Thursday, September 14, 2023

أوپنهايمر يلعب بالنّرد

تحتوي المراجعةُ على مقطعيْن:
 
1. اِندماج
 ---------------
 
فلمُ أوبنهايمر Oppenheimer آخرُ أعمال البريطانيِّ كرستوفر نُولَن. تجربةٌ بصريّةٌ أخاذةٌ لا يجبُ التفويتُ فيها بالمشاهدةِ المنزليّةِ عوضَ الذهاب إلى السينما. ليس فقط للتمتّع بتقنية IMAX الّتي صوّر بها كاملُ الفلمِ بما في ذلك الأبيض والأسود منه، وليس أيضا للغيابِ المُطلق للصّورِ الحوسبيّة CGI حتى في مشهد الانفجارِ النوويِّ الرّهيب. ولكن، لأنّ كثافة المادّة التي يقدمها نولن خلال ثلاثِ ساعاتٍ، تتطلّبُ تركيزا قد لا يسمح وضعُ جلوسِك المنزليُّ بتحقيقِه!
لم يعد أسلوب نولن يخفى على أحدٍ. فليس مفاجئا أن يلعب لعبتَه المفضّلة مع السّردِ ويقسمه إلى خطّيْنِ منفصليْنِ يحكيانِ حكايةَ أوپنهايمر بسلسلةٍ من المشاهدِ الاسترجاعيّةِ Flashback.
فأمّا الخطّ الأولُ، فيحدثُ سنة 1954، ويصوّرُ تفاصيلَ محاكمةٍ إداريّةٍ غير معلنة لمدير مشروع مانهاتن لصنع القنبلة الذرية روبرت أوپنهايمر R. J. Oppenheimer (أداء كِليان مرفي Cillian Murphy)، بسبب شبهة تعاونه مع السوفييت، وما يستتبعه ذلك من خطر تجريدِه من ترخيصه الأمنيّ الذي يسمح له بمواصلة أنشطته في المجال النوويّ. بعبارة أخرى، كان يواجه خطر نهاية مسيرته وتحطيم سمعته.
وأما الخطّ الثاني، فيحدث بعد خمس سنين (1959) ويصوّر وقائع جلسة استماع الشيوخ (Senate) لمرشّح البيت الأبيض لحقيبة التجارة، لويس ستروس Lewis Straus (أداء روبرت دوني جونيورز Robert Downey Jr.) ولمّا كان مفترضا أنها جلسة شكليّة لتزكية المرشح، تحوّل الأمرُ إلى مساءلةٍ مفاجئةٍ لعلاقةِ ستروس بأوپنهايمر وبمحاكمتِه السريّةِ الّتي يرويها الخطُّ السرديُّ الأولُ.
هكذا تتقاطع روايتا أوپنهايمر وستروس لقصّةِ مشروعِ مانهاتن وتختلفان. فميّزَ المخرجُ بالأبيضِ والأسودِ الرّوايةَ من وجهةِ نظرِ الثاني، وبالألوانِ المشاهد التي تمثّل روايةَ الأوّلِ. وبين هذا وذاك، يتفادى المخرجُ تكرار الأحداثِ، فيحدثُ التقاطع في لحظتيْن رئيسيّتين (اللقاء الأوّل في پرنستون، وجلسة استماع حول تصدير النظائر الذرية Isotopes) تكشفان عن طبيعة العلاقةِ الدراميّة بين الرجليْن، وهي علاقةٌ قريبةٌ من تلك التي خلّدها ميلوس فورمان بين موتسغت Mozart وأنطونيو سالييري Salieri في رائعتِه أماديوس Amdeus.
يتفادى المخرجُ أيضا أن يشعرنا بالمللِ رغم السّاعات الثلاث والمقاطع الحِواريّةِ الطويلةِ. فهذه المرة، وعلى عكس أفلامِه الأخرى، نشعر أنّه خفّف من حجم التحدّيات التقنية لحساب الدّراما والشّخصيات، فاختزلها تقريبا في مشهد تجربة ترينيتي Trinity. وفيما عدا ذلك، نجده أكثر تركيزا على حواراتٍ دسمةٍ كاشفةٍ عن جوانب عديدةٍ من الشخصيّة الرئيسيةِ. فتعمّق في ماضيه، وجعلنا نرافقه في رحلتِه الأوروبيّةِ لتحصيل المعرفة عن الفيزياء الجديدةِ، وعرض علينا أنشطته النقابية ومغامراتِه العاطفيّة، حتّى تجسّد الرجلُ عند اللحظة التّاريخيةِ مكتملَ الأبعادِ، مع زخمٍ تعبيريّ ينبعثُ من عينيْ مؤدّيه كِليان مرفي بلا حدودٍ، ويرشح بلا شكّ لجائزة الأكاديميّةِ مرفوقا بزميلهِ روبرت داوني جونيور عن أفضل أداءٍ لشخصية ثانويّةٍ.
ولن تنسى لعبة الاحتمالاتِ في حفل الأوسكار، أن تُنصف موسيقى ڤورنسون Ludwig Göransson وإدارة التصوير الفذّة لهويت فان هويتما Hoyte Van Hoytma.
قد يعاب على الفلمِ انحيازُه لأب القنبلة إلى درجة أنّه تجاهلَ ضحاياه الّذين يفوقون المائتيْ ألف قتيل، ليهتمّ بمعاناتِه السخيفة من تلك المحاكمة الإداريّة المكارثية الّتي أقيمت له. ولكنه يبقى فلما مدهشا عن پروميثيوس العصر الحديثِ، فإذا كنت ستشاهد فلما واحدا هذا العام، فليكن أوپنهايمر.
 
2. اِنشطار
-----------------------
تحدّث الفلم عن ضحايا القنبلة في أحد المشاهدِ بالفعلِ، وعدّدهم وأبرز هول الكارثة دون أن يغامر بصور قد تستفزّ. وهذا ليس غريبا عن نولن الذي تفادى تصوير الألمان في فلم دنكرك Dunkerk. على أنّ السؤال الذي يجب أن يُطرح هنا، لماذا عليه أن يهتمّ بالضحايا إذا لم تكن القنبلةُ ولا الحرب النوويّة ولا حتى أوپنهايمر نفسُه جوهر الفلم؟ إننا ولا جدال، إزاءَ قصّةِ أوپنهايمر المفصّلةِ مع القنبلة، ولكنّها تفاصيل منتقاةٌ بعنايةٍ شديدةٍ حتّى تكون القصّةُ العيّنةَ التي تجسّد الجوهر وتبيّنُه. والجوهر الذي بحث عنه نولن هنا، كان أوپنهايمر كإعادةٍ لتشكيل إدراكِنا للواقعِ والحقيقةِ من منظور فيزياء الكمّ.
وبهذا مثلا، نفسّر إغراق نولن في وصف تفاصيل رحلة بطلِه الأوروبيّةِ، وفي تعديدِ أسماءِ العلماءِ الكبارِ الذين وضعوا أسس الفيزياءِ الجديدةِ، من نيلز بور Niels Bohr إلى هايزنبرڨ Heisenberg. حتّى إنّه لم ينسَ أن يشير عَرضا إلى دور أينشتاين في فتح الباب لهذا العالمِ بنظريّة المفعول الكهروضوئيّ Photoelectric Effect (وبفضلها حصل على جائزة نوبل، لا بالنسبية).
وعندما عاد البطلُ إلى بلدِه لتدريس الفيزياء الجديدةِ، انطلق من هذه المسألة، عارضا على تلميذِه الأوّلِ لومنتس Giovani Rossi Lomanitz معضلة طبيعة الضوء المتناقضة: هو موجةٌ وجُسيْمٌ في الوقت نفسِه.
ولّدت حالات التناقضِ في فيزياء الكمّ نوعيْن من ردودِ الفعل: فإما التعامل معها بشكلٍ براغماتيّ أفرزَ قوانينَ ميكانيكا الكمّ القائمة على علم الاحتمال كما فعل بور Bohr. وإما البحث عن تفسير أعمق وأدقّ يعيدُ إلى الفيزياءِ حتميّتها، وهذا رأي ألبرت أينشتين، فالله لا يلعب بالنرد كما يقول. وبين هذا وذاك، نعلم يقينا خيار بطل نولن.
لم تكن طبيعة الأشياء من منظورِ فيزياء الكمّ سوى تأسيسٍ نظريّ لما سيهتمُّ بهِ نولن فعلا. وكما قال بطلُه لرئيسِه في جامعة بركلي الدكتور إرنست لورنس Ernest Lawrence (أداء جوش هارتنت Josh Hartnet) حين وجد على السبورة دعما صريحا للثورة الإسبانيّةِ: لقد احتضنتَ الثورةَ في الفيزياءِ، فهلاّ رأيتَها في كلِّ شيء آخر؟
لقد عاش أوپنهايمر ثورة مفاهيمٍ أفرزها اتصالُه بفيزياء الكم، فلم يعد يسمعُ موسيقاها فحسب، بل بات يشعر بها، كما دعاه إلى ذلك نيلز بور، وكما عبّر عن ذلك نولن بلقطاتِ النجومِ والمطر المتتابعة، ولقطة تأمّل بطلِه في لوحة پيكاسو "امرأة جالسةٌ عاقدة ذراعيها" Femme assise aux bras croisés (في الحقيقة، أنجز پيكاسو اللوحة سنواتٍ بعد عودة أوبنهايمر إلى الولايات المتحدة)، قراءته لقصائد توماس إليوت T. S. Eliot في ديوان الأرض الضائعة The Waste Land. وتشير كلُّ هذه العناصرِ إلى انبثاق عالمٍ جديدٍ أمام أعين أوپنهايمر، عالمٍ لا تكادُ حقيقتُه تطالُ وإنّما تُلتمسُ من خلالِ أوجهها العديدةِ والمتناقضة. وكان أوپنهايمر عبر فهمه العميق لأبعادِ ميكانيكا الكمّ، أقدر النّاس على إسقاطِ منطقِها على تجربتِه الوجوديّةِ ذاتها. فكانت حياتُه، كما أبرز ذلك نولن، اِنعكاسا لهذا الإدراكِ.
على ضوء هذه العناصر، يمكن أن نفهم سبب تركيز نولن على علاقاتِ بطلِه الغراميّةِ. لا يتعلق الأمرُ بصيغة درامية جمالية، ولا مجرد استدراك بسيط حيال الانتقادات الّتي طالما حاصرته بسبب عزل أبطالِه بعيدا عن أية معالجة درامية تؤسس لرابط عاطفيّ مع المشاهد. صحيح أن مشهد الجنس الداعم بسخافةٍ لمفهوم الانجذاب للأذكياء Sapiosexuality كان مسقطا ومتكلّفا إلى حدّ يقوّي احتمال انصياع نولن لمنتقديه، لكنّ علاقة البطلِ بحبيبتِه في عمومِها قائمة على التناقض المنطقيّ (لكنها تعمل Yet it works) وعلى عالم من الاحتمالات الكمية. متناقضان إديولوجيا، منجذبان جنسيا، تقبل زهوره، وتلقي بها في المهملات، ترفض علاقتها به، وترفض التخلي عنه، يحبها ويتزوّج أخرى… حين يقف أوپنهايمر أمام باب جين تاتلوك Jane Tatlock (أداء فلورنس پيو Florence Pugh) يتحوّل إلى إروين شرودنڤر Erwin Schrödinger حيث لا سبيل إلى معرفة النتيجةِ إلا لحظة فتح البابِ.
يعمّم نولن هذه الصورة على مختلف شخصيات الفلمِ. جميعهم أشبهُ بإلكترونات نيلز بور Niels Bohr الّتي لا يمكن التنبّؤ بحالتِها في أي وقت، وإنما نكتفي بحساب احتمال حالتها في لحظة ما. أما بعيدا عن تلك اللحظة نفسها، فالنتيجة سوف تبدو مفاجئة أو غير معقولة. سوف تفاجئنا زوجتُه كيتي (أداء إملي بلنت Emily Blunt) اللامباليةُ بالقيمِ أو بالأعرافِ أو بابنها نفسه، بثباتِها أمام المحقّقين وتلاعبها بهم. وسوف تفاجئنا أكثر وهي التي تغير الرجال كما تغير الثياب، بثباتِها أمام إهاناتِ زوجِها، وتشبّثها به. سيفاجئنا الدكتور لورنس بشهادتِه ضدّ صديقه الذي دافع عنه طيلة أحداث الفلمِ ودعمه. وسيفاجئنا الدكتور هيل Hill (أداء رامي مالك) بوقوفِه إلى جانب أوپنهايمر الّذي أهانه في كلّ مرة يلتقيه فيها).
وحدهم السياسيون يمكن التنبؤ بأفعالِهم وخياراتِهم كأنهم كائناتٌ مسطحةٌ من عالمٍ أقل تعقيدا لا تنطبق عليه فيزياء الكمّ. تراهم، على تقلّب خياراتِهم، ثابتون بشكل مدهش، وموجهون كبوصلةٍ نحو ذواتهم المتضخّمة. وإذا كان لويس ستروس هو المثال الأهمّ الذي قدّمهُ نولن، فإنّ الرئيس الأمريكي ترومان Harry Truman (أداء ڤاري أولدمان Gary Oldman) هو المثال الأعنف والأكثر تطرفا، أو لعلّني لا أنسى ذلك الوغد الذي سحب كيوتو من قائمة المدن المرشّحة للاضمحلال، لأنّه قضى فيها شهر العسل، ولأن زوجته تحبها! مركزية ذاتية مريعة تنتصب بديلا مضحكا لفلسفة أقلّ وثوقية بكثير. والصراع بين أوپنهايمر وستروس كما أراده نولن، هو هذا. هو صراع بين نمطين للإدراك. أحدُهما ثوريٌّ والآخر بدائيٌّ تماما.
دعك من خرافة ساليري. ربما أرادها المخرج حقا، لكنّه فشل فيها تماما، وحسنا فعل. فشخصية ستروس تقف على طرف النقيض من شخصية الموسيقي الإيطاليّ. لقد أثبت الأوّل حتى آخر لحظات الفلمِ عجزهُ عن فهم العلماء وطريقة تفكيرهم، حتّى قال له مساعدُه: ربما لم يتحدّثا عنك، ربما كانا يتحدّثان عن أمر أكثر أهميّة! أمّا سالييري، فقد كان السبّاق إلى استيعاب عبقرية غريمهِ وموهبتِه الفذة، وكان فهمُه هو سبب مأساتِه وليس العكس.
كان فلمُ أماديوس عن سالييري بالأساس. هو من يروي الحكاية كلَّها، وهو من يحرّك الأحداث فيها. أما عند نولن، فنصيب ستروس من الأحداث جزؤها الأخير، وحسبُه من المشاهد أقل من سدسها كأي شخصية ثانوية. لا تثير شخصية ستروس أي تعاطف، كأي شرير كلاسيكيّ. أما شخصية سالييري فتعرض مأساة إنسانيّة عظيمة وتطرح تساؤلات مؤلمة.
ستروس هو سطحية نظرة السياسيِّ في مقابل عمق نظرة العالِم وثرائها. كأنّ الأول يرى العالم إما معه أو ضدّه، في حين يرى الثاني العالم بكلّ أطيافه اللونية. ألذلك غابت الألوان عن المشاهد التي من منظور ستروس؟
ربّما ينبغي تنسيب هذه المسلَّمة قليلا. صحيح أنّ مشاهد الأبيض والأسود توافق منظور ستروس وروايته للأحداث. لكن لا يمكن تحقيق الشيء نفسه بإطلاق مع مشاهد رواية أوپنهايمر الملونة. ففي بعضها نلحظ غياب منظور أوپنهايمر (مشهد جين العارية في التحقيق كان من منظور كيتي، ولقطة مرور لورنس للشهادة كان فيها أوپنهايمر مطأطأ الرأس، وفي بداية الفلم نرى محاضرة للبطل بالهولندية من منظور إيزيدور رابي Isidor Rabi).
إن مخرجا بخبرة نولن، لا يحتاج إلى تغيير الألوان ليعبّر عن منظور ما للقطاتِه. والفلم مليء بالفعل تلك الآليات التي تحقّق ذلك كالوصلات (Match cut) ولقطات منظور الغائب 3rd Person P-o-V… وبعبارة أخرى، ما كان غياب التمييز اللونيّ ليربك تجربة المشاهدة، أو يمنعنا من إدراك وجهة النظر التي يروي المشهدُ من خلالِها.
ثمّ هناك العنونة التي تتصدّر مشاهد كلّ خطّ سردي: إندماج Fusion للأبيض والأسود، وانشطار Fission للخطّ الملون. كأنّه يعمد إلى التذكير بأن أوپنهايمر عاش تجربتين مع القنبلة الذرية: كانت الأولى طويلة الأمد، وهدفه خلالها صنع القنبلة، أما الثانية فبدأت مع التفجير تقريبا، وكان هدفه فيها، التصدي لصنع قنبلة هدروجينية. وبهذا المعنى فنولن يحاول أن يذكر بأن أوپنهايمر ليس أب القنبلة النووية فحسب، بل هو أحد المناضلين ضد حرب التسليح النووية وإن كان العالم يتناسى ذلك ويتجاهله.
ولا شكّ عندي أن نولن يدافع عن بطلِه وينتصر له رغم معارضته الصريحة (كما يرد في الحوارات الصحافية) لصنع القنبلة. ويستند في انتصاره له، إلى حسن نيّته وحسرتِه الصادقة على ما اقترفه. يمرّر لنا ذلك ضمنيا حين سلّم أوپنهايمر ابنه إلى صديقه واصما نفسه بالأنانيّ البشع، فأجابه إن الأنانيين البشعين لا يدركون بأنهم كذلك. ولكنني أجده يفشل رغم جدية مشروعه.
يطغى الحوار على الفلم حتى الإرهاقِ، وهو مع ذلك عاجز أن يمدّ بطله بقولٍ مقنع واحد يخلّصه من هول وضوح الجريمة. بل إنه يكرّر الاتهامات المعروفة دون أن يردّ عليها بشيء يعلق بالذهن. هتلر مات واليابانيون على مشارف الاستسلام. ولا يأتي عزاءُ أوپنهايمر إلا من خلال الصّورةِ، مثل مشهد خطابِه البليغ إثر حدوث الجريمة، وسحنة كليان مرفي العبقريّةِ حين تلقّت شخصيّته خبر التفجير.
إضافة إلى الصورةِ، يحضر الدفاع عن أوپنهايمر من خلال الفكرةِ الرئيسية التي سبق تفصيل القول فيها. إذ لم تكن القنبلةُ قرارا شخصيا اتّخذ في لحظة واضحة السياق والعناصر والحيثيات. بل هو مسار طويل متشابك التناقضات والصدف واللقاءات والتفاعلات. زوجتُه تدفعه إلى القتالِ من أجلِ إدارة المشروع الذي لم يدرك أبعاده بعدُ، رئيسُه في العمل (إيرنست لورنس) يدفعه دفعا بعيدا عن النشاط النقابيّ ليتسنى له العمل في المشروع، وجيش العلماء الذي يعمل تحت إشرافه بجدية يستحيل أمامها التراجع والتفكير في العواقب، فهناك أجل، وهناك هوس علميٌّ يشلُّ مَلَكة التأمّل. تصبح القنبلة في كل هذا السياق مجرد حتمية تاريخية قادمة لا محالة، وكان أوپنهايمر فقط وجه النرد الذي كشف عنه السقوط.
لقد كان أوپنهايمر مخطئا بلا شك، يؤكد نولن، لا لإرادة أصيلة فيه، ولكن لأنه كان هناك، في تلك اللحظة ليس أكثر. ولو أعيد كل شيء فقد لا يكون هو وجه النرد الطالع، ولم يكن ربما ليقترف جريمته. الحياة لعبة احتمالات كما تقول قوانين فيزياء الكم، وكما يقول لنا نولن. وهو مذهب كنت سأبدي نحوه تفهّما أكثر لو عرض عليّ بشكل أقل تشنّجا، وعلى امتداد مساحة تأملية أكثر امتدادا داخل الفلم، وبحوار أقصر بكثير مما تعرّضت له. إنّ ثلاث ساعات من الحوارات المكثفة واللقطات القصيرة المتتالية شيء مرهق جدا، ولا أظنه يزيد من جمالية العمل بأي قدر. ففلم طويل لا يكون مرتفع النسق بالكامل إلا لخلل فيه.
فهل كان هناك داعٍ للالتواءة السردية ونحن أمام قصة تاريخية؟ وهل لويس ستروس بتلك الأهمية التاريخية التي كانت ستجعلنا نقفز من مقاعدنا صارخين في ذهول: لقد كان ستروس إذا!
حتّى كيتي زوجة أوپنهايمر لم تكن مُقنعة وهي تصرخ بهذا. لماذا لم تقولي ذلك منذ البداية يا كيتي؟ أنت لم تحصلي على أية معلومة إضافية، فلماذا تقولين ذلك الآن؟ مجرّد محاولة متكلفة للإيحاء بقيمة مفاجأة لا تهمنا كثيرا. إذ لم يشرَّك المشاهد في عملية البحث عن الفاعل طوال الفلم. قدّم لنا المخرج دوافع الفاعل، ولم يمنحنا الأدلّة.
ثمّ، ذلك السر الرهيب الذي تقاسمه العالمان في النهاية. كان أينشتاين يلهو هانئ البال أمام البركة في پرنستن Princeton سنة 1947 أي سنتين بعد الجريمة الكبيرة، وجاءه أوپنهايمر ليخبره أنّ سلسلة التفاعلات النووية التي قد تدمر الكوكب قد انطلقت بالفعل. يعلم جميعنا أن العبارة مجازية، إلا أذكى رجل في العالم الحديث، فقد اغتمّ قلبه فجأة كأنما أدرك لتوّه معنى إلقاء قنبلة نووية…
لا يختلف فلم أوپنهايمر عن باقي أفلام نولن في سياسته وفي غرضه الفنيّ: محاولة خلق تجربة بصرية لمفهوم ملتبس الإدراك (الزمن، الواقع، الذاكرة، الجاذبية…) ولئن حاول هذه المرة تلافي تقصيره الدراميّ الذي طالما اتّهم به، فقد سقط في إفراط أفسد التجربة إلى حدّ مؤسف. ولم يساعد الموضوع المستفزّ، ولا تذبذب الفلمِ بين غرضيْه الفني والترفيهيِّ في إعادة بعض التوازن. لقد كان نولن أقدر المخرجين على الإتيان بأفلام فنية ذات ميزانية عالية Blockbuster Art film، فمن العجيب أن يخيب في ذلك حين يكون موضوع الفلم، عن تقبّل التناقض في الأشياء.
إنّ ما ورد في مقطع الاندماج ليس إلا أبرز الملاحظات التي تكررت عن الفلم وأحببتُ الإجابة عنها في مقطع يمثل منظوري الشخصيّ كما فعل نولن في فلمِه. لذلك، فلست أتبنى الحماس الكبير تجاه الصّوت في أوپنهايمر. مازالت الموسيقى تطغى على الحوار بشكل يعيق تجربة المشاهدة، وهو خلل في تقنية IMAX باعتراف نولن نفسه، ولا يحاسب إلا هو على خياره. فهل كان ضروريا استعمال IMAX في فلم يقوم كلّه على الحوار؟ وهل كانت تجربة ترينيتي تستحق كلّ ذلك؟ صحيح أن نولن لم يستعمل الصورة الحوسبيّة، ولكنّه استعمل مؤثرات بصرية، وراكم لقطات التفجيرات لصنع شكل يقرب من عش الغراب.
وختاما، فلو كنت ستشاهد فلما واحدا في السنة، فليكن فلم أوپنهايمر. ليس لأنه الأفضل، بل لأنك لست من هواة السينما كما هو واضح، ولست إلا باحثا عن شيء تعمّر به حياتك الاجتماعية، وأعتقد أن فلما شاهده الجميع تقريبا، أنسب خيار لذلك. أما إن كنت تشاهد أفلاما كثيرة، وفاتك أوپنهايمر، فلابأس من ذلك، فهناك أعمال عظيمة أخرى جادت بها السنة، وتستحق وقتك.
 
الدّفتر الأزرق
كتب في 6 آب 2023


Translate