Saturday, November 6, 2021

كرفس الماء

 ينقلُ فلمُ مينَري Minari السّؤال عن الهويّةِ من محتواهُ إلى ذاتِه. فهل هو فلمٌ أمريكيٌّ أم كوريٌّ أم كلاهما؟ قد لا يختصُّ فلمُ لِي إسحاق تشُنغ Lee Isaak Chung بهذا السّؤال وإنّما يشملُ كلَّ أعمالِ سينما الدِّيَسْبُورة Diaspora، وأعني بذلكَ تلك الأفلام الّتي تُعبّرُ عن جماعاتِ الأقليّاتِ المهاجرة/المهجّرةِ، كأفلامِ المغاربةِ في فرنسا، وسودِ المخيّماتِ في أمريكا، والسّوريّين في أوروبا… بيدَ أنّ السّؤالَ في مينَري يأخذُ بعدا آخر: مرّةً لأنّ مجتمع الكُوريّين في أمريكا مجتمعٌ محدودٌ لا نكادُ نجدُ له آثارا سينمائيّةً سابقة (عكس الصّينيّين الأمريكيّين مثلا)، ومرّة أخرى لأنّ الشّاشة الأمريكيّةَ والعالميّةَ طبّعت مع السّينما الكوريّةِ بقدرٍ عظيمٍ مع فلمِ الطُّفيلِ (Parasite) فبدا فلمُ مينَري كحلقةٍ وسطٍ بين فصيلتيْنِ مختلفتَيْنِ من شجرةِ السّينما التطوّريّةِ.


لقد بثَّ تشُنغ في فِلمِه بعضَ صفاتِ السّينما الأمريكيّةِ، فهو دراما عائليّةٌ بطلُها أبٌ (جيكُب أو يعقوب) يسعى لتحقيقِ حُلمِه الأمريكيِّ بتعميرِ أرضٍ فلاحيّةٍ وتوفيرِ حياةٍ مرفّهةٍ لزوجتِه مونِكا وابنيْه دَيْفِد وآنّ. وفي سردِه ما فيه من تقنياتِ التشويقِ ما يمتعُ المشاهدَ ويُقحمُه في رحلةِ بطلِه لتجاوزِ العراقيلِ وتحقيقِ الهدفِ المنشودِ. وفي الآن ذاتِه، نسيرُ مع مينَري بنسقٍ متقلّبٍ بين البطء والسُّرعةِ ببراعةِ الرّاقصينِ، يأخذُ وقتهُ لنرى المشهدَ "في" تفاصيلِه، ويأخذُنا بغتةً في مراوَحةٍ بين مشهدَيْن ليفعمَنا بإثارةٍ غير منتظرةٍ، وهو ديدنُ السّينما الكوريّةِ (مذكّراتُ قاتلٍ 2003، الطّفيل 2019، حارق 2018 الخ). ولئن انتحلَت القصّةُ هيئة حكايةٍ أخرى عن الحلمِ الأمريكيِّ، فهي من وراءِ ذلك، حكايةُ اندماجِ عائلةٍ كوريّةٍ في الوسطِ الأمريكيِّ الغريبِ. ولقد روى لنا تشُنغ هذه الحكايةَ على مستويات متنوّعةٍ.


أهمّ هذه المستوياتِ هي الشخصيّاتُ، فبِها حبكت الدّراما وليس بالأحداثِ. لِجيكُب ومونِكا رؤيتان مختلفتان لهدفٍ مشتركٍ هو ضمانُ حياةٍ عائليّةٍ سعيدةٍ. وهاهنا تتشكّلُ عقدةُ الدّراما. تفضّلُ الأمُّ المنزلَ القديمَ في كالفورنيا، حيث الحياةُ الحضريّةُ السّهلةُ والوجودُ المؤنسُ للمجتمع الكوريِّ المهاجرِ والعملُ المضمونُ. وفيما تسخطُ على واقعٍ جديدٍ لا يحقّق كلَّ ذلك، يتطلّع زوجُها إلى مستقبلٍ أجزى من قضاءِ الوقتِ في تفرقةِ فراخِ الدّجاجِ حسب جنسها. لا يهمّه أن يتغرّب أكثرَ داخلَ غربتِه بالابتعادِ عن الحضرِ، والانعزالِ في ريفٍ ناءٍ في منطقةٍ داخليّة مثلِ أركانسس Arkansas، ولا يهمّه أن يخسر مالَه وجهده، فشعورُه بعدم الأمانِ مرتبطٌ بالمستقبلِ لا بالحاضرِ. قد يبدو الأبُ أكثر أنانيّةً وإصرارا على مجدٍ شخصيٍّ لا يبالي ولو بصحّةِ ابنه، لكنّ الحقيقةَ أنّه لا يختلفُ كثيرا عن زوجتهِ، كلاهما ينطلق من رغبةٍ ذاتيّةٍ يعمّمُ فائدتَها على الأسرةِ، فأكثر ما يزعجُ مونِكا وحدتُها المحدَثةُ: لا كنيسةَ كوريّة، ولا أقرباء، ولا أيّ عنصرٍ يحضرُ من خلالِه وطنُها المهجورُ، ومع كلِّ مرحلةٍ تفاوُضيّةٍ حولَ مستقبل العائلةِ ومآلِ المشروعِ الفلاحيِّ، ترضى المرأةُ بإجراءٍ لصالِحها: قدومُ أمِّها، والذّهابُ إلى الكنيسةِ. فكان الصّدامُ بين الرؤيتيْنِ محرّكا أساسيّا للدّراما.


هاجرَ الزّوجان من كوريا بحثا عن حياةٍ أفضلَ، وفيمَ كانت مونِكا ترى أنّ الهدفَ قد تحقّق تقريبا بالاستقرارِ في كالفورنيا، كان جيكُب مصرّا أنّ الهجرةَ مجرّدُ بدايةٍ، وأنّ الهدفَ يحتاجُ تضحياتٍ أكثرَ ومعاناةً أطولَ، ومزيدا من الهجرةِ. وبالتّالي تمثّل الشخصيّتان أيضا، مستويَيْنِ متباينيْنِ من الاندماجِ: لا تجيدُ مونِكا الانكليزية، وتعاني من تغرّبٍ يشتدُّ كلّما أوغلت عائلتُها في قلب القارّةِ الجديدةِ. اُنظروا كيف استقبلت روائح بلدِها وبهاراتِه وأكلاته بالدّموعِ حين جئن مع أمّها! أمّا جيكُب، فرغم اندفاعِه نحوَ بيئتِه الجديدةِ، ظلَّ محافظا على مسافةٍ فاصلةٍ معها، وقد جسّد المخرجُ ذلك ببراعةٍ في علاقته بعامِلِه الإنجيليِّ پول. وعلى يمينِ الأمِّ من محرارِ الاندماجِ، توجدُ أمُّها الّتي تأتي لتوّها حاملةً بلدَها في يديْها وعروقِها وروحِها، ولم يعد للعالم الجديدِ مكانٌ داخلِها إلاّ كلماتٍ لا تكادُ تعني شيئا. وعلى اليسارِ نجدُ الطّفليْنِ، آنّ Anne الّتي تجيد الكلام باللغتيْن، وتُبدي راحةً وقبولا لازدواجِها الثقافيِّ، وديفد الولدِ الصّغيرِ الّذي لم يعرف وطنه الأمّ ولا يزال يبحثُ عن جزئِه الكوريِّ. طيفٌ اندماجيٌّ طبيعيٌّ بحسبِ الجيلِ، ولكنَّه صُوِّرَ بعنايةٍ فائقةِ التفاصيلِ.


في مستوى ثانٍ، شكّلَ تشُنْغ صورةً طريفةً للمُهاجِر في مواجهةِ الآخَرِ. فالمعتادُ أن يظهرَ كموضوعِ النّظرةِ المُهيْمِنَةِ Object of Dominant Gaze. أن يبدوَ موضوعَ فحصٍ ومصدرَ غرابةٍِ، أمّا في مينَري، فتفكّكُ هذه العلاقةُ العموديّةُ وتتحوّلُ إلى ديناميكيّةٍ طريفةٍ، فبعدما استقبلَ الولدُ الأمريكيُّ نظيرَه الكوريَّ بملاحظةٍ مألوفةٍ عن وجههِ المنفطرِ، نرى ديفِد في منزلِ صديقِه الجديدِ وهو يكتشفُ الآخرَ الأمريكيَّ الغريب، ولا شكَّ أنّه استطاعَ أن يدفعنا كمشاهدين أن نتطلّعَ إلى هذا الأمريكيِّ بذاتِ الدّهشةِ وهو يتنكّر بهيئة رعاة البقرِ، أو يجرّبُ ما يشبه "النفّة" (أو الشمّة أو التمباك أو القات ولكلِّ قطرٍ مخدّراته).

 

تظهر الصّورةُ الأوضحُ لهذا التفكيك، مع ما يحدث مع جيكُب ومشروعه. إذ يواجه منذ البدء، طريقة الأمريكيين التقليدية للبحث عن الماء بواسطة عصا يسير بها أحدهم هلى غير هدى حتّى تميل إلى أسفل. يجعلنا المخرجُ نرى بعينِ جيكب المتغرّبة، غرابةَ السّلوكِ الأمريكيِّ وعزوفه عن المنطقِ. يتحوّلُ بذلكَ موضوعُ النّظرةِ المهيمِنةِ من الشّخصيّةِ الكوريّةِ المهاجرةِ، إلى الشخصيّةِ الأمريكيّةِ صاحبةِ الخطابِ المهيمنة، مفكّكا علاقة التماهي بينها وبين الذّات النّاظرة.

 

أمّا المستوى الثالثُ من حكاية الاندماجِ، فتحدث عبر رمزيّة الغذاءِ ودلالتِه. لا ننسى هنا أنّ قضيّة الحكايةِ المركزيّة تتعلّق بتعمير الأرضِ، وما يدلُّ عليْه تعميرُها من علاقةٍ مباشرةٍ وقويّةٍ بينه وبينها. فهو يتجاوزُ المجتمعَ وعاداتِه ولغتَه لينبذِرَ في الوطنِ الجديدِ دون وساطةٍ. أو هكذا خيّلت إليه قدرتُه. فقد احتاجَ جيكُب إلى وساطةِ پول أوّلا، ثمَّ إلى لمسةِ الجدّةِ ثانيا. زَرعت نبتة مينَري على ضفاف الجدولِ، فكانت ربّما نجدةَ جيكب الأخيرةَ بعد الّذي حلّ بمشروعه. لا انغراس إذًا، ولا إثمار إلّا بديناميكيّة تحضرُ فيها الجدّةُ (رائحتُها مثل كوريا كما قال حفيدُها) وذلك الأمريكيُّ البسيطُ پول. لا شيءَ أكثر دلالةً على الثقافةِ من الطّعامِ. ولقد اعتنى تشُنغ بهذا التّفصيل بشكل يثير الغيظ من البراعةِ. هل تذكرون مشهد إفراغ الحقيبةِ وردود فعلِ مونِكا مع كلّ طعامٍ تُخرجه لها أمُّها؟ تحدثُ ردّة فعلٍ مقابلةٌ مع الطّفلِ ديفد هذا المتعوّدِ على الأكلِ الأمريكيِّ. فقد انعكست علاقتُه المتوتّرةُ مع جدّتِه على تذمّره من الطّعامِ الّذي أرغمَ عليه. وبهذا المعنى كذلك، يمكن أن يُنظر إلى واقعةِ شرب البولِ الطريفةِ. يمكنُ أن نفهمَ قيمةَ هذا المستوى الثالثِ، من اختيارِ نبتةِ مينَري عنوانا للفلمِ. مينَري أو كرفسُ الماءِ، هذه النّبتة الكوريّةُ النّافعةُ، المتنوّعة الاستخدام، اللّذيذةُ والرخيصةُ والمفيدةُ، تتخّذ وطنها الجديدَ بيسرٍ وكرمٍ، وكذلك أحبَّ تشُنغ لعائلتِه أن تبدوَ. لا ننسى أنّ الفلمَ ضربٌ من السّيرةِ الذّاتيّةِ المحوَّرةِ.


لا يلملمُ مينَري التّفاصيلَ من أجلِ خلقِ صورةٍ جامعةٍ ثريّةٍ، ولا يبثّها في أرجاءِ مشاهِده ليتزيّنَ برائحةِ الواقعيّةِ، ولكنّه يسردُ عبرَها الحكايةَ، ويملأَ التّافهَ (banal) بالمعنى، فإذا نحنُ أمام تجربةٍ عائليّةٍ بسيطةٍ، وفي الآن ذاتِه أمام قصّةٍ كونيّةٍ عن الإنسانِ المتنقّل وذاتِه المتحوّلةِ. مينَري بلا شكّ أحدُ أجملُ أفلام السّنةِ.

 


 



Tuesday, July 13, 2021

البطلُ ضدّ خالقه

وهكذا فإنّ فِِلمَ تينيت ليس بهذا السّوء الّذي يريد أن يقنعنا بهِ المنكوبون في كبريائهم والعاجزون عن المشاهدات المتعدّدة. إذ أراه ساحة صراعٍ طريفةٍ يواجهُ فيها البطلُ كاتبَهُ. هل تحرِّرُ الدّراما أبطالَها من أقلامِ كاتبيها، فيمرقون على ما كان مخطّطا مسبقا، أم يظلّون بيادق بين أصابع الخالق، يقدّر لها الأدوار كيفما يشاء، ويُخضعها لحتميّته الخاصّةِ؟
 
يَفترِضُ البدءُ بهذا السؤالِ، أن أعود بأفكاري إلى الوراءِ تسلسلاً مقلوبا حتّى أنتهيَ بالبداياتِ، أُسوةً بأحداثِ الفلمِ وبساحةِ الصّراعِ الّتي وضعَها نولَنْ لبطلِه ها هنا. لكنّني أشفق على نفسي من مشقّةِ كذا كتابةٍ، وعلى القارئِ من تكبّد عناء قراءتها. فلنعد للبداياتِ.
 
تينيت Tenet، هو آخر أفلام البريطانيِّ كريستُفر نولَنْ، وهو طريقتُه الكلاسيكيّةُ في استقبالِ العقدِ الجديدِ. فقد سبق أن استقبل العقد الأوّل من الألفيّة بفلمِ Memento. وبعد عشر سنين، ملأَ الدنيا وشغل النّاس بفلمِ Inception. تينيت إذا، ليس أوّل فلمٍ-أحجيةٍ ينجزُه ولكنّه بلا شكّ أعقدُها. ورأيي أنّه يحتلّ مرتبة متقدّمة في قائمةِ أعقد قصص الأفلام على الإطلاق. وليس يزيدُ ذلك من قيمتِه أو ينقصُ. فلا هو راجعٌ إلى ضُعفٍ في الكتابةِ أو الشّرحِ، ولا هو علامةٌ على ثراءِ الصّورة أو عُمقِ معانيها. إنّه تجربةٌ أسلوبيّةٌ في ذاتِها يمكن أن تنجح أو أن تفشل انطلاقا من الأدواتِ السينمائيّة الّتي ترافِقُها.
 
لا أفضّل الأفلام الّتي ترتهنُها قصصُها، فلا تقومُ إلاّ على الإخبارِ بأحداثِها. إنّها أفلامٌ لا تُشاهدُ وإنّما يُستمعُ إليها أو تُقرأ. وليس غريبا أن يكون أغلبها تراجمَ سينمائيّةً لرواياتٍ معروفةٍ، وأن توصمَ بتلك العبارةِ الشّهيرةِ: الكتاب خير من الفلمِ. يأخذ الحدثُ القصصيُّ فيها وأداءُ الممثّلين جوهرَ المشهدِ وتتراجعُ عناصرُ الصّورةِ وسيميائيّتُها إلى خلفيّةٍ باهتةٍ تُسهّل التغافلَ عنها. هنا حين يأكلُ أحدُهم فهو فقط ينقل إليك خبرَ الأكلِ. أمّا حين تعود السينما إلى جوهرِها كوسيط بصريٍّ، ينقلُ الأكلُ حالةَ الآكلِ النفسيّةَ (مشهد الأكل في فلمِ قصّة شبح A ghost story)، أو غرائزه الجنسية (مشهد المطبخ في فلم تسعة أسابيع ونصف

9½ Weeks)، أو طبيعة العلاقة العموديّة بين شخصيْن (مشهد البرغر في Pulp Fiction)...


والأكلُ في تينيت، ساحةُ حربٍ وخديعةٍ. حين جلست كاثرين بارتُن إلى مائدةِ الفطور، كانت تظنُّ أنّها قد نجحت في خداعِ زوجها، أندري ساتور تاجر الأسلحة الّذي تظنُّ، لكنُّه فاجأها بطبقِ طعامٍ خاصٍّ أعلن لها به كشفَه لخطَطِها.
 
قبل ذلك، اِحتاجَ البطلُ إلى الجلوس إلى ثلاثِ موائد عشاءٍ مختلفةٍ ليتمكّن من جمعِ المعلومات اللازمةِ والتّوصّلِ إلى استدراجِ أندري ساتور إلى ما كان يظنُّ أنّها خطَّتُه: مائدةُ السِّير كروسبي في بريطانيا، ثمّ مائدةُ كاثرين بارتُن وأخيرا العشاءُ في يختِ زوجِها. وبينما كان البطلُ يرتقي الدّرجاتِ إلى عدوِّه، مرَّ كلُّ شيءٍ بخفّةٍ وسرعةٍ مريبتيْن، كأنّما كان يُستدرجُ إلى الفخّ الّذي يُعدُّه. يتحوّلُ الأكلُ في تينيت إلى طُعمٍ، ويأخذُ التشبيهُ معناه أكثر من أيّ وقتٍ مضى على حافَّةِ اليختِ في المرحلةِ الأخيرةِ. فهل سيقع البطلُ فريسةَ الخديعةِ؟ تجيبُنا مشاهدُ الأكلِ البسيطةُ بحقيقةِ أنّه لم يأكل في أيٍّ منها!
 
ليس هذا إلاّ مثالا بسيطا. والأهمُّ أنّ تينيت، على تمحوُرِه حول الحدثِ القصصيِّ على عادةِ أفلامِ نولَنْ، لا يغفلُ قطُّ عن حقيقةِ أنّ السينما وسيط بصريٌّ قبل أيّ شيءٍ. فاستعمل مثلا تركيبة بصريّة من الأزرق والأحمر، لفكّ شفرةِ المشاهدِ المعقّدة. وأجرى ذلك على ألبسة شخصيّاتِه كفستان كاثرن الأحمرِ. وفي مشهد القطارِ، كان صريرُ السّكك الحديديّةِ يصفُ ببلاغةٍ ما كان يحدثُ داخل فمِ البطلِ المعذَّبِ. وكان اتّجاهُ حركةِ القطاريْنِ يُنبئُ بمحوريّةِ تلكَ اللحظةِ بين اتَجاهيْ الزمن المتقابليْنِ…

لا يهتمُّ الفلمُ بمناقشةِ فكرةِ السّيرِ عكس اتّجاهِ الزّمنِ، وإنّما بعرضِ التجربةِ فعليّا، بحيث يمكنُ للمشاهدِ أن يخوض غمارَها، أو على الأقلِّ أن يشعُرَ بتأثيراتِها: حياةٌ تسيرُ بشكلٍ عكسيٍّ من حولِك، ونهاياتٌ تعترِضُك لبداياتٍ لم تأتِ بعدُ، ودعوةٌ للتفكيرِ خارجَ منطقِ السّببيّةِ الطبيعيِّ. يرى بعض النّقّادِ أنّ تجربةَ السيرورةِ الزمنية المعكوسة ليس مثيرا بما يكفي ولا عميقا بما يشفي، ولا يستحقّ استثمارا فنيّا بهذا الحجم. مشكلةُ هؤلاءِ أنّهم يُقصرون التّجربةَ على تلك الفصولِ الفُرجَويَّةِ الّتي يتحرّك فيها بعضهم بشكلٍ معكوسٍ. لكنّ التجربةَ الّتي أرادَها نولَن أرحبُ وأثرى. فحين يضعُ مشاهِدَه على مسارِ رحلةِ البطلِ، يفرِضُ عليهِ أن يفكّر طبقا لقوانين اللعبة الجديدةِ، وبالتّالي يجعلُه يعيش تجربةً افتراضيّةً مكتملةَ الأركانِ.

ولئن كانت السينما عند نولَن تجربةً بالأساسِ، فإنّها لا تقصُر عن أبعادٍ فكريّة تتجاوزُ التّجربةَ وجماليّاتِها، لتتساءل عن السّينما نفسِها كآلةٍ لتشذيب الزّمنِ وإعادةِ تحديد ماهيّتِه. لعلّكم تذكرون مشهدَ التقاطِ الرّصاصةِ المعكوسةِ من على الطّاولةِ، وكيف أنّ عميلةَ المخابراتِ الشّقراءِ عرضت عليهِ تسجيلَ فيديو لعملية الالتقاطِ، فعكست سيرَ الفيديو فأصبحَ عمليّةَ إسقاطٍ. ألا تروْن في قلب المفاهيمِ هذا آفاقا مثيرةً وخطيرةً؟ ألا يخبّرُ عن سعةَ قُدُراتِ السينما، وأدواتِها؟ ثمَّ، ماهي طبيعةُ القَلبِ Inversion؟ هل هي تقويضٌ للحقيقةِ أم إنّها إثراءٌ لها؟ وبعبارةٍ أخرى، ألا تسمحُ لنا السّينما من خلالِ ما يبدو أنّهُ تقويضٌ للطبيعةِ، بالتّركيب، والخِدع، والتلاعب بخطّ السّردِ، بفهمٍ أدقَّ لهذه الطبيعةِ؟ ألا تسمحُ بتجاوزِ حدودِ حواسِّنا القَاصرةِ وطرقِ تفكيرِنا الاعتياديّةِ والبسيطةِ؟ ألا تسمحُ كضربٍ من الفنّ بتجلٍّ أدقَّ للحقيقةِ؟

هو ذاك التساؤل الّذي يعاودُنا كلّما شعرنا إزاء عملٍ فنيّ بلحظة كشفٍ. لكنّ التساؤلاتِ تستمرُّ مع تينيت، وتحديدا مع عنصره المحوريِّ، أي قصّته. أفلا تُرانا أمام أكثر من قصّةِ صراعٍ بين بطلٍ أمريكيٍّ ومجرمٍ روسيٍّ لإنقاذِ العالمِ؟

للتّذكيرِ، فنولنْ يعملُ هنا على صنفٍ genre سينمائيٍّ واضحِ المعالمِ، هو الخيال الجاسوسيِّ Spy-fi، وهو مزج بين الخيال العلميّ والجاسوسيّة. ولا شكّ أنّ سلسلة جيمس بوند هي أشهرُ أمثلةِ هذا الصنف: خطّةٌ لتصفية العالم أو السيطرة عليه، وبطلٌ ذكيّ، وشرير عدميّ، وتقنية متطوّرة، ومشاهدُ حركةٍ فرجوية بالجملة أبرزُها المطاردة المألوفة بالسيارات… لم يَغفل نولَن عن أهمّ عناصرِ الصّنف، مع إضافةٍ معتبرةٍ في جانب الخيال العلميّ الّذي يُهمَل عادةً ويُتركُ سخيفا. إنّني أجدُ في ذلك إجراءً تعديليّا مهمّا يُعيدُ هذا الصّنف الفرعيَّ إلى حظيرة الخيال العلميِّ.

ولا يكتفي نولَن بإعادةِ إخراج الخيال الجاسوسيِّ في ثوبٍ جديدٍ، بل يحاول أن يُخرجَه من خطابِه المألوفِ: خطاب الحربِ الباردةِ سياسيّا، وخطابِ الخوفِ الذّكوريِّ من امرأةِ ما بعدَ الحربِ العالميةِ. ففي تينيت، يُطلُّ الشريرُ الروسيُّ من نافذةٍ رأسماليّةٍ محضة: أعمال، يخوت، فنّ تشكيليّ، العملُ بشكلٍ فرديٍّ، النزعة العدمية الخ. في حين يعملُ البطلُ في إطارٍ جماعيٍّ يكادُ يكونُ أفقيّ العلائقِ.

كما غيّرت شخصيّةُ كاثرِن بارتُن من وجهِ المرأةِ في أفلام الجاسوسيّةِ. فلم نعد إزاءَ تلك الفاتنة الغامضةِ المخادِعةِ الّتي تستدرجُ البطلَ إلى الفخّ القاتلِ. ولم نعد إزاء ذلك الجسد الّذي لا يكاد البطلُ يظفر منه ببعض الوصلِ حتّى تتمَّ تصفيتُه/معاقبته بقسوةٍ. على العكس، كانت كاثرن مفتاح الوصولِ إلى العدوِّ، وكانت قد سُلبت حرّيّتها واستقلاليّتها ولم يبق منها إلا عنصرُ الأمومةِ الّذي كان مهدّدا. كانت كاثرن تحلمُ بنموذجِ المرأةِ في الأفلام الجاسوسيّةِ. ولم تدرِ أنّها ستحقّقه في النهاية. سار تينيت بالتّالي عكس أفلام الجاسوسيّة الّتي تعاقب المرأة على انفلاتِها من الطوع وتخلّص المشاهد الرّجلَ من شعور التّهديد. فانتصر للمرأةِ المستقلّةِ وانتصرَ لبطلٍ جديدٍ لا يقع تحت طائل فتنتها.

لا أحد يعرف اسم هذا البطلِ، ولا تاريخَه ولا مأساتِه الشخصيّةِ. يعرّف على أنّه البطلُ القصصيُّ Protagonist بإلحاح يدعو إلى الانتباه، ولا يملك أيّ مسارٍ دراميٍّ داخل الفلمِ كما هو بادٍ. وقد وجد النقاد في هذا التوجّه عيبا كبيرا. بل لم يجدوا من عيب حقيقيٍّ للفلمِ غير هذا. مشكلةُ أفلام نولَن أنّها تصنع مسافة بين المشاهدِ والشخصيات، بحيث لا نتعاطفُ معها. هكذا يقولون، كأنّهم لم يروا علاقة مرفي بأبيها في "بين النجوم" Interstellar، أو شخصية جوكر في فارس الظلام The Dark Knight، أو محنة دوم كوب في فلم استهلال Inception… إنّ الرّبط بين تأطير الشخصية وتعريفها وبين القدرة على التعاطف معها أو تقبّل مسارها الدّراميِّ هو أشبه بالرّبط بين صلصة الطماطم وعجين السپاغيتي Spaghetti، أي قائم على وهم التعوّدِ ليس إلا، ولنا في أفلام سرجيو ليوني العظيمةِ، وشخصيّةِ كلينت استوود Clint Eastwood الغامضة فيها خيرُ مثالٍ.

لقد كان من المهمّ تجريدُ البطلِ من كلِّ تخصيصٍ، والاكتفاء بتعريفِه بهذه الصّفةِ، لأنّنا إزاءَ صراعٍ يتجاوز لعبةَ الجاسوسيّةِ إلى لعبة الكتابة ذاتِها، حيث يقف البطلُ القصصيُّ في مواجهةٍ غير مألوفةٍ ضدَّ كاتبِه. يحاول أن يكون كلاسيكيّا قدر الإمكانِ: مخلصا ومتفانيا ومؤثِرًا وعامرا بتلك القيمِ الإنسانيّةِ المُثلى الّتي لا يكتسبُها المرءُ الطبيعيُّ بقدرما يكتسبُها الأبطالُ. لكنَّه يجدُ نفسَه في أرضٍ قصصيّةٍ متحرّكة كدوّامةِ رملٍ مخيفةٍ لا تُفهم قواعدها. يعابثه كاتبُه، فينقلُه من شخصية إلى أخرى، ويزوّدُه في كلّ محطّةٍ بالمعلومات الكافية للانتقال إلى المحطّةِ الأخرى: رجل المخابرات الأمريكيّ، سائق السيارة في الميناء، عاملةُ المخبرِ، نيل، تاجرةُ السلاح الهنديّةُ، السير كروسبي العميل البريطانيُّ، كاثرن بارتُن خبيرة الفنونِ، زوجُها الروسيّ أندري ساتور… في كلِّ مرّة، يعدّل البطلُ من منظورِه للعبةِ، ويحاولُ أن يبدأ بالتّحرّك وفقا للقواعدِ الجديدةِ، لكنّه يفاجَأ بتغييرِها. وفي كلِّ مرّةٍ يظنُّ نفسَه قد أحكمَ الخطّةَ، يجدُ أن خطّته مفضوحةٌ أو أخطأتِ الهدفَ. أحيانا بشكلٍ سخيفٍ كما حدث مع پريــا تاجرة السلاح الهنديّة الّتي هاجم البطلُ زوجها ظنّا أنّه هو المسؤولُ عن نشاطاتِها. نلمسُ في كلّ مرّة عبثا من الكاتبِ ببطلِه لأنّ الخديعةَ لا تغيّر شيئا من مسار الأحداثِ، ولا تمنحُ البطلَ إلاّ إحساسا مهينا بأنّه لا يسيطرُ على شيءٍ. هكذا، فقد أعصابه مع إصابةِ كاثرِن القاتلةِ. إنّها الفتاة الجميلةُ الّتي عليه أن يضمنَ سلامتَها كأيِّ بطلٍ قصصيٍّ محترمٍ، ولكنّ المفاهيمَ تتجاوزُه مرّة أخرى، فهاجم نيل، لأنّه كان يشعر أنّه يعرفُ أكثر ممّا يقولُ. والحقيقةُ أنّ نيل، يبدو أقرب إلى التجلّي القصصيِّ لكاتبِه. ينزل من علياءِ قلمِه كيسوعٍ داخلَ روايتِه ويتقمّص أحد شخصيّاتِه. ربما ليساعد بطلَه وربّما ليزيد من معابثتِه، وربّما ليعلن له في النّهايةِ انتصارَه عليه: اُنظروا إليه في نهاية القتالِ وهو يأتي في لحظة اليأسِ الأخيرةِ ليضحّيَ بجسدِه الفاني (جسد نيل الّذي يتقمّصه) ويُنقذَ بطلَه وينقذَ العالمَ! أيّة نرجسيّةٍ فاضت بها قمرته؟!

في لحظةٍ ما، بدا أنّ البطلَ قد انتصرَ في صراعِه مع كاتبِه: فهم قواعدَ اللعبة المعقّدةِ، وبدأ يعدّ خططه. استطاع خداع عدوّه الرّوسيَّ، ثمّ استطاع أن يسبق پريـا ويقتلها قبل أن تغدر بحسنائه. لكنْ كما سبق وأن ذكرتُ، فهو لم يتمكّن تماما من التخلّص من براثن كاتبِه. ورغم تصريح نيل في النهاية بأنّ "البطل" هو مدبّر العمليّةِ بأكملِها، فإننا نعلم أنّ الأحداث تجاوزته في النهاية وأنّ كلمة الفصل كانت له (أي نيل/الكاتب).

ربّما تعج أدبيات ما بعد الحداثةِ بهذا النّوعِ من الصّراعاتِ. لكنّ نولَن منحه الكثير من الطرافةِ والذّاتيةِ. تينيت هو سؤال الكتابة عن ذاتِها، وهو سؤال السّينما الكلاسيكيّةِ عن مستقبلِها في عالمٍ لم يعد يرضى بأكثر من ساعتين من العرضِ. لقد أرسى نولن نسقا مجنونا للفلمِ حتى يوضع في إطار الساعتين ونصف، والحقيقةُ أنّه كان يمكن أن يبلغ الساعات الثلاثِ دون أن يكون النسق مملاّ للمشاهدِ العاديِّ. وقد كان سيتخلّص حينئذ من حنقِ أولئك الّذين أصيبوا في كبريائهم من تعقيد الفلم وعدم تقبّلهم لحاجتهم إلى مشاهداتٍ أخرى لفهم دقائقِ القصّةِ وتفاصيلها.

وعلى أية حال، فتينيت ليس أفضل أفلامِ نولن وليس أسوأها أيضا. إنّه تجربةٌ فريدةٌ تنتمي إلى زمنٍ قد نتحسّر عليه قريبا.
 

 

Monday, May 24, 2021

نازلة دار الأكابر: شهادة في ميلاد امرأة الحدّاد

مازالت الرّواية التّاريخيّة مصدرا للجدالِ وعرضةً لسوء الفهمِ في الأدبِ العربيِّ. إذ مازال الكثيرون يعتبرونها امتدادا طبيعيّا لكتبِ التّاريخ والسيرة، لما كان لهذه الكتبِ من استنادٍ إلى الأسلوب القصصيِّ الّذي لم يقطع معهُ تماما. ها نحن نقرأ لأولئكَ الّذين يدّعون كتابةَ التّاريخ للعامّةِ ـ مثل راغب السارجاني ـ أو الّذين يقرأُ العامّة لهم كأنّهم مؤرّخون ـ مثل طارق السويدان ـ فإذا تاريخهم قصصٌ محكيّةٌ فيها ما فيها من ألوان الدّراما والأبطال. وإذا القصّةُ والتّاريخُ جسمٌ وروحٌ لذاتٍ واحدةٍ. فليس غريبا إذا أن تُعاملَ الرّوايةُ الأدبيّةُ التّاريخيّةُ من بابِ دقّتها التاريخيّةِ، وأن يتساءل القرّاءُ أوّل ما يتساءلون: هل حدثت وقائعُ نازلةِ دار الأكابر بالفعل؟

ولئن كانت الإجابةُ عن هذا السؤالِ لا تعنينا في شيءٍ، فإنّ ذلك لا يجعلُ الرّوايةَ التّاريخيّةَ في حِلٍّ من الدّقّةِ التّاريخيّةِ. فكما أنّها ليست دراسةً علميّةً تجعلُ من الحقيقةِ التّاريخيّةِ أو تحليلِ الوقائع التاريخيّةِ مبحثها، فليست أيضا فانتازيا تاريخيّةً تستعملُ السّياقَ التّاريخيَّ مَطيَّةً استيطيقيّةً لقَصصٍ متعالٍ عن كلِّ عاملٍ زمنيٍّ.

 توجدُ الرّوايةُ التاريخيّةُ في منطقةٍ وُسطى بين هذين. فهي إذ تُلقي بالأحداثِ في لجَّةِ بيئة زمنيّةٍ معلومةٍ، مُطالبَةٌ باحترامِ هذه البيئةِ وتفاصيلِها وعناصرِها. وفي الآن ذاتِه، تُطالبُها طبيعتُها الرّوائيّةُ بعدمِ التّوقّفِ عند الحقيقةِ المعلومةِ، والاندفاعِ نحو تلك الأركان المُظلمةِ الّتي تغافلت عنها الوثائقُ، أو عجز المؤرّخ عن تسجيلِها لطبيعتِها المتعاليةِ عن القياسِ: فلئن أكّد لنا التّاريخُ حقيقةَ وجودِ الطّاهر الحدّادِ، وحقيقةَ محنتِه، فهو لم يحدّثنا عن مشاعِره تجاه ما حدث معه حديثا مستفيضا، ولم يحدّثنا عمّا اعتملَ في صدره، وعمّا دفعه للكتابةِ الخ.

في مثل هذا المجالِ، يمكنُ أن يجدَ الرّوائيُّ قوتَه. ويمكن أن يمنحَ السّرديّةَ التّاريخيّةَ الحياةَ بخيالهِ، ورُبَّ خيالٍ ينسجُ لبَّ الحقيقةِ.

إنّ روايةَ نازلة دار الأكابر تاريخيّةٌ بامتيازٍ، لا تكادُ تمنحُ القارئَ المتفحّص ثغرةً تاريخيّةً واحدةً، لا في التّواريخِ (فحين تحدّثك عن حكومة الهادي الأخوة، فأنت حتما في زمن سردٍ يقابل زمن نشاط تلك الحكومة)، ولا في الأعلام، ولا في الأحداثِ السّياسيّةِ، ولا في المواقفِ، ولا في تفاصيل الحياةِ اليوميّةِ. لكنّها في المقابلِ، تصولُ بجرأةٍ وحرّيّةٍ وسط كلِّ هذا لتنسجَ أحداثا دراميّةً كثيفةً خياليّةً، كأنّها ضربٌ من "الواقعِ المُعزَّزِ" Augmented Reality.

تبنِي أميرة غنيم نازلتَها على وتديْنِ تاريخيَّين، حفل صدورِ كتاب امرأتُنا في الشريعة والمجتمع في الكازينو البلدي بحديقة البلفدير سنة 1930، ثمَّ وفاةُ صاحب الكتابِ في السابع من ديسمبر سنة 1935. فتعزّزُهما بوتديْن دراميَّين متخيّليْن يرافقُ كلُّ واحدٍ منهما وتدًا تاريخيّا في الزّمن. فالأوّلُ زواجُ زبيدة بنتُ آلِ الرّصّاعِ بمحسنِ بن آل النّيفر. والثّاني هو النّازلةُ الّتي حدثت في دار "الأكابر" إثر وفاة الحدّاد. وهي مرافقةٌ لها دلالاتُها بدون شكٍّ. فقد قابلت زبيدةُ قرارَ أبيها المتعلّم "الحداثيِّ" بتزويجِها من رجلٍ لا تعرفُه، بصمتِ المغدورِ. إنّه ذاتُ الغدر الّذي تعرّضت لهُ "امرأة الحدّادِ" في حادثةِ الكازينو من قبل رجال الحزب الدستوريِّ ومثقّفي البلادِ المضطلعين بمهمّة تنوير التّونسيّين وقيادتِهم في حربِ التّحرير والاستقلالِ. ومع موتِ الحدّادِ منفيّا ومعزولا ومكفَّرًا، قُضيَ على "امرأتِه" أن تُوصَمَ وتُشلَّ وتُعزَلَ هي الأخرى، وتتعرَّض لذات المظلمةِ من ذات الطبقةِ تقريبا.

هكذا، فقد سارتْ روايةُ نازلة دار الأكابر في توازٍ خفيٍّ مع علاقةِ الطّاهر الحدّاد المحتدَّةِ مع النُّخبة التّونسيّةِ. إذ تمَّ تمثيلُها عبر عائلتَيْنِ بَلْدِيَّتَيْن متبايِنَتيْنِ بل مُتكامِلتَيْنِ. فأمّا عائلةُ آل النّيفر فتمثّلُ الأرستقراطيّةَ الدِّينيَّةَ المحافظةَ (قاضي الإسلام عثمان النِّيفر)، وأمّا عائلةُ آل الرّصّاع فتمثّلُ أرستقراطيّةَ المخزن أو رجال الدولةِ البَيْلَكِيَّةِ (الموظَّف الكبيرُ عليّ الرّصّاع وصهره الوزير الأكبر محمد الطيب الجلولي) ونسبت إليها قِيم الحداثَة والانفتاح بما أنّ أغلب المصلحين الّذين دفعوا إلى ذلك قبيل الاحتلالِ كانوا من هذه الفئة (الجنرال حسين، خير الدين، الخ).

لم تكن أميرة غنيم إذا تبحث من خلالِ العائلتَيْن عن الاكتفاءِ بنقل تفاصيلِ الحياةِ الارستقراطيّة البَلْدِيَّةِ، وإنّما سعت إلى تفكيكِ بِنيَتِها الاجتماعيّةِ والثقافيّةِ. كان من المُدهشِ أن تكشف الكاتبةُ عن تقاربِ هذيْن الشقّيْن رغم تنافُرِهما الظَّاهر. فهاهو عليّ الرّصّاع على ما كان يُبديه من تحرّر واندفاع نحو قِيمِ الحداثةِ والعقلانيّةِ، لم يكن قادرا على التَّملُّصِ من عنصريّتِه الاجتماعيّةِ، وهاهو في عدائِه الجِهويّ والاجتماعيِّ يُنشدُ السّندَ والحلَّ عند من يبدو نقيضَه، عثمان النّيفر المحافظ "الرّجعيَّ". وهاهي زُبيدةُ على ما تُبديه من تعلّقٍ بصفيّتِها "لويزة" ورفضٍ لمعاملتِها معاملةً دونيّةً، تعودُ في أوّل تشنّج يخرجُ بها عن طورِها لتصِمَ خدّوج الخادمة السّوداء بكلِّ ما يمكن أن تصمَ بِه امرأةٌ بَلْدِيّةٌ امرأةً سوداءَ فقيرةً.

صحيحٌ أنّنا إزاءَ رُؤيتيْنِ مختلفتيْنِ للعالمِ، رؤيةٌ كلاسيكيّةٌ محافظةٌ وأخرى حداثيّةٌ متحرّرةٌ، لكنّهما في النّهاية رؤيتان متكاملتانِ، تؤلّفان في جدليّتِهما غلافا اديولوجيّا مزركشا لطبقة اجتماعيّةٍ واحدةٍ ذهبَ الحدّادُ ضحيّتَها.

إنّ مشروعَ الطّاهر الحدّاد على ما أبداهُ عليّ الرصّاع ومحسن النّيفر من حماسٍ تجاهه، هو مشروعٌ مغايرٌ لرؤيتِهما، هو مشروعٌ أكثر اتّصالا بمحمّد عليّ الحامّي (الثوريِّ) وعبد العزيز الثعالبي (الإصلاحيِّ المحافظ) على السواءِ (وهي قراءةٌ أختلفُ فيها مع الكاتبةِ فلئن كان الطّاهر الحداد تلميذ الثعالبي، فإنّ الثاني ربّما لم يكن موقفه ليختلف كثيرا مع من خلفوه في الحزب الدستوريِّ وله مواقفُ طبقيّةٌ موثّقة).

تنتصرُ أميرة غنيم لرؤية الطاهر الحداد، رؤية التحرّر الحقيقيِّ العابر للطبقات، رابطةً بينها وبين الرؤيةِ البورڤيبيّةِ الّتي تبنّتها منذ بداية الاستقلالِ. فالخصمُ واحدٌ لكليهما: نخبة الزيتونة، ونخبة الحزب الدستوريّ القديمِ. فهل كانت الرؤيةُ البورڤيبيّةُ امتدادا حقيقيّا لمشروع الطاهر الحداد؟ وهل كان المدُّ التحريريُّ الّذي أراده الزعيمُ التّونسيُّ، عابرا للطبقات والجهاتِ؟ لا أتّفق مع المؤلّفةِ في ذلك ـ وإن لم تذكر ذلك صراحةً. وعلى كلِّ حالٍ فليس في ذلك ما يعيبُ الرّواية في فنّها.

كتبت أميرة غنيم نازلة دار الأكابر بأسلوب جديدٍ على المدوّنة التّونسيّةِ ومألوفٍ في المدوّنة العربية، فنحن نجده عند جبرا إبراهيم جبرا في رائعته "البحث عن وليد مسعود"، وفي "افراح القبّة" لنجيب محفوظ، وكثيرا ما استخدمه أحمد خالد توفيق في رواياتِه القصيرة. فتنقلُ كلَّ فصلٍ على لسانِ إحدى الشخصيات، تخاطبُ بهِ شخصيّة أخرى أو تناجي به وليّا صالحا كما في فصل فوزيّة. وعلى عكس ما تتميّز به حكاياتُ أحمد خالد توفيق مثلا من حِرفيّةٍ في انتقاء الشخصيّة صاحبةِ الخطابِ وانسجامِها مع نمطِ الخطابِ والمخاطَبِ وطبيعةِ الخطابِ، لا تكادُ كاتبتُنا التّونسيّةُ تُلقي بالا لكلِّ هذا، فكثيرا ما لا نعلمُ محمل الخطابِ هل هو مكتوب أم شفويٌّ، مسجَّلٌ أم مباشرٌ، وكيف انتقل إلى هندٍ حديثُ فوزيّة الأميّة الّتي ناجت سيدي محرز في ليلةٍ مخيفةٍ. كما لم تنشغل كثيرا بمقام الخطابِ، فاختيارُ المخاطَبِ يبدو عشوائيّا، اللهمّ إن تجاوزني منطقُ اختيارِه. وكأنّ ذلك تسبّب في فتور في انسجامِه. فهلاّ رأيتَ كيف يُسرُّ العجوزُ امحمّد النّيفر المحافظُ لابن أخيه، الشخص الوحيد الّذي يُبدي له شيئا من التّقدير، بكلِّ يسرٍ وسلاسةٍ قصصا يراها تُشينُه فدأب على إخفائها؟ وحتى إن لم يرَها كذلك، ففيها الكثيرُ من الحميميِّ الّذي يجد المتحرّرُ صعوبة في حكايتِها لابنه، فما بالكَ بالمتزمّتِ؟

على أنّ الروائيّة سعت في أسلوبِها السّرديِّ أن تحترمَ منظورَ الشخصيّةِ المخاطِبة على الأقلَّ، بل كان ذلك دافعا رئيسيّا لاختيار هذا الشّكل السرّديِّ. فنتجت عنه فسيفساءٌ سرديّة بديعةٌ متشابكةٌ ثريّةُ الألوانِ، كثيرة التفاصيلِ، متنوّعة الآراءِ، تنقلُ الحقيقةَ في اختلافِ أوجهها ونسبيّتِها. يكتب التاريخَ عادةً المنتصرون، وتستثني روايةُ نازلة دار الأكابر نفسها من القاعدةِ، فتعطي صوتا للجميع تقريبا، ابتداء بأصحاب الأصوات الضخمة من رجالٍ مثقفين (محسن، المهدي، عثمان، عليّ)، إلى بناتِ الطبقة الارستقراطية (بشيرة، جنينة، فوزية ربما) انتهاء ببناتِ الطبقة الدنيا (لويزة وخدّوج). وذهب شكري المبخوت في تقديمِه إلى أنّ التاريخ في النّازلة، تحفظه النساء. وهذا ليس صحيحا، فمن بين الناقلين الإحدى عشر للأحداث، نجدُ خمسة رجال. وإذا ما اسثنينا هندا وهي النّاقلةُ الّتي لا دخل لها في الأحداث بأيِّ شكلٍ، فسنجد مساواةً تامّة بين الجنسيْنِ. بل إنّنا لو تمعّنّا في متحوى خطابِ كلِّ شخصيّةٍ، سنكتشفُ أنّ أبرز الأحداثِ نُقلتْ عبر الشخصيات الرجاليّةِ. استثنت الكاتبةُ مهدي الرصاع وامحمّد النيفر من سرد بعض أحداث الليلةِ، وكذلك فوزية وخدّوج. نقلت لويزة إلينا بداية الحادثة، ونقلت جنينة جزءا هامّا من خصام محسن وأخيه، ولم تنقل لنا بشيرة أكثر ممّا حدث بينها وبين جنينة بكثير. في الأثناء، يصف عليّ وعثمان حادثة لقائهما في تلك الليلة، ويسرد عثمان جزءا مهمّا متعلّقا بقتال زبيدة وامحمّد النيفر. أما محسن، فنجد عنده أهم أجزاء السرديّة، فنعلم ما آلت إليه الليلةُ، ونعلم نتائجها على زبيدة، بل نعلم أيضا نصّ الرسالة الّتي فجّرت كلَّ ذلك... 

وأكثر ما يلاحظ في اختيار الشخصيّات الرّاويةِ، أنّه لم يمنح صوتًا للحدّاد نفسِه ولا لامرأتِه. وهو خيار متعمّدٌ لسببيْن، أوّلهما أنّ الصّوتيْن سيحجبان بلا شكّ بقيّة الأصواتِ في ما يخصّ الواقعة. فإذا علمها المرءُ من مصدرها، لم يعد بحاجة إلى سماعها من غيره. أما الثانية، فهي الإلحاح على الفصل بين التاريخيِّ (الطاهر الحداد شخصيّة تاريخيّة واقعية) والمتخيّل (بقية الشخصيات الفاعلة). ليس الطاهر الحداد شخصيّة رئيسيّةً في الرواية، ولكنّه محورُها أي موضوعُها، وبالتالي فمن الأفضل أن يتمّ الحديثُ عنه كموضوع لا كشخصيّةٍ. سنرى مواقف الشخصيات منه، ونراها تقريبا أمامَ أفعاله التاريخيّة الموثقة، شاهدةً أكثر منها مشاركةً (حفل الكازينو، موقفه من الحزب القديم، الخ). هذا أسلوب مألوف في الكتابةِ، يمكن أن نجده في روايات شهيرةٍ وفي أعمال دراميّة أخرى (غاتسبي العظيم، المواطن كين، الخ). ولقد أرادت أميرة غنيم لشخصيّتها المتخيّلَة الرئيسية زبيدة أن تكون محورا وموضوعا ربّما أكثر أهمّيّة من الطاهر الحداد نفسه. تمثّل زبيدة امرأة الحدّاد، مشروعه الّذي نحته. كيف لا وقد كانت تلميذته؟ ليس موضوع الروايةِ الطاهر الحداد، وإنما امرأة الحدّاد. أما النازلة، فكانت رفض هذه المرأة ووصمها بالعارِ.

اِعتنت الكاتبةُ كثيرا بتباين شخصيّاتها لما لكلٍّ منهم من دلالةٍ، ولكنّها لم تنجح في إسقاط ذلك على مستوى الأسلوب. لا شكّ أننا نجدُ في الخطابِ النّسائيِّ حضورا أكبر للبيتِ وللفولكلورِ وللعناصر الماديّةِ (الأكل، النظافة) مع بعض المقاطع الفكريّة ذات الطابع التعليميِّ (لويزة وفوزية وخدّوج يتلقّين معارف مختلفة أو يكتشفن أفكارا جديدة، وكذلك الشأن مع جنينة في حديثها عن المرسح) أمّا الخطاب الرجاليُّ فتغلب عليه الأفكارُ السياسيّةُ والاديولوجيّةُ. في حين يشملُ الخطابُ العاطفيُّ الجميع على السواءِ. لكنّ كلّ هذا الاختلافَ يُحمَلُ على أسلوب لُغويٍّ واحدٍ لا يتغيّرُ، فلا نكاد نجدُ فروقا كبيرة في الخطابِ بين قاضي الإسلام عثمان النّيفر، وخدّوج الخادمةِ الأُمّيّةِ. ولا يملك أحدهما تشبيهاتِه الخاصّةِ ولا مرجعيّاتِه الّتي تميّزُه. ولئن حاولت أميرة غنيم أن تُثبِّتَ ذلك، في بداية نصوصها إلاّ أنها ارتكست سريعا.

لا اختلاف في جمالية لغةِ نازلة دار الأكابر، ولكنّه جمالٌ رتيبٌ لا يحيدُ عن نفسِه، لا متى اختلفت الشخصيات، بل متى اختلفت طبيعةُ الخطابِ أيضا. فلحظات التوتّر كلحظات الدّعةِ، ولحظاتُ الاكتشافِ كلحظات التأمّلِ تقريبا. وما ينوّه به في لغةِ النصّ، سلاستُه وسلامتُه وفصاحتُه المُبينةُ.

أمّا على مستوى القصِّ، فقد عبّر اختيارُ نمط السّرد عن تمكّن كبيرٍ افضى إلى بناءٍ قصصيٍّ شديد التماسك والانسجامِ رغم تفرّعه إلى قصص جانبيّةٍ كثيرةٍ، وإلى تشظّ على مستوى زمن السّرد عبر نحو أكثر من نصف قرن (بين 1949 و2013) بدون أيّ ترتيب. نلحظ بسبب ذلك بعض فتورٍ في السيناريو لا مناص من ذكرِه لقيمته. فقد تردّت علاقةُ محسن وزبيدة بُعيدَ الحادثةِ، وعرفنا ذلك منذ البداية تقريبا. لكنّنا لم نعرف عن شلل زبيدة إلا في منتصف النصّ، (بل الأقرب في نهايته). ورغم أهميّة الحادثة، فلم تبدُر أيّة إشارةٍ إلى إمكانيّةِ تأثيرها على العلاقةِ بينهما. وإن كان يمكنُ تفسير ذلك بالنّسبة إلى محسن الرّاوي، على أنّه يملك سببا آخر لاعتزال زوجته، فلا يمكن أن نفسّر جنوح زبيدة إلى تفسيره بانصراف الرّجلِ إلى خدّوج، ولم يدر بخُلدِها مثلا أنّ الأمر عائدٌ إلى شللِها. لقد بدا شللُ زُبيدة طارئا على النّصّ ليس أصيلا فيه، لم يُقرأ له حساب في البدايةِ، فخلت الإشارةُ إليه وجنينة تروي لنا تفاصيل زيارتهم إلى دار الرّصاع سنة 1949، فكانت زبيدة تسلم على أمّها قبل أن تهرع إلى أبيها رفقة محسن وأمّيْهما، كأنّ ليس بها علّةً أو مرضا. ولم يهتمَّ أحدٌ من عائلتِها بشللها هذا حتّى إنّهم لم يزوروها وواصلوا مقاطعتها طوال السنين الثلاثة عشر. أمّا زبيدة، فيبدو أنّ الشلل لم يُثنها عن إعدادِ نفسها لزوجها وإغرائه باللبس والحرقوس والشموع، وقد تكون لويزة مساعدتها في ذلك، ولكنّ من الغريب أن تُشرك زبيدة صديقتَها في هذه المسألة الحميميّة لرِفعة النّفس والكتمان الّتي تميّز شخصيّتها. بل من الغريب أن لا تشعر منذ شللها بالعجز والحاجة إلى العزلة وربما عقدة الذنب إزاء فكرة كونها لم تعد امرأة مكتملة الصحّة ممّا يغري الرّجالَ… وحتى امحمّد النيفر الّذي تحدّث قبل فوزيّة أي قبل الكشف عن شلل زبيدة، فلم يبادر إلى تبرئة نفسِه أمام ابن أخيه وابن زبيدة من تهمةِ إيذائها. ممّا يعزّز نظريّة إضافتِها في ما بعدُ للنصّ. ربّما لدلالةٍ ما على وضعيّة المرأة التونسيّةِ الّتي مع إيذاء الحداد وبتر مشروعِه، ورغم انتصار بورڤيبة له، ظلّت مُقعدةً لا تطالُ كلَّ حقوقِها. وربما لدلالة أخرى لم ترد ببالي، على أنّها في كلّ حالٍ وردت في النص مهلهلةً فأقضّت تمساكه وانسجامه.

روايةُ نازلة دار الأكابر، عملٌ ضخمٌ جادٌّ ومسلٍّ يذهب بالقارئ إلى ثلاثينات القرن الماضي في تونس، فيجيد الرّحلةَ، ويعود به بتساؤلات متنوّعة. ويربط بشكل ذكيٍّ بين قضيّة المساواة وقضيّة الطبقيّةِ الاجتماعيّةِ. إنّه خطوة مهمّة للأدب في تونس، ينبغي أن تُدعمَ حتّى يرتفع المستوى الأدنى المقبول، وتقاطَع النّصوصُ الّتي لا ينحتُها أصحابُها بمثل هذه الجدّيّة والتفاني.


 


Wednesday, February 10, 2021

مناورةُ الملكة

 بسبع حلقات لا ثامن لها، يمكن اعتبار مسلسلِ مناورة الملكة The Queen's Gambit فلما أطول بقليل من "فاني وألكسندر" (إنڤمار برڤمان) وأقصر قليلا من فلم طَنڤو الشيطان (بيلا تار). وليس تراوحُ طولِه بين هذين التّحفتين مؤشّرا على قيمته وإنّما يمنحنا القدرةَ على التّعامل معه كأيّها الأفلام التلفزيّة الّتي باتت رغما عنّا شكل السّينما اليوم.


لقد بلغ رواج مناورة الملكة في نهاية السنة الماضية، أن دفع بمبيعات لعبة الشطرنج إلى ستّة أضعاف، وأعاد الاهتمام إلى إحدى أقدم الألعاب في تاريخ البشرية. لم أحظ مع ذلك بالحماس المتوقّع وأنا أتابع مباريات إليزابث ضدّ خصومِها المتنوّعين. صحيحٌ أنّها ـ المباريات ـ نُسخٌ عن مبارياتٍ تاريخيّةٍ شهيرةٍ تمّ اختيارُها بعنايةٍ وبمباركةِ أسطورة الشطرنج ڤاري كاسپَروف. ولكنّ المشهدَ لم يلقِ الضَّوءَ بشكلٍ كافٍ على الرّقعةِ، واكتفى بصورٍ خاطفةٍ لا يمكن أن يفكَّ شفرتَها في أغلب الوقتِ إلاّ المحترفون. ودُفع المشاهدُ الّذي لا يفقه شيئا من اللعبة إلى متابعةِ أطوارِها عبر التّأويل الّذي تقدّمه شخصيّات المسلسلِ. نعرف أنّ بيني Benny كان يندفعُ نحوها دون هوادة وكانت تشعرُ بفقدان مطلق للأمانِ (كانت الصّورةُ المرافقة لتعليقها تنقلُ لنا حركة يدها اليمنى البليغةِ على ذراعها اليسرى). ولكنّنا لا نعرفُ ما الّذي يحصلُ تحديدا على الرقعةِ. وبذات التّسليم نفهم أنّ كورپوف في مباراة المكسيك كان يتحرّك بمنتهى البيرقراطيّة والبداهة واللاخيالِ، لكنّنا لا نُمنَحُ أدواتِ الاشتراك في اللعبةِ والانغماس فيها. وهذا أيضا يُعمينا عن تفاصيل مهمّةٍ في السيناريو. يُخبرُنا بطل العالمِ في الشطرنج، العبقريُّ ماڤنوس كارلسن Magnus Carlsen في قناته على اليوتيوب عن تفاصيل المباراة الختاميّةِ. ولئن أثنى على الأداء الجميلِ لإليزبث إلا أنّه أكّد أنّ المباراة كانت شبه منتهيةٍ من قبل أن يعرضَ كوربوف على منافستِه التّعادلَ. ما يجعلُ من أمارات التّشويق الّتي تلت ذلك عبثا سخيفا وبلا معنى. كان المعلّق يبدي حماسا، وكان الحضور متوتّرين بذات السّخافة الّتي تجعل جمهور كرة قدم متوجّسا من نهاية مباراة يتقدّم فيها فريقه بستة أهداف لصفر. يبقى مع ذلك المسلسلُ/الفلمُ دراما رياضيّةً جيّدةً.


ليست الرّياضة التصنيف الوحيدَ لمناورةِ الملكةِ، فهو أيضا عملٌ تاريخيٌّ بامتيازٍ. وفضلا عن براعته في استعادة حقبة الخمسينات والسّتينات عبر الماكياج والديكور والملابس، فقد حاول إعادة تشكيل تلك الحقبة من منظور مختلفٍ والتوغّل في تفاصيل ملتبسة. صبيّة ذات أصول إفريقيّة في ملجإ يتامى من البيض؟ مسكّنات مخدّرة لأطفال دون العاشرة؟ ها نحن ننظرُ إلى ولاية كنتكي في الخمسينات والستينات بعينيْ أنثى في سياق غير ميلودراميٍّ. مؤسّسة التعليم، والزواج، والشّارع وموجة التحرّر… لكنّ العنصر الأهمّ من وجهة نظر تاريخيّة كان الحرب الباردة ولا شكّ. هل كان تدريس الرّوسيّة للعموم يتمّ بتلك البساطة في الستينات؟ يبدو ذلك مربِكا ونحن نستذكر سجلّ هوليود الستينيّ الغارق في بارانويا الخطرِ السوفييتيّ. تبنّى المسلسلُ وجهة نظرٍ هازئة من الحرب الباردةِ، لا مسفّهة إيّاها فحسب بل غير حافلةٍ بثقلِها وتأثيرها. فحين تتحدّث إليزبث عن حلم السّفر إلى موسكو، لا يتبعُها أيّ تساؤل عن الرّحلةِ سوى مشكلة التمويل. وفي المكسيك على الحدود الأمريكيّة تتواصلُ إليزبث مع البعثة الرّوسية بدون أية رقابة، ناهيك أنّ مرافقها الأمريكيّ إلى موسكو كان مسخرة حقيقيّة.

حاول المسلسلُ عبر مواقف إليزبث أن يعبّر عن سخافة الصّراع بين دفّتيْ الستار الحديديّ، فهاهي ترفض تبنّي فكرة الصّراع بين الكفر والإيمان، وهاهي أيضا ترفض الانصياع إلى بروباغندا الخوف الّتي انتهجتها الحكومة الأمريكيّةُ. بل إنها تمضي قدما لتنتصر بشكل ما للإديولوجيا الاشتراكيّة، خصوصا عبر شخصيّة بيني Benny. يقول بطل أمريكا إنّ لاعب الشطرنج السوفييتيّ يحظى بمكانة اجتماعيّة مرموقة ويلعب مبارياته في قاعات فخمة بتغطية إعلامية كبيرة وتتكفّل الدولة بمصاريفه عكس الأمريكيّ الّذي يطارد تمويلات بائسة مقابلة التذلّل. ولئن كان هذا الواقع نسبيّا إلى حدّ كبير، فإنّ الفكرة الثانية أكثر جديّة. وقد وردت أيضا عبر Benny الّذي أعزى تفوّق السّوفييت إلى خاصيّة التفكير الجماعيّ. يصنعون شبكة عقليّة جبّارة لا يمكن لأيّ عقل منفرد أن يواجهها، بينما يضيع العقل الأمريكيُّ مهما بلغ من العبقريّة في غياهبِ الفردانيّةِ. ويمضي المسلسلُ قدما ليمنح الفوزَ لبطلتِه بعد هزيمتيْن مُذلّتيْنِ بفضلِ تخلّص الأمريكيّين من فردانيّتهم و"اشتراكهم" في اللعبة. إذا رغم انتصار الأمريكيّ على الرّوسيّ في النهاية كالعادةِ، فالمسلسلُ ينتصرُ بشكلٍ غير مسبوقٍ للجانبِ الرّوسيِّ، وقد دعم ذلك بصورة إيجابيّة للغاية لموسكو لا نكاد نرى فيها أثرا للقمعِ أو الحقدِ أو العداءِ. يبقى التاريخ مع ذلك مبحثا ثانويا، فمناورةُ الملكة هو مسلسلٌ نسويّ بامتيازٍ.


دون الاستعانةِ بمواقف نضاليّةٍ، أو قصص معاناةٍ صارخةٍ، حوّل المخرجانِ والكاتبُ (وجميعهم رجال بالمناسبة) سيرةَ إليزبث هارمُن إلى خُرافةٍ نسويّةٍ مُظفَّرةٍ، وصنعوا منها مثالا نسائيّا أعلى. تتفوّق "بِث" على الرّجالِ في مجالٍ ذَكَريٍّ شديدِ الرّمزيّةِ. إذ يُنظرُ إلى الشطرنج كمجال بزوغ الذّكاء الخامِ الّذي لا يحتاجُ المرءُ فيه إلى المعارفِ الأخرى. ورغم تهافتِ هذه الفكرةِ فإنّها احتفظت بحضورها القويّ في المخيّلة الجماعيّة، وسمحت لإليزبث بأن تنقض من خلالِها، فكرة قروسطيّة تربطُ الذكاء بالجنسِ. لا يُفسَّر نبوغ إليزبث بالاجتهادِ أو العنادِ أو الرغبة الجامحة في إثباتِ شيء ما كما يحدثُ في أغلب قصص النساءِ المتفوّقاتِ، ولكنّها عبقريّة محضة تظهرُ مع الطّفولةِ. وما اجتهادُها في ما بعدُ إلا ضرورةٌ لا يمكن لأيّ عبقريٍّ تفاديها حين يقارعُ المستويات العليا، أيّا كان جنسُه.

لا نرافقُ بِث في مبارياتِها فحسب، بل أيضا في حياتِها الّتي تسير بتوازٍ دراميٍّ موقّعٍ مع حياتِها الرّياضيّةِ. إنّ هذا التوازي مهمٌّ جدا، لأنّ عبقريّةَ البطلةِ الّتي تظهرُ في الرياضةِ، تُستنتجُ في الباقي وتُحفّزُ على الاقتداءِ.

ليست تقنية التوازي حديثة عهدٍ ولا غريبةً على السّيرِ، ولكنّها عادةً ما تسيرُ باتّجاهٍ معاكسٍ من حياةِ البطلِ إلى إسقاطٍ سياسيٍّ أو تاريخيٍّ (فورست غمپ، وداعا يا خليلتي، قواعد اللعبة الخ)، أما في مناورةِ الملكة فالإسقاط يحدثُ على تجربةِ بِث الوجوديّةِ، ويمنحنا الأدواتِ للتأمّلِ فيها. تعلّمت البطلةُ أولى دروس الشطرنج القاسية حين أجبرها معلِّمُها شايبل على الانسحابِ، وتزامن ذلك مع أولى دروسِها الجنسيّةِ من عند رفيقتِها جولين. لقد كانت بث اللاعبةُ تتعلّمُ فنون الشطرنج، أما الطفلةُ فكانت تتعلّم دروسها الأولى كامرأة: التعرّف على جنسها وعلى الجنس الآخر.

في ما بعدُ، تبدأ اللاعبةُ مسيرتها الرياضيّة بالبطولةِ الأولى، وتزامنا مع انتصارِها المهمِّ على تونز Townes يقع الحدث المهمُّ للطفلةِ: لقد صارت امرأةً أخيرا!

كان تونز خفقة قلبها الأولى، وفي لقائهما الثاني لم تعد تلك الطفلةَ المشارفة على البلوغ، بل شابّة لافتة للأنظار، لذلك كانت حادثة الفندق خيبة كبيرةً لها لا تقلُّ في شيءٍ عن خيبة الهزيمةِ الأولى أمام Benny، في الحالتيْن كان الدّرسُ مهمّا للتخلّص من النظرة الطفولية الحالمةِ للعالمِ. إذا كانت تريدُ بطولةَ العالمِ فعليها تعلّم الرّوسيةِ، وإذا كانت تريد أن تكون امرأة بالغةً فعليها أن تجرّبَ الجنسَ. في الأثناءِ، كانت الحياةُ تخبّئُ لكليهما مفاجأتيْن أكثرَ قسوةً، وأشدَّ تزامنا: هكذا تنهزمُ هزيمةً مذلّةً أمام كورپوف وتفقد أمَّها في الآنِ نفسه. هذا هو العالمُ الحقيقيُّ، كرياضيّةٍ تعرّفت إلى معنى اللعب في مستوى عالميٍّ وكامرأة تعرّفت إلى معنى حياةِ البالغين: أن يكون المرءُ وحيدا.

يستمرّ نموُّ البطلةِ على المستويين بشكل متوازٍ حتّى تصلَ إلى لحظة النّصر النهائيّةِ، إذ تتوّجها بلحظة تصالحٍ مع مختلفِ الرّجال الّذين كانوا في حياتِها، وعلى رأسهم تونز. نوعٌ من اكتمالِ الرّحلةِ.


لا تتوقّف عناصرُ النسويّةِ في مسارِ رحلةِ البطلةِ ولا في رمزيّة اختصاصِها، بل تتناثرُ هنا وهناك في مشاهدَ عدّةٍ. حين تلقّت دميةً هديّة من رئيس نادي الشطرنج للأولاد، ألقت بها مباشرة في سلّة المهملاتِ. كانت بث تبدي مرارا وتكرارا رفضها أو تجاهُلها لكلِّ السلوكات الاجتماعيّة الّتي تريدُ قولبَتَها على النمط الكلاسيكيِّ، فهي تفضّل شراء الشطرنج والكتب على الألبسة والأحذية، وتكره الحديث المنمّط عن الرّجال والرومنسيّاتِ، علاوة على أنّ علاقاتِها الجنسيّة كانت باردةً إلى حدّ كبيرٍ. وحتّى في إدمانِها على الكحول والمسكّنات، فقد كانت تعبّر عن تمرّد على نظامٍ قائمٍ يتسامح مع إدمانِ الرجال، ويواجه إدمان النساءِ بتجاهلٍ حادٍّ وقاسٍ.

وحولَ بِثْ الموهوبةِ، ترتسمُ شخصيّاتٌ نسائيّةٌ أقلّ حظوةً لدى الأقدارِ، لتحكيَ على الهامشِ بعض المآسي النسويّةِ. جولين ذات الأصول الأفريقيّة الّتي تُلفظُ طفلةً حتّى تذبل طفولتُها. أمّها الّتي تذوق الهجرَ مرّة بعد أخرى حتّى تهلكَ. زميلةُ الدّراسةِ الّتي كان يمكن أن تصبح مثلها لو أذعنت لتربية المجتمعِ مثلها… توجد هذه الشخصيات على الهامش، لأنّ أيّ امرأةٍ يمكن أن تعيش قمعا اجتماعيّا أو طبقيا أو اقتصاديّا، ولكن يمكن لهنّ جميعا أن يكنَّ "بث"، بأن يحقّقن وجودهنّ كما يردن لأنفسهنّ.


ورغم هذا النفس التحرّريّ المتحمّسِ، لم يخلُ هذا البناءُ من تناقضاتٍ. ولو تجاوزنا بعض هنّات السيناريو الّتي يمكن تفسيرُها بشيء من الاستقواءِ على طبيعة الأشياءِ، مثلَ حدوث العادةِ الشهرية الأولى في سنّ السّادسة عشر تقريبا، أو كلّ ما تعلّق بالسّوفييت بشكل عامٍّ، فالإشكال الأساسيُّ يكمنُ في إليزبث نفسها، كشخصيّة موهوبة، إذ أنّها على عكسِ المرادِ تبدو كاستثناءٍ يؤكّد القاعدةَ. لا وجودَ لأخريات يلعبن الشطرنج لا لأنّ النساء ممنوعات من اللعبةِ فهاهي إليزبث ومنافستُها الأولى في كنتكي تبرهنان على العكس، ولكن لأنّ الأخريات لا يملكن الذّكاء الكافي لذلك. لم تكن "بث" طفلةً ذكيّة فحسب، بل كانت أيضا وحيدةً. ومن بين كلّ الشخصيّات النسائيّة في المسلسلِ، لم توجد أخرى بمثلِ ذكائها ربّما عدا أمّها الّتي انتحرت.


يبقى مناورةُ الملكة عملاً ناجحا على كلّ حالٍ وفكرةً مُلهمةً لصنف الكتابة النسويّةِ: اِنعتاق من سجن الصّراع الجندريِّ، وتوقٌ إلى أنموذجٍ أصيلٍ لا يشبه إلا نفسه.




Translate