Wednesday, February 10, 2021

مناورةُ الملكة

 بسبع حلقات لا ثامن لها، يمكن اعتبار مسلسلِ مناورة الملكة The Queen's Gambit فلما أطول بقليل من "فاني وألكسندر" (إنڤمار برڤمان) وأقصر قليلا من فلم طَنڤو الشيطان (بيلا تار). وليس تراوحُ طولِه بين هذين التّحفتين مؤشّرا على قيمته وإنّما يمنحنا القدرةَ على التّعامل معه كأيّها الأفلام التلفزيّة الّتي باتت رغما عنّا شكل السّينما اليوم.


لقد بلغ رواج مناورة الملكة في نهاية السنة الماضية، أن دفع بمبيعات لعبة الشطرنج إلى ستّة أضعاف، وأعاد الاهتمام إلى إحدى أقدم الألعاب في تاريخ البشرية. لم أحظ مع ذلك بالحماس المتوقّع وأنا أتابع مباريات إليزابث ضدّ خصومِها المتنوّعين. صحيحٌ أنّها ـ المباريات ـ نُسخٌ عن مبارياتٍ تاريخيّةٍ شهيرةٍ تمّ اختيارُها بعنايةٍ وبمباركةِ أسطورة الشطرنج ڤاري كاسپَروف. ولكنّ المشهدَ لم يلقِ الضَّوءَ بشكلٍ كافٍ على الرّقعةِ، واكتفى بصورٍ خاطفةٍ لا يمكن أن يفكَّ شفرتَها في أغلب الوقتِ إلاّ المحترفون. ودُفع المشاهدُ الّذي لا يفقه شيئا من اللعبة إلى متابعةِ أطوارِها عبر التّأويل الّذي تقدّمه شخصيّات المسلسلِ. نعرف أنّ بيني Benny كان يندفعُ نحوها دون هوادة وكانت تشعرُ بفقدان مطلق للأمانِ (كانت الصّورةُ المرافقة لتعليقها تنقلُ لنا حركة يدها اليمنى البليغةِ على ذراعها اليسرى). ولكنّنا لا نعرفُ ما الّذي يحصلُ تحديدا على الرقعةِ. وبذات التّسليم نفهم أنّ كورپوف في مباراة المكسيك كان يتحرّك بمنتهى البيرقراطيّة والبداهة واللاخيالِ، لكنّنا لا نُمنَحُ أدواتِ الاشتراك في اللعبةِ والانغماس فيها. وهذا أيضا يُعمينا عن تفاصيل مهمّةٍ في السيناريو. يُخبرُنا بطل العالمِ في الشطرنج، العبقريُّ ماڤنوس كارلسن Magnus Carlsen في قناته على اليوتيوب عن تفاصيل المباراة الختاميّةِ. ولئن أثنى على الأداء الجميلِ لإليزبث إلا أنّه أكّد أنّ المباراة كانت شبه منتهيةٍ من قبل أن يعرضَ كوربوف على منافستِه التّعادلَ. ما يجعلُ من أمارات التّشويق الّتي تلت ذلك عبثا سخيفا وبلا معنى. كان المعلّق يبدي حماسا، وكان الحضور متوتّرين بذات السّخافة الّتي تجعل جمهور كرة قدم متوجّسا من نهاية مباراة يتقدّم فيها فريقه بستة أهداف لصفر. يبقى مع ذلك المسلسلُ/الفلمُ دراما رياضيّةً جيّدةً.


ليست الرّياضة التصنيف الوحيدَ لمناورةِ الملكةِ، فهو أيضا عملٌ تاريخيٌّ بامتيازٍ. وفضلا عن براعته في استعادة حقبة الخمسينات والسّتينات عبر الماكياج والديكور والملابس، فقد حاول إعادة تشكيل تلك الحقبة من منظور مختلفٍ والتوغّل في تفاصيل ملتبسة. صبيّة ذات أصول إفريقيّة في ملجإ يتامى من البيض؟ مسكّنات مخدّرة لأطفال دون العاشرة؟ ها نحن ننظرُ إلى ولاية كنتكي في الخمسينات والستينات بعينيْ أنثى في سياق غير ميلودراميٍّ. مؤسّسة التعليم، والزواج، والشّارع وموجة التحرّر… لكنّ العنصر الأهمّ من وجهة نظر تاريخيّة كان الحرب الباردة ولا شكّ. هل كان تدريس الرّوسيّة للعموم يتمّ بتلك البساطة في الستينات؟ يبدو ذلك مربِكا ونحن نستذكر سجلّ هوليود الستينيّ الغارق في بارانويا الخطرِ السوفييتيّ. تبنّى المسلسلُ وجهة نظرٍ هازئة من الحرب الباردةِ، لا مسفّهة إيّاها فحسب بل غير حافلةٍ بثقلِها وتأثيرها. فحين تتحدّث إليزبث عن حلم السّفر إلى موسكو، لا يتبعُها أيّ تساؤل عن الرّحلةِ سوى مشكلة التمويل. وفي المكسيك على الحدود الأمريكيّة تتواصلُ إليزبث مع البعثة الرّوسية بدون أية رقابة، ناهيك أنّ مرافقها الأمريكيّ إلى موسكو كان مسخرة حقيقيّة.

حاول المسلسلُ عبر مواقف إليزبث أن يعبّر عن سخافة الصّراع بين دفّتيْ الستار الحديديّ، فهاهي ترفض تبنّي فكرة الصّراع بين الكفر والإيمان، وهاهي أيضا ترفض الانصياع إلى بروباغندا الخوف الّتي انتهجتها الحكومة الأمريكيّةُ. بل إنها تمضي قدما لتنتصر بشكل ما للإديولوجيا الاشتراكيّة، خصوصا عبر شخصيّة بيني Benny. يقول بطل أمريكا إنّ لاعب الشطرنج السوفييتيّ يحظى بمكانة اجتماعيّة مرموقة ويلعب مبارياته في قاعات فخمة بتغطية إعلامية كبيرة وتتكفّل الدولة بمصاريفه عكس الأمريكيّ الّذي يطارد تمويلات بائسة مقابلة التذلّل. ولئن كان هذا الواقع نسبيّا إلى حدّ كبير، فإنّ الفكرة الثانية أكثر جديّة. وقد وردت أيضا عبر Benny الّذي أعزى تفوّق السّوفييت إلى خاصيّة التفكير الجماعيّ. يصنعون شبكة عقليّة جبّارة لا يمكن لأيّ عقل منفرد أن يواجهها، بينما يضيع العقل الأمريكيُّ مهما بلغ من العبقريّة في غياهبِ الفردانيّةِ. ويمضي المسلسلُ قدما ليمنح الفوزَ لبطلتِه بعد هزيمتيْن مُذلّتيْنِ بفضلِ تخلّص الأمريكيّين من فردانيّتهم و"اشتراكهم" في اللعبة. إذا رغم انتصار الأمريكيّ على الرّوسيّ في النهاية كالعادةِ، فالمسلسلُ ينتصرُ بشكلٍ غير مسبوقٍ للجانبِ الرّوسيِّ، وقد دعم ذلك بصورة إيجابيّة للغاية لموسكو لا نكاد نرى فيها أثرا للقمعِ أو الحقدِ أو العداءِ. يبقى التاريخ مع ذلك مبحثا ثانويا، فمناورةُ الملكة هو مسلسلٌ نسويّ بامتيازٍ.


دون الاستعانةِ بمواقف نضاليّةٍ، أو قصص معاناةٍ صارخةٍ، حوّل المخرجانِ والكاتبُ (وجميعهم رجال بالمناسبة) سيرةَ إليزبث هارمُن إلى خُرافةٍ نسويّةٍ مُظفَّرةٍ، وصنعوا منها مثالا نسائيّا أعلى. تتفوّق "بِث" على الرّجالِ في مجالٍ ذَكَريٍّ شديدِ الرّمزيّةِ. إذ يُنظرُ إلى الشطرنج كمجال بزوغ الذّكاء الخامِ الّذي لا يحتاجُ المرءُ فيه إلى المعارفِ الأخرى. ورغم تهافتِ هذه الفكرةِ فإنّها احتفظت بحضورها القويّ في المخيّلة الجماعيّة، وسمحت لإليزبث بأن تنقض من خلالِها، فكرة قروسطيّة تربطُ الذكاء بالجنسِ. لا يُفسَّر نبوغ إليزبث بالاجتهادِ أو العنادِ أو الرغبة الجامحة في إثباتِ شيء ما كما يحدثُ في أغلب قصص النساءِ المتفوّقاتِ، ولكنّها عبقريّة محضة تظهرُ مع الطّفولةِ. وما اجتهادُها في ما بعدُ إلا ضرورةٌ لا يمكن لأيّ عبقريٍّ تفاديها حين يقارعُ المستويات العليا، أيّا كان جنسُه.

لا نرافقُ بِث في مبارياتِها فحسب، بل أيضا في حياتِها الّتي تسير بتوازٍ دراميٍّ موقّعٍ مع حياتِها الرّياضيّةِ. إنّ هذا التوازي مهمٌّ جدا، لأنّ عبقريّةَ البطلةِ الّتي تظهرُ في الرياضةِ، تُستنتجُ في الباقي وتُحفّزُ على الاقتداءِ.

ليست تقنية التوازي حديثة عهدٍ ولا غريبةً على السّيرِ، ولكنّها عادةً ما تسيرُ باتّجاهٍ معاكسٍ من حياةِ البطلِ إلى إسقاطٍ سياسيٍّ أو تاريخيٍّ (فورست غمپ، وداعا يا خليلتي، قواعد اللعبة الخ)، أما في مناورةِ الملكة فالإسقاط يحدثُ على تجربةِ بِث الوجوديّةِ، ويمنحنا الأدواتِ للتأمّلِ فيها. تعلّمت البطلةُ أولى دروس الشطرنج القاسية حين أجبرها معلِّمُها شايبل على الانسحابِ، وتزامن ذلك مع أولى دروسِها الجنسيّةِ من عند رفيقتِها جولين. لقد كانت بث اللاعبةُ تتعلّمُ فنون الشطرنج، أما الطفلةُ فكانت تتعلّم دروسها الأولى كامرأة: التعرّف على جنسها وعلى الجنس الآخر.

في ما بعدُ، تبدأ اللاعبةُ مسيرتها الرياضيّة بالبطولةِ الأولى، وتزامنا مع انتصارِها المهمِّ على تونز Townes يقع الحدث المهمُّ للطفلةِ: لقد صارت امرأةً أخيرا!

كان تونز خفقة قلبها الأولى، وفي لقائهما الثاني لم تعد تلك الطفلةَ المشارفة على البلوغ، بل شابّة لافتة للأنظار، لذلك كانت حادثة الفندق خيبة كبيرةً لها لا تقلُّ في شيءٍ عن خيبة الهزيمةِ الأولى أمام Benny، في الحالتيْن كان الدّرسُ مهمّا للتخلّص من النظرة الطفولية الحالمةِ للعالمِ. إذا كانت تريدُ بطولةَ العالمِ فعليها تعلّم الرّوسيةِ، وإذا كانت تريد أن تكون امرأة بالغةً فعليها أن تجرّبَ الجنسَ. في الأثناءِ، كانت الحياةُ تخبّئُ لكليهما مفاجأتيْن أكثرَ قسوةً، وأشدَّ تزامنا: هكذا تنهزمُ هزيمةً مذلّةً أمام كورپوف وتفقد أمَّها في الآنِ نفسه. هذا هو العالمُ الحقيقيُّ، كرياضيّةٍ تعرّفت إلى معنى اللعب في مستوى عالميٍّ وكامرأة تعرّفت إلى معنى حياةِ البالغين: أن يكون المرءُ وحيدا.

يستمرّ نموُّ البطلةِ على المستويين بشكل متوازٍ حتّى تصلَ إلى لحظة النّصر النهائيّةِ، إذ تتوّجها بلحظة تصالحٍ مع مختلفِ الرّجال الّذين كانوا في حياتِها، وعلى رأسهم تونز. نوعٌ من اكتمالِ الرّحلةِ.


لا تتوقّف عناصرُ النسويّةِ في مسارِ رحلةِ البطلةِ ولا في رمزيّة اختصاصِها، بل تتناثرُ هنا وهناك في مشاهدَ عدّةٍ. حين تلقّت دميةً هديّة من رئيس نادي الشطرنج للأولاد، ألقت بها مباشرة في سلّة المهملاتِ. كانت بث تبدي مرارا وتكرارا رفضها أو تجاهُلها لكلِّ السلوكات الاجتماعيّة الّتي تريدُ قولبَتَها على النمط الكلاسيكيِّ، فهي تفضّل شراء الشطرنج والكتب على الألبسة والأحذية، وتكره الحديث المنمّط عن الرّجال والرومنسيّاتِ، علاوة على أنّ علاقاتِها الجنسيّة كانت باردةً إلى حدّ كبيرٍ. وحتّى في إدمانِها على الكحول والمسكّنات، فقد كانت تعبّر عن تمرّد على نظامٍ قائمٍ يتسامح مع إدمانِ الرجال، ويواجه إدمان النساءِ بتجاهلٍ حادٍّ وقاسٍ.

وحولَ بِثْ الموهوبةِ، ترتسمُ شخصيّاتٌ نسائيّةٌ أقلّ حظوةً لدى الأقدارِ، لتحكيَ على الهامشِ بعض المآسي النسويّةِ. جولين ذات الأصول الأفريقيّة الّتي تُلفظُ طفلةً حتّى تذبل طفولتُها. أمّها الّتي تذوق الهجرَ مرّة بعد أخرى حتّى تهلكَ. زميلةُ الدّراسةِ الّتي كان يمكن أن تصبح مثلها لو أذعنت لتربية المجتمعِ مثلها… توجد هذه الشخصيات على الهامش، لأنّ أيّ امرأةٍ يمكن أن تعيش قمعا اجتماعيّا أو طبقيا أو اقتصاديّا، ولكن يمكن لهنّ جميعا أن يكنَّ "بث"، بأن يحقّقن وجودهنّ كما يردن لأنفسهنّ.


ورغم هذا النفس التحرّريّ المتحمّسِ، لم يخلُ هذا البناءُ من تناقضاتٍ. ولو تجاوزنا بعض هنّات السيناريو الّتي يمكن تفسيرُها بشيء من الاستقواءِ على طبيعة الأشياءِ، مثلَ حدوث العادةِ الشهرية الأولى في سنّ السّادسة عشر تقريبا، أو كلّ ما تعلّق بالسّوفييت بشكل عامٍّ، فالإشكال الأساسيُّ يكمنُ في إليزبث نفسها، كشخصيّة موهوبة، إذ أنّها على عكسِ المرادِ تبدو كاستثناءٍ يؤكّد القاعدةَ. لا وجودَ لأخريات يلعبن الشطرنج لا لأنّ النساء ممنوعات من اللعبةِ فهاهي إليزبث ومنافستُها الأولى في كنتكي تبرهنان على العكس، ولكن لأنّ الأخريات لا يملكن الذّكاء الكافي لذلك. لم تكن "بث" طفلةً ذكيّة فحسب، بل كانت أيضا وحيدةً. ومن بين كلّ الشخصيّات النسائيّة في المسلسلِ، لم توجد أخرى بمثلِ ذكائها ربّما عدا أمّها الّتي انتحرت.


يبقى مناورةُ الملكة عملاً ناجحا على كلّ حالٍ وفكرةً مُلهمةً لصنف الكتابة النسويّةِ: اِنعتاق من سجن الصّراع الجندريِّ، وتوقٌ إلى أنموذجٍ أصيلٍ لا يشبه إلا نفسه.




Translate