، لا حقا مشروعا!"
ثم إنّها صمتت و قد بدا أنها تفكر في أمر ما، أو أنها مترددة بشأن أمر ما. و فجأة أوقفت الشاحنة و قالت لهما بهدوء :"أريد أجري."
حدّقا في وجهها مندهشين، لثانيتين أو يزيد، ثم أوقف المصوّر آلته و هو يلعن في سرّه. بينما صرخت زميلته في سخط :" لماذا توقفت؟ لقد كان ذلك رائعا!"
"لذلك أريد أجري. لأنه كان رائعا! اريد أجري الآن، و إلا فلا داعي للمواصلة!"
"و لكن، أي أجر تريدين بحق السماء؟! أنت تؤدين عملا مقدّسا! ألا تشعرين بالفخر و أنت ترفعين من مكانة المرأة؟ الا تشعرين بالفخر و أنت تثبتين أننا قادرات على اقتحام أيّ مجال بنجاح و ثقة؟ ألا تشعرين بالفخر و الرضا و أنت تثبتين للعالم كله كم أن مهنتك ممتعة؟"
"أيتها الصبية البلهاء! من أي عالم أنت؟ أين المتعة في سياقة أطنان الحديد هذه لأميال و أميال! كلما قطعت ميلا أوهمت نفسك أن الميل القادم هو الأخير، و لكن هيهات! وحيدة كذئب، معذبة كالمساجين، منعزلة كأهل الكهف! مقضي عليّ أن أقودها فلا أخرج منها إلا لقضاء حاجة أو شراء أكل.. أي متعة في الاقتيات من هذه القاذورات؟!"
قالت عبارتها الأخيرة و هي تدفع بالمبرد الصغير بما فيه من خبز أو بقايا خبز، و صحن زيتون و زبدة تجاهد عبثا كي تظل متماسكة، محتفظة بخصائصها الفيزيائية.. و ظن الصحفيان أنها ستكتفي بكلامها، لكنها واصلت قائلة :"هل تعتقدين أنني أعمل هنا لأثب هذا الكلام الفارغ الذي تهذرين به؟ هل تريدين أن تعرفي حقّا لِم أعمل؟ هل تريدين أن تعرفي؟ لقد كان زوجي سكيرا يا آنسة، أصحاب السوء لم يتركوه و شأنه, و أبوا إلا أن يجعلوه سكيرا مثاليا، يتدبر المال ليذهب به إلى الحانة! بينما عائلته تتضوّر جوعا! هل عشت أمرا كهذا أيتها الصغيرة؟ لقد كنت أختلس النقود اختلاسا كي أعيش، و حين ينهض، يضربني بشدة، يلقي على ظهري كل الآلام التي تلقاها من صعاليك حانته. لقد قتل كل ما فيّ من أمل في عيشة هانئة البال، و لم يعد لديّ ما أخسره. هكذا تفطنت إلى جثتي الضخمة، و يدي الغليظة، و هكذا علمت أنه مع حالة السكر الدائمة التي كان عليها، بإمكاني أن أدافع عن نفسي! هل رأيت امرأة تضرب زوجها؟ كنت أضربه مساء، و أبكيه صباحا! كنت أفتك ماله افتكاكا حتى أقتات أنا و ولدي. و بات هو أضحوكة بين رفاقه. هل عشت في عالم كذا معالمه يا آنسة؟ لقد تسببت في مقتل زوجي بدفاعي عن نفسي! ضاق ذرعا بالمهانة، و افتعل شجارا لينقذ شيئا من رجولة بالية، فوقع قتيل زجاجة خمر مهشمة..



هل تعرفين يا آنسة، ما الذي وجب أن تفعله امرأة مثلي لتعيش مع ابنها؟ تجوب الشوارع بحثا عن عمل.. فكرت أن أعمل مشروعا بسيطا بما تبقى بحوزتي من مال، لكن أي مشروع سينجح بذلك القدر الضئيل من المال؟ هكذا تدخل أحد الجيران لينقذني. عرض عليّ أن أتعلم سياقة الشاحنات الثقيلة بالمال الذي أملك، و ضمن لي مكانا في الشركة! أتفهمين الآن لِم أعمل؟ أتفهمين هذه الأشياء؟
إنني أعمل من أجل ذلك المعتوه ابني! أعمل من أجله كي يعيش و أنا أعلم جيّدا أنه ما من أحد في المنزل اليوم ليحرص على تربيته.. و أنا أعلم أنه سيكبر يوما ليصبح مثل أبيه صعلوكا! لكن ما باليد حيلة.. يجب أن أعمل لنعيش!
هل تعتقدين أنني أعمل من أجل العمل، و حلاوة العمل، و هذه الخزعبلات التي تملؤون بها شاشاتكم؟ اريد فقط مالا لأحيا! و لو وجدت رجلا نذلا سيّء المعاملة، متعجرفا له مال لما رفضته إطلاقا، فهو على الأقل سيوفّر لي فرصة البقاء بجانب ولدي و إنقاذه من الانحراف! أتفهمين الآن ماذا أريد؟ أعطني المال!"
"أعطها المال يا ابنتي!"
قالها المصوّر في محاولة لإنهاء هذا المشهد الدرامي الذي وجد لنفسه طريقا بينهم. لكنّ الصحفيّة و قد اشتدّت عصبيّتها صرخت :"أرفض بيع مبادئي!"
"إذا فانزلا."
"و لكن..."
"انزلا!!!!"
هذه المرة كانت الصرخة مريعة أفهمت الصحفيّين أن السيدة صابرين محل ثقة بالفعل! ها هي ذي تستل عصا غليظة من تحت مقعدها! لقد انتهى النقاش إذا!
و ينزلان و قد و امتقع وجهاهما من الذهول و الصدمة، بينما أطلقت المرأة سبابا ساخطا و واصلت طريقها مبتعدة..
و على حافة الطريق، جلس الصحفيّان يتابعان الشاحنة المبتعدة ببصرهما. ثم قال فتحي:" أهذا وقت مبادئ؟"
"أرفض أن أدفع مالا من أجل حوار صحفي!"
"و لا ترفضين فبركة الحوار."
"لن تفهم الأمر أبدا!"
"ربما، و لكنني صوّرت كل شيء، لو تحتاجين إلى عملية تركيب متقنة."
"سأعد سيناريو وفقا للقطات التي لدينا. الحمقاء، تعتقد أننا سنقف منتظرين عطاياها."
"حسنا، و لكن السيّارة بعيدة، و سنضطر للذهاب راجلين."
فأطلقت سبابا سوقيا بالفرنسية و هي تهتف :"انتظرني."




تمت بحمد الله
فاروق الفرشيشي
19.06.2009

Friday, March 13, 2009

الوسام


كان التراب ثقيلا فوق المعول، و كانت يداي تعملان بحزم شديد...

*****

قلت لجدي و أنا أواريه تحت التراب:"لِم لم ترو لي قصتك مع النضال؟"
غشاوة من الدموع صمت أذني، و لعله لم يقل شيئا. أبعدني أحدهم و تناول المعول عني و شيئا من الأجر.. وحّدت مبتعدا عن المكان أو هاربا، و عيناي لا تفارقان تلك الحفرة العميقة المتحفزة.. اصطدمت قدماي بالنعش الذي كان على كتفي منذ دقائق... كان مركونا بعيدا عن القبر، و كان بجانبه العلم الأحمر الذي كان آخر ما ضمه إليه. و غير بعيد عنه، رأيت وسادة بيضاء رقيقة، عليها وسام أحمر صغير كتب عليه : الإستقلال.
لا أذكر كيف علق جدي على صدري ذلك الوسام يوما ما، و لكن الصورة التي التقطها أبي، تشهد على ذلك.. كان ذلك الوسام الذي قدمه له بورقيبة ذات احتفال، كل ما تبقى لجدي من سنواته التسعين أو نيف... مرضه أنساه كل شيء تقريبا.. القصرين، عمله بالمزارع، بالحضائر، بشركة المحولات، أرياف منزل بورقيبة، رحلاته مع الخمّار، ذكريات الصبا مع أخيه خليفة، رحلة عودته من سجن 9 أفريل (نيسان).. فقط بعض الأشباح التي لم تزل تراوده، فيحاول أن يصوغ ما شاء الله له أن يصوغ من الكلام المعقلن و الأحداث التي يمكن للسامع أن يستسيغها، لكنه لحسن حظه لم يكن يتكلم كثيرا.. جدي من المولعين بمقولة : ليس عندي ما يقال! هكذا عاش، أو هكذا عرفته..
قديما كان يحدثني عن بعض الأشباح التي لم تزل بمخيلته، "عمر البهيم" الذي ـ أعني جدي ـ أصر طوال حياته أن ينادوه "عمر الغزال"، و "الروامة" الذي حاز عنهم "دياره" و من ثم قدمها طبقا من فضة لأولاده.. لكن أكثر الأشباح مراودة له، كانت تلك التي تدعوه إلى مسقط رأسه "جومة".. لا يمكنني أن أخطئ ارتعاشة حاجبيه و شفتيه و هو يمتدح جومة.. حبه لــجومة جعلني أتخيلها في صباي جنة ضائعة.. فيما بعد، اكتشفت أنها منزلان و مقبرة على سفح جبل مهجور عند ضواحي منزل بورقيبة... ربما لم تكن كذلك بالأمس، لكنني حينما لامست نسماتها، أمكنني بشيء من الخيال أن أتفهم حب جدي لها.. لعلها كلما علق في ذاكرته المتآكلة..



" و ما الذي علق بذاكرتي أنا عن جدي؟"
تبادر السؤال إلى ذهني و أنا في طريق العودة مع والدي، فعرجت إلى ثنيّة أخرى طالبا من والدي أن يعود بمفرده... من بعيد، يلوح كتّاب بن شعبان، الذي تعلمت فيه أبجديات اللغة و القرآن و الحساب و الحياة، و بجواره تلك الضيعة الشهيرة التي تعلن بداية "طريق الكالاتوس" أو طريق مقبرة النصارى الجميل... أذكر كيف كان جدي ينتظرني عند مدخل الكتّاب باسما، يكتفي بأن يأخذ بيدي و يمضي في تلك الطريق بتؤدة...
ما ظل بذاكرتي عن تلك الأيام، يصور طقسا حزينا هادئا، مثل هذا اليوم تماما، و كان وقع المطر حينئذ كذلك الذي أسمع الآن : ثقيلا، بطيئا، كحركة جدي... يقف جدي ببرنوسه الثقيل القصريني، قبالة أشجار الضيعة و قد كسا الماء معظم أراضيها، و بعد بعض أزهار الربيع الأولى التي نسيت أو تناست أمطار آذار، كناجيات من مركب غارقة.. كان يقف صامتا. لا أخاله كان يتفكر في أمر ما، أو يتأمل.. بل لعله كان يتذكر، تماما كما أفعل أنا الآن.. هو ذا المشهد ذاته يتكرر أمامي بذات التفاصيل، و لكن من دون جدي... و هذه البقرات الناعسة؟ أكانت هناك أيضا؟ أعتقد ذلك.. في الواقع، صار من الصعب صنع حاجز بين المخيلة و الذاكرة، خصوصا مع شخص مثل هذا الرجل الذي لم يترك لفضولي غير أضغاث ذاكرة و سيلا من التخيلات...
جلست أتأمل المشهد و أحاول أن أقارنه بتلك الصورة التي اختزنتها ذاكرتي طوال أكثر من ثمانية عشر سنة كاملة.. من الغريب أن لا يتغير المشهد كثيرا، رغم تفاصيله الدقيقة، لكنني خمنت أن ذلك ليس بغريب عن مدينة مثل منزل بورقيبة.. هنا يصبح للزمن وحدات قيس جديدة، و تصبح الساعة ترفا قياسيا لا طائل منه. أ هذه هي المدينة التي ناضل جدي من أجلها؟ أكان يقف عند هذا المكان وقفة رضا أم حيرة؟ كل ما أعلمه أنه اعتزل الحياة تماما. لم يكن هناك شيء يشغله سوى الشاي و السيجارة.. لم يتابع الأخبار، و لا أحوال البلاد أو العباد. كأنما يقول : "لقد أنجزت مهمتي، و لم يعد من أمر آخر أجيد فعله. الآن بدأت مهمتكم، اصنعوا بلدا و عمروه، ابنوا جيلا طموحا لم ير مشاهد الذل و الهوان، لم يعمر عقله خرافات الجهل و تداعيات التخلف!" هل قدم جيل والدي ما دعا إليه جدي؟ هل وفروا التعليم و الصحة و الاستقرار؟ من المرجح أن نعم.. فما الذي تبقى إذا يا جدي؟ ما الذي تبقى؟

*****

قال لي جدي مجيبا : " قصتي مع النضال لم تنته حتى أرويها. قصتي مع النضال تنتظر أن تكملها أنت..."


Translate