Tuesday, August 22, 2017

معركة ضدّ الزمن

تقول الناقدة الكبيرة كارلا جنين "من الممكن اختزال أعمال مخرج/مؤلّف Auteur في فيلم واحد". وهو قول نجد فيه الكثير من الوجاهة والدقّة حينما يتعلّق الأمر بالمخرج البريطانيّ الأمريكيّ كرِستُفر نولان Christopher Nolan. إنّ هذا الرجل يكتب فيلما واحدا تقريبا منذ سنة 2000 حينما أخرج تلك الأيقونة المسمّاة Memento. وإن كان لهذا الفيلم من إسم، فهو حتما "لعبة الزمن" أو "معركة الزمن" أو أيّ شيء آخر ينتهي بـ"الزمن".
طبعا لا وجود للناقدة الكبيرة كارلا جنين، ولكنّ نولان نفسه لا يهتمّ كثيرا لمثل هذا التدقيق مادام قادرا على خلق جوّ أكثر واقعيّة من الحقيقة. في فيلم دنكرك قد ترى بوارج حربيّة فرنسيّة تُجلي البريطانيّين على أساس أنها سفينة بريطانية، وقد ترى الطائرات الألمانية تجوب الفضاء بأنف أصفر في زمن لم يُتّخذ فيه هذا القرار بعد، ولكنّها تفاصيل ثانويّة جدا لم يقف عندها الجندي المتقاعد العجوز وهو يشاهد الفيلم في إحدى قاعات لندن ويقول "لقد كان الوضع كما في الفيلم تماما". ومع ذلك، لم تخلُ واقعيّة نولان من هشاشة مثيرة للإحباط...

أين كان الإحباط؟ تختلف التأويلات وتتنوّع، وتطال مختلف عناصر الفيلم. يقولون إنّ قصّته لا بداية لها ولا نهاية، لا تمهيد ولا استقرار، مشوّشة الأحداث على غير هدى أو هدف. لكنّنا نحن الذين شاهدنا الفيلم بدون حبوب هلوسة، نعرف أنّ كلّ هذا ليس صحيحا، ونحن الذين شاهدنا الفيلم أكثر من مرّة، نعرف أنّ نولان نجح مرّة أخرى في ما يميّزه عن غيره من المخرجين: الرواية.

لحظة ظهور المقاتلة النازية في أعين الجنود العالقين
تبدو الرواية ذات طابع كلاسيكيّ مألوف. جنود، حصار، الحرب العالمية الثانية، دنكرك شمال فرنسا، مئات الآلاف من الجنود البريطانيين المحاصرين في الشاطئ بانتظار معجزة لإنقاذهم. هكذا دوما قصص الحرب الملحميّة. ومنذ أقلّ من سنة طالعنا مِل جبسُن Mel Gibson بإحداها من خلال مرتفع المنشار Hacksaw Ridge. لكن ليس حينما يتعلّق الأمر بنولان.
يتميّز نولان بهوس كبير في ما يتعلّق بأسلوب السرد. ولئن بدا ذلك أوضح في فيلم Memento (سنة 2000) فهو يتردّد في كلّ أفلامه الأخرى، على أنّ دنكرك اتّخذ منحًى تجريبيّا أعمق وأشدّ. إنّ المغامرة بتقنية سرديّة معقدة في أحد أفلام الميزانيات الكبرى Blockbusters لهي جرأة تستحقّ التنويه.


تقوم هذه التقنية على المراوحة بين ثلاث جبهات سردية، الأولى عند حاجز الأمواج Mole أو لنقل عند الشاطئ، وتمتدّ أحداثها لأسبوع كامل. والثانية في بحر القنال الانكليزية وتمتدّ أحداثها على يوم واحد. والجبهة الثالثة جويّة فوق الجبهتين وتمتدّ على ساعة وحيدة فحسب. وتتداخل الجبهات في نقطة ما من السرد لتصبح مشهدا واحدا قبل أن تتفرّق من جديد.
قد يخيّل للمشاهد في البداية أنه أمام تركيبة روائية بسيطة بعض الشيء، ثلاث قصص متناثرة، استغلّها نولان لرسم ملامح انسحاب دنكرك الشهير. مجرّد عنصر ثانويّ لا مناص من وجوده. لكنّ من شاهد أفلاما لنولان يعرف أنّه لا يحب البساطة، أو لنقل إنّه يحبّ تبسيط الأمور بأعقد شكل ممكن، لذلك فقد كانت عملية الربط بين القصص الثلاث معقّدة فعلا، ترتكز أساسا على الصورة لأنّ الحوار غائب تقريبا. فحين يبدأ نولان سرد الجبهة الجوية مثلا، نرى الطائرات الثلاث تحلّق فوق مركب أزرق. إنّه نفس المركب الذي استعمله الجنود عند الشاطئ في محاولتهم الأخيرة للهروب من دنكرك في آخر الفيلم. ومن خلال عناصر كهذه يمكننا أن نشكل صورة ذهنيّة لمسار الأحداث وكيف أنّ ما يحدث في الجبهة الجوّيّة ليس إلا ساعة يتيمة من آخر يوم من أسبوع الأحداث التي كانت تقع عند الشاطئ.
لقد تمّ سرد أحداث الجبهة الجويّة على امتداد فيلم يقارب الساعتين بينما دامت داخل القصة أقل من ساعة واحدة، أمّا أحداث الشاطئ، فلم يكن بسيطا أن يقتنع المشاهد أنّها امتدّت على أسبوع كامل. كان تعاقبُ الليل والنهار واضحا، ولكنّ المراوحة السردية مع جبهتي البحر والجوّ، ابتلعت هذا التعاقب، ومنحت أحداث الشاطئ تعاقبا أسرع من زمن السرد بكثير، وهذه لعبة نولان المعهودة مع الزمن.


زمن السرد وزمن القصة

يصرّ نولان أن فيلم دنكرك ليس فيلما عن الحرب، وإنّما عن البقاء. لكن من قال إنّ أفلام الحرب ليست في أغلبها أفلاما عن البقاء؟
بالعودة إلى الجبهات الثلاث، يمكن القول إنّ نولان قد عرض علينا المواضيع الرئيسية الثلاثة التي نجدها في أفلام الحروب: فعند حاجز الأمواج، يحاول الشابّ الإنكليزيّ الهروب من جحيم دنكرك بأي طريقة ممكنة، إنّ البقاء هو هدفه الوحيد. أمّا في الجبهة البحريّة، فكان الممثّل مارك ريلانس Mark Rylance يؤدّي دور مدنيٍّ بريطانيّ يهرعُ بيخته إلى دنكرك لينتشل أكبر عدد من الجنود البريطانيّين ويعود بهم إلى بلادهم. لا يحمل الرجلُ سلاحا ولا يحمل أيّة نيّة للقتال، فهدفه الوحيد هو الإنقاذ (ربّما يحيلنا ذلك مرّة أخرى إلى فيلم ميل جبسون، وبشكل أقل إلى تحفة سبيلبرغ إنقاذ الجندي ريان Saving Private Ryan). وأخيرا، نجد أنّ الجبهة الجويّة، هي الجبهة الوحيدة التي تمثّل هدف الحرب الطبيعي، أي القتال. فالطائرات الثلاث تخرج من أجل إسقاط الطائرات النازيّة وتأمين نقل البارجات الحربيّة للجنود البريطانيّين.
لقد حقّق نولان أهداف هذه الجبهات في مشهد الالتقاء المتميّز، حين أسقط الطيّارُ Farrier (آداء الممثّل المتميّز Tom Hardy) المقاتلة النازيّة التي كانت تهدّد المراكب البريطانية، ومنح بذلك وقتا للجنود العالقين في مياه القنال للبحث عن سبيل للنجاة، ومنح أيضا اليخت المدنيّ البريطانيّ الفرصة لإنقاذهم.

على أنّ هاجس البقاء ظلّ مسيطرا على أحداث الفيلم. ربّما لأنّه يتعلّق أساسا بإنقاذ أربعمائة ألف جنديّ من حصار مميت. وربّما لأنّ نولان حاول من خلال الصورة، أن يعدّد ضروب الموت المحقّق التي تطارد الجنود. الرّصاص المتهافت من أزقّة مدينة دنكرك، الرصاص الذي يخترق جدران المراكب، الجوع والبرد والعطش، مياه البحر حين تقتحم مركبا يغرق، أو حين تقتحم كابينة قيادة طائرة أسقطت، النيران المشتعلة في بركة البترول على سطح الماء، وبالأخص قنابل الطائرات المدوّية. كان وجه الموت الأصفر يطلّ من مقدّمة الطائرات النازيّة التي تظهر بين الفينة والأخرى، وكان وجه القبطان عند الحاجز الصخريّ يعلن عن ظهور الموت بعينيه البليغتين، في مشاهد هي الأكثر إمتاعا في الفيلم.
ومن المهمّ التأكيد على غياب الطرف الثاني في الصراع، أي الجانب النازيّ. فلا نرى من الجنود النازيّين إلا ظلالهم في مشهد الفيلم الأخير. وهذا التعمّد من نولان، يرمز إلى إبعاد هذا الطرف من الصراع، مصرّا مرّة أخرى أنّ المعركة كانت بين شخصيّات الفيلم وبين الزمن. لقد كان الزّمن أكثر حضورا من العدوّ، بل ربّما أكثر حضورا من شخصيات الفيلم الرئيسية.

يرى البعضُ أنّ دنكرك يعاني من تملّصه المفرط من أبطاله، فهو لا يقدّم لنا أسماءهم، ولا يطلعنا على ماضيهم ولا يسمح لنا بالتالي بالتعاطف معهم. ولا أعرف من أين جاؤوا بهذه القاعدة الغريبة. ففيم يفيد ماضي الشخصيات حين يصارعون الموتَ وحده، لا همّ لهم سوى الاستمرار في البقاء، والوصول إلى ضفّة الحياة؟ ولماذا على المشاهد أن يعرف أوّلا إن كان البطلُ سارقا أم مرابيا أم رجل مبادئ أم أحمقا أم محتالا ليتعاطف معه في هذا الصراع؟ إنّ القصة لا تتعلّق بقتال من أجل إيديولوجيا معيّنة، أو من أجل فكرة ما، ولا يحتاج نولان لتبييض تاريخ أبطاله أو إدانتهم، فحسبه أنّهم بشر يفعلون ما يفعله كلّ مشاهد طيلة حياته وإن بشكل أبسط وأقل عنفا : البقاء حيّا!
كان توجّه نولان في الفيلم واضحا، فهو يحاول أن ينقل الأحداث من الداخل لا من الخارج. لا يهتمّ بأن نرى الصورة كاملة بل أن نراها كما يراها أبطاله. لا نرى طائرة الموت إلا بلقطات الزاوية المنخفضة Low angle shots كما يراها الجنود، إذ تتهاوى من حالق على الجمع العاجز الذي يرتمي أرضا في استسلام ويستقبل قنابلها المدوّية فتصمّ آذاننا قبل أن تصمّ آذانهم. ولا نرى غرق البارجة الحربيّة بشكل كامل، بل نرى ذلك من داخل البارجة، حيث يرتجّ المكان، وتقتحمه المياه، ويميل بعنف، ولا نرى من الخارج إلا ما يراه الضابط الفرنسيُّ الذي كان بالخارج فعلا. أمّا مشاهد المعارك الجويّة فكانت تحفا تقنيّة حقيقيّة تجبر المشاهد على الميلان برأسه كأنّه يقود الطائرة بدل فارييه Farrier وصاحبه كولنز Collins.
لم يكتف نولان بتحويل عدساته إلى عيون أبطاله، بل نقل إلى المشاهد أحوال أبطاله النفسية والمعرفيّة. لذلك لا نعرف أكثر ممّا يعرف الأبطال عن ما يحدث حولهم، وما يعرفونه يكاد يكون منعدما أحيانا.


مشهد تشابك القصص الثلاث

ويبدو أن بعض النقّاد وخصوصا أولئك الذين ما انفكّوا يدفعون هوليود إلى أدلجة خياراتها الجماليّة منذ سنوات لم يستسيغوا واقعيّة دنكرك، أو لعلّهم لم يفهموها كما لم يفهموا ـ ربما ـ معنى التعبيرة الحرّة، ومعنى الرؤية المختلفة، ومعنى السينما. ورغم عدم خلوّ الفيلم من العيوب، لم يرعهم إلاّ خلوّ الفيلم من النساء (في الواقع، دفع نولان في نهاية الفيلم ببعض النساء في مشاهد المراكب المدنيّة البريطانية التي رست عند شاطئ دنكرك)، ومن سود البشرة (في الواقع رأيت بعض الجنود سود البشرة ولكنّ ذلك لا يرضي هؤلاء). واقترح بعضهم تفضّلا أنّ الفيلم كان ليكون أفضل لو أنّه تحدث عن جنديّة عوضا عن جنود ذكور. كأنّ تجنيد النساء خلال الحرب الثانية كان فكرة رائجة وطبيعية آنذاك، أو كأنّ على نولان أن يعيد تشكيل أحداث انسحاب دنكرك التاريخيّة المدوّنة، بحسب ما يشتهون.
إنّ هؤلاء القوم يدفعون بالسينما دفعا إلى مربّع أخلاقويّ بغيض ويمارسون نوعا من الرقابة الأخلاقية أسوأ بكثير من رقابة الحكومات القمعية، لأنّها رقابة تصم المخالفين بكلّ أشكال الميز العنصريّ، وتشيطن أي قول عفويّ مخالف.

مع ذلك، يوجد باب آخر أكثر أهميّة لنقد واقعيّة نولَن وتبيان نقائصها. فالرجلُ الذي أصرّ على تصوير الفيلم عند شاطئ دنكرك في ذات المكان الذي وقعت فيه الأحداث، ورفض ما أمكن استعمال الصور المحدثة بالكمبيوتر CGI وفضّل عليها بدائل أكثر بدائية لإضفاء أكبر قدر من الواقعية على المشهد، لايزال يعاني من ذات المشاكل التي تغافل عنها في فيلمه السابق Interstellar.

مشكلة نولان برأيي أنّه خلال اهتمامه بالتفاصيل العظيمة التي تجعلنا نشهق انبهارا، تجاهل التفاصيل البديهية التي لا نلتفت إليها إلا حين غيابها. وما كنتُ لأهتمّ لهذه التفاصيل لولا تركيز نولان على الواقعية منذ اللقطات الأولى للفيلم.
بدأ نولان فيلمه بمشهد الجنود الذين يمشون على مهل في طرقات دنكرك العتيقة، توحي ملامحهم باليأس وتوحي سلوكاتهم بالعطش والارهاق. كيف عرفنا أنّها طرقات دنكرك؟ من جذاذات ورقية ألقاها "العدوّ" من الجوّ، إذ التقط جنديٌّ إحداها، ونقلت إلينا عدسة نولان/عين الجنديّ فحواها: أنتم هنا، البحر أمامكم، العدو حولكم. خريطة بسيطة تفسر كل شيء في لحظات. وحين يبدأ حفل الرصاص من ورائهم، لا نرى من يضرب، ولا نعرف وجهة الهروب، كما هو حال الجنديّ الأخير الهارب. يتسلّق باب الحديقة، يختبئ وراءه والرصاص يشتدّ ويصبح أكثر عنفا. وتشعر وكأنّك مختبئ بجانبه، وأنّ كل شيء حقيقيّ من حولك، ثمّ يبتعد البطلُ خطوات عن الباب، ويعرّجُ يمينا نحو سور جانبيّ، لكنّ الرصاص لا يزال ينطلق من ورائه كأنّ مصدره قد عرّج مثله يمينا. لكنّك تعرف أن هذا مستحيل، وإلا لكان العدوّ على بعد خطوتين من الجندي البريطانيّ، وإذا بالمشهد يتهاوى، وتعود إلى مقعدك في السينما بعد أن كنتَ في دنكرك.

ينتابك نفس الشعور حين تدكّ القنابلُ الشاطئ ويرتفع الرمل في عنان السماء ثمّ ترينا الكاميرا شاطئا لا أثر فيه للحفر التي خلّفتها القنابل، كأنها لم تحدث. وينتابك نفس الشعور وأنت ترى مباني دنكرك الجميلة كأنها ليست تحت القصف، بل هي المدينة كما هي اليوم، وينتابك نفس الشعور وأنت ترى البحر مضطربا ثم هادئا وديعا في لقطتين من نفس المشهد. ومرّة أخرى حين تلحظ رقم البارجة الحربية H36 التي تمّ قصفها في النهاية وتذكر أنّك رأيتَها تقترب من الميناء البريطانيّ في بداية الفيلم. لكنّ الضربة القاصمة للواقعيّة التي أرادها نولان كانت اختفاء العنف ومشاهد الدماء. فربّما كان من حقّ نولان وأستوديوهات وارنر بروز Warner Bros أن يفكّروا في أكبر عدد من المشاهدين بمن فيهم المراهقين وكل من سيسمح له تقييم جمعية الفيلم الأمريكية MPAA Rating بمشاهدته، ولكن ليس من حقّه إدّعاء الواقعية في فيلم ينقل جحيم عمليّة انسحاب دنكرك وليس فيه أشلاء أو قطرة دم واحدة.
منذ البداية نعرف أنّ هناك خط التقاء بين الجبهتين البحرية والجوية

لم يعد نولان صياغة نوع سينما الحرب، بل إنّه استعاد مواضيعها الرئيسية (القتال، الإنقاذ، البقاء)، ولئن فشل في عملية الإيحاء بالواقعية رغم كلّ التقنيات السردية والتصويرية المبهرة التي استعملها، فقد نجح كالعادة في كسب معركته مع الزمن، فقوّض إدراكنا له، إلى حدّ استوت معه الساعة واليوم والأسبوع، واستحالت جميعها إلى دقّات ساعة متسارعة، نبضات قلب يرتفع نسقها إلى ما لا نهاية، تماما كموسيقى هانس تسمّر Hans Zimmer العبقريّة التي غلّفت الفيلم وملأت أجواؤه ربّما بإفراط كان من الأفضل تفاديه أحيانا.

-------------------------------------------------------
الإسم : دنكرك
المخرج : كرِستُفر نولَن Christopher Nolan
البلد : الولايات المتّحدة، المملكة المتحدة، فرنسا، هولندا
المدّة : 106 دقيقة
النوع : حرب، تاريخ
البطولة : فيون وايتهاد Fionn Whitehead، أنورِن بارنرد Aneurin Barnard، مارك رايلنس Mark Rylance، توم هاردي Tom Hardy

Translate