Sunday, March 17, 2019

الهلع من الدّشرة

 

إنّ ما يجعلُ دشرة حدثا ثقافيّا مهمّا في تونس، هو ذاتُه الّذي جعل منه فلما غير ذي بالٍ. فأدبُ الرّعب بشكلٍ عامّ لم يعد غريبا في تونس إلاّ منذ أن تكوّنت الأكاديميّاتُ وأخضِعَ الأدبُ فيها للدّراسات "الجادّة". أمّا الثقافة الشّعبيةُ الأصيلةُ فنجدُها عامرةً بالحكايات المثيرةِ للخوفِ والخيالِ والمعبّرةِ عنِ الهواجس الدفينة. وفي حين لم تَحِد السينما التونسيةُ أغلب الوقت عمّا لا يرضى عنه أكاديميّو الفنون "الملتزمة" (بماذا؟)، ولم تشذّ إلاّ بكوميديا أو اثنتينِ، يختارُ عبد الحميد بوشناق لفلمِه الطّويل الأوّل أن يمضيَ بعيدا في الشّذوذ، فيقتفيَ بقُمرَتِه ذلك الشّيء المروّع المختبئَ خلف خيالاتنا…
 
لا تسمحُ طبيعةُ هذا النّصّ بالعودةِ للنّظريّات الكثيرة الّتي درست سينما الرّعب وحاولت أن تصنّفها وترتّبها وتجيب عن سؤال : لماذا نشاهدُ أفلام الرّعب؟ وعلى كلّ حالٍ فلم توفّق أيٌّ منها في تقديم إجابة متكاملة1. ذلك أنّ الدوافع تختلف باختلافِ المتفرّجِ وباختلافِ صنفِ الرّعب أو الثيمة. وإذا كانت الدّوافع تتباين عند مشاهدي الرّعب المعويّ Visceral horror أو أفلام التشريح Slasher movies، فإنّها أكثر تباينا مع الأصناف الأخرى للرّعب2. على أنّه يجب التأكيد على تأثير طبيعة العلاقةِ المُنبيةِ بين المشاهدِ والمشاهَدِ في إرساء مختلفِ الدّوافعِ الممكنة.
فالمتفرّجُ جالسًا في ركنٍ خفيٍّ في الظّلامِ يمارسُ نوعا من التّلصُّص Voyeurism على شخصيّاتِ الفلمِ، فيُحدث معها علاقاتٍ أحاديّةً تتراوح بين التّماهي (Identification) والتّوثين (Fetichism). ومن ثمّة، يسمحُ الفلمُ للمشاهدِ عبر هذه العلاقات بإسقاط رغباته على الشّاشة، وتحرير انفعالاته المكبوتة ومواجهتها3.
 
ولئن تبدو هذه العلاقةُ شخصيّةً جدّا، فإنّ كونيّةَ المخاوفِ الإنسانيّةِ تجعل التّأثيرَ جماعيّا. كما أنّ سينما الرّعب لا تتجاهل مخاوف الجماعةِ، أو التابوهات القائمةَ على مستوى المجتمع، بل إنّها من أهمّ محرّكاتها. فهي تعمل على كشف محرّماته وإظهار ما يحاول كبته وإنكاره، من مخاوفنا تجاه ثقافة الاستهلاك الحديثة واعتمادنا المتنامي على التكنولوجيا إلى فَزَعِنا من الآخر المختلف جسديا واديولوجيّا4.
 
أين يتنزّل "دشرة" من كلّ هذا؟ باعتباره الأوّل من نوعه (فلم رعب تونسيّ) فقد كان تجريبيّا بشكلٍ كبير، اختلطت فيه أصنافُ رعبٍ متنوّعة، أهمّها رعب الغيبيّات Occult horror والرّعب النفسي Psychological Horror والرعب المعويّ Visceral Horror وأيضا رعب الأرياف Rural Horror…
 
يتعلّق الرعب النفسيّ بالشخصيّة الرئيسيّة إذ يحملنا على التّماهي معها ومع لحظات فزعها. ومن أشهر أفلام هذا الصّنف مشروع السّاحرة بلير The Blair Witch Project، لذلك فليس غريبا أن يكون هذا الفلمُ حاضرًا بكثافة في مشروع عبد الحميد بوشناق. نتعرّفه منذ المشهد الثالث تقريبا، حين يجتمع أبطال الفلمِ الثلاثةُ: ياسمين وبلال وعزيز. ويعزمون لمشروع التّخرّج على إنجازِ تحقيقٍ صحفيٍّ مصوّرٍ عن القصّةِ المثيرةِ لمنجيّة، إحدى نزيلات مستشفى الرّازي (للأمراض العقلية) الغامضات. وكما نعلمُ، تقودهمُ المقابلةُ إلى الذهابِ إلى قريةٍ صغيرة (دشرة) نائيةٍ في أعماقِ غابة لا أوّل لها ولا آخر. وهناك، تتوارى الحضارة تماما ويحضرُ الفزعُ بمختلفِ أصنافه. فيتحوّل المشاهدُ إلى ضحيّةٍ رابعةٍ مستمدَّةً مخاوفها من التّماهي مع الشخصيات الرئيسيّة وأهمُّها ياسمين.
 
يخبرُنا بوشناق منذ البدايةِ عن الشخصيّةِ الرّئيسيّةِ بدعوتِنا لزيارةِ أحلامها المتداخلة (nested). فهذه عادةٌ معروفة لدى الشخصيات الرئيسيةِ في أفلام الرّعب. ولا تسمح الأحلامُ بتقريبنا من الشخصية الرئيسية فحسب، بل تنذرنا أيضا بطبيعةِ الخطرِ الّذي سوف يتهدّدُها، وتلمّح إلى حقيقةٍ عن البطلِ لم يدركها بعدُ. نجدُ كلَّ ذلك في حلمِ ياسمين الّذي يحيلنا إلى أهم مشاهدِ أفلام الرعب النفسيّ على الإطلاق، وهو مشهدُ الحمّام في سايكو Psycho لهيتشكوك. لكنّني مع ذلك لا أجدُ تفسيرا لحكاية الحمّام والدّماء بين الفخذين… 
 
الكابوس يستعيد لقطة سايكو الشهيرة ولكن من دون موسيقاه العظيمة
 
وفي المرّة الثانية الّتي ينتابُنا فيها الفزعُ مع ياسمين، يظهرُ الصِّنفُ الثاني، وهو رعب الغيبيّات. فمنجيّة تبدو أقرب إلى الدراويش أو المجانين الّذين اقتربوا من جانب النجوم، وعرفوا أكثر ممّا ينبغي. إنّها تملك معرفةً بما وراء الطبيعة، وإلاّ كيف استطاعت أن تشير إلى مكانِ الدّشرةِ في الخريطة في تلك اللحظة العصيبة؟
 
يقوم رعب الغيبيّات على علوم التنجيم والسّحرِ والطقوس المخيفةِ الّتي تحدثُ حين ننامُ. لقد طغى هذا الصّنف بشكلٍ كبير على الفلمِ، خصوصا وأنّ موضوعه الأساسيَّ ـ ظاهريّا على الأقل ـ هو أحد أشهر الطقوس السحريّة وحشيّةً في شمال إفريقيا، أي استعمالُ الأطفال كقرابين للأعمالِ السّحريّةِ.
في هذا المستوى يتراجعُ حضورُ المرجعيّةِ السينمائيّةِ العالميةِ لصالح مدوّنة الرّعبِ التّونسيّةِ الأصيلةِ، على مستوى المضمون على الأقلِّ فقد كان مشهدُ الطّقوسِ الليليّة المرعبةِ ـ كما رأته ياسمين من وراء النافذة ـ أقربَ إلى طقوس سحرةِ أوروبا أو أشبه باجتماع كائنات لا بشريّة في إحدى المقابر.
 
مشهد التغسيل
لم يقف بوشناق عندَ ذبح الأطفالِ، فقد كانت الدّشرةُ عُشّا لشتّى الأهوالِ الّتي يمكن أن تسمع عنها قصصا في تونس: السّحرُ الأسود (الكسكسةُ - أي تحريك الكسكس - بيد الموتى، وتكميم أفواه الموتى بالطلاسم…) وأكلُ البشر والكائنات الماورائيّة الّتي لم يصرَّح عن كنهها تماما ونرجّح أنّها الغولة (المختبئة في المنزل) والعفاريت أو الكائنات الشيطانيّة (الّتي صرفها الجدُّ بقراءة القرآن فتلاشت). نضيف إلى ذلك مشهد التغسيل الّذي قُدِّم الجدُّ بواسطته، وهو مشهدٌ حاولَ المخرجُ أن يبرزَه باللّقطة القريبة جدّا Extreme Close Up ويبثَّ عبره رهبةً لا أظنّها وصلت ونحن نرى بوضوح عروق الميّت العامرة بالحياة، وضلوع جفنيه وهي تجاهد للانغلاق.
 
وعلى كلِّ حالٍ، فقد أخطأ بوشناق بالاعتقادِ في أنّ تكديس هذه العناصرِ سيعطي الفلمَ الأصالة التّونسيّة الّتي ينشدُها. لقد منحَ الحوارُ القصّةَ بالفعلِ تلك الأصالة، بإفراطهِ في العنف اللفظيّ المتبادل بين الشخصيّات حتّى بلغَ العنف المادّيّ. كما أنّ الإطار نفسه يعبقُ بالخصوصيّات التونسيّة، وكان من الأفضلِ الاكتفاءُ بمسألةِ القرابينِ البشريّةِ بما أنّ القصّة تدور حولها.
 
لقد أسهمَ التّكديس في إرباك القصّةِ وتشويشها. فنحن نعلمُ أنّ ذبحَ الأطفال يحدثُ بغرض الحصول على الكنوزِ، لكن لم يذكر ذلك صراحةً. ولا يمكن افتراضُ أنّهم نجحوا في مساعيهم. لقد أظهرت إحدى اللّقطات حصول سيّد الدّشرة (آسف لقد نسيت اسمه، ولا أجد له أثرا على الانترنت) على المال من أحد "الزبائن"، كما نعرف عبر منجيّة أنّ هناك تجارةً تحدثُ، يقدّم بموجبها أهلُ الدّشرةِ خدمات سحرٍ وشعوذةٍ للغرباء القادمين. كلّ هذا يجعلنا نتساءل عن هذه الحاجة إلى المالِ من قبلِ كائناتٍ لا تبدو بشريّةً، إذ قرأ الجدُّ البشير عليها القرآن فتلاشت (قبل أن تعودَ مرّة أخرى).
إنّه عالمٌ لا يبدي أية حاجةٍ للمال أو للعالمِ الخارجيِّ فلماذا يستدعيه (العالمَ الخارجيَّ) ويقيم معه الصفقات؟ ثمّ تأتي الغولة، ذلك الكائن المتوحّش الّذي يطلع علينا من دون أن يضيف أيّ شيء للقصّة عدا نوعٍ مختلفٍ من الرّعبِ وهو الرّعبُ المعويُّ.
 
ورغمَ أنّ بداية الفلمِ لم تخلُ من الدّماءِ (ظهور الدّماء على منضدةِ التغسيل، دماءُ ياسمين أثناء الحمّام، ودماء الإشارةِ إلى الدّشرة في الخريطة)، إلاّ أنّ الرّعب المعويَّ لم يكشّر عن أنيابه إلاّ في نهاية الفلمِ بعد تشويقٍ طويلٍ. يمتازُ التّمهيدُ في عادةِ هذه الأفلامِ بحضورٍ كثيفٍ للإباحيِّ (Hostel)، فالمجزرة الّتي يتعرّضُ لها الأبطالُ فيما بعدُ تأخذُ شكلَ العقوبةِ على السلوكات اللاأخلاقيّةِ الّتي مارسوها. لذلك يتماهى المشاهدُ الوفيُّ لهذا الصّنفِ مع القاتلِ، ولا يشعرُ بأية شفقة تجاهَ الضحيةِ (هناك أنواعٌ أخرى من المشاهدين أكثرُ تعاطفا مع الضحيّة)5. في حالةِ دشرة، وبالسّعي وراء ذات الدّوافع الجنسيّة الّتي ترتبطُ عادةً بأفلام الرّعبِ بما هيَ دوافعُ "محرّمة" نحاولُ كبتها وتحاشي الاعتراف بها، سوف نلحظُ خلفَ اللغةِ حكاية الصّراعِ المكبوت القابعِ في السيّارة بين الولديْنِ على ياسمين. من يجلسُ في المقعد الأماميّ. من يفوز في معركةِ النّكاتِ الجنسيّةِ ويثبت ولو عبر الدّعابةِ أنّه الأكثر فحولةً، أنّه الأكثر تميّزا. عزيز كان دوما صاحبَ السّبقِ، لكنّ ياسمين لا تبالي بذلك، وتصرّ على إبقاء العلاقةِ طفوليّةً. الحقيقةُ أنّها ليست مستعدّة للمرحلةِ الجنسية ولا تزال ترى في أبيها/جدّها حبيبَها المنقذ. ولعلّ هذا ما يفسّر الدّماء في كابوسها. تلك كانت خطيئتها. لقد انقاد الثلاثةُ إلى تخومِ الغابةِ (وما تعنيه في المخيالِ التّونسيّ) بفضل طفلةٍ تلبسُ الأحمرَ. تلك الطفلةُ هي انعكاسٌ لسايكولوجيا ياسمين، فهي تصرُّ رغم مرور السّنين على البقاءِ طفلةً، بقمعِ نوازعها الجنسيّة، والاشمئزازِ من اللحمِ. تحيلنا الطفلةُ الّتي تلبسُ الأحمرَ في الغابةِ على خرافةٍ شهيرةٍ جدا. ترمزُ خرافةُ ليلى والذّئب إلى اندفاع الطفلةِ نحوَ الحياةِ الجنسيّةِ قبل الوقت المناسبِ6. ليلى تذهب إلى بيت الجدّة لتصاحب الذئب في الفراش أما ياسمين فتقول إنّهم مثل الإخوةِ، وتنام في الفراش وحيدةً. وبمجرد أن حدث ذلك، عادت الكوابيسُ، وحضرت الشياطينُ. فيما بعدُ جاء الأبُ/المنقذُ فعوقبَ هو أيضا لرفضه تسريحَ ابنته. أمّا بلال فقد عوقبَ باختراقِ جسدِه بأعنف الطرقِ وأبشع الصّورِ، لأنّه لم يكن رجلا بما يكفي…
 
ياسمين تقود فريقها خلف الطفلة ذات الرداء الأحمر
 
تبقى هذه القراءةُ محدودةً بالكثير من العناصرِ المهلهلة في السيناريو مثلما تحدّثتُ في السّابقِ. ويمكنُ أن نقدّم قراءةً أخرى عن طبيعة الخطيئة الّتي اقترفها الثلاثةُ، وهي تمرّد الشبابِ.
 
منذ البدايةِ يتحرّك الثلاثةُ في عداءٍ مطلقٍ مع البنى والتنظيمات والهياكلِ. بلال يأتي متأخّرا للدّرسِ. ياسمين تعملُ من دون أن تخبر جدّها. ترفضُ الحديثَ إلى الشّيخِ وترفض أفكارَه. ثمّ إنّهم يوضعون في مقابلةٍ مع صنف آخر من الشّبابِ، صنفٍ اختارَ لبس البدلةِ الرسميةِ، والانتشاءَ بالإطراء (ولعق الأحذية)، واستعمال اللغة الخشبية. يحملون أدوات التصويرِ ويندفعون متجاوزين بيرقراطيّة الإداراتِ، والتسلّل عبر الأبواب الخلفيّةِ، لا يتراجعون أمام الغابة الكثيفة، ولا أمام المسافة الطويلةِ. إنّ خطيئتهم أنّهم لا ينضبطون لأيّ شيء، بما في ذلك اللغةَ المقبولةَ. وإذا كانت منجيّة الّتي تشبههم في اندفاعها وتمرّدها وبحثها عن الحقيقةِ، قد تحوّلت إلى مجنونة في نظرِ المجتمعِ، فإنّ مصير الثلاثةِ سيكون أسوأ لأنّهم لم يكتفوا بالكتابة، وإنما جاؤوا بغرض التصوير.
 
أعتقد أنّ هذه القراءةَ مهمّةٌ لأنّها ـ في ما أظنّ ـ تعكس جانبا من شخصيّة المخرجِ حين أصرَّ على مغامرة التصويرِ بميزانيّة خفيفةٍ جدا، متجاوزا طلب الدّعم والمسار البيروقراطيّ الاعتياديّ للسينما التونسيّةِ. ولا شكَّ أنّ روحَ الشّباب المتمرّدِ على الضوابط السينمائيّة القديمةِ حاضرةٌ بقوّةٍ في الدّشرةِ.
وبينما نجح المخرجُ، فشلَ أبطالُه (أو هكذا يبدو لنا) في النجاةِ. وأيّا كانت القراءةُ، فنحن دوما نصطدمُ بالتواءة عزيز واكتشاف حقيقته. إذ تخرجُ علينا بشكلٍ مشابهٍ لنهايةِ فيلم المنشار الأوّل Saw (سنة 2004)، لكنّها تهدمُ كلَّ بناءٍ ممكنٍ تقريبا، ولا غايةَ من ورائها إلا خلق حالةٍ جديدة من الفزع لا أخالها حدَثت. لقد كانت نوعا من الشّطط الدراميّ الّذي يصيب بالتخمةِ حين تكون قد أخذتَ كفايتَك بالفعل من المفاجأة القاصمةِ الّتي كشفتْ حقيقةَ ياسمين.
 
ولم يتوقف الفيلمُ ليعرض علينا تفسيرا مقنعا، واكتفى فقط بالاسترجاع (flashback) ليثبت أنّ المفاجأة لم تكسر السيناريو وأنّه قرئ لها حسابٌ منذ البدايةِ. لكنّ المفاجأة لا تقولُ لماذا وكيف. فهُم كما تقول ياسمين مثل الإخوة، والإخوة يعرفون كلَّ شيء عن بعضهم البعض.
وعلى المستوى التقنيِّ، يمكنُ القولُ إنّ الرّعب المعويّ كان ناجحا، وإنّ الدماء واللحم والأمعاء واللقطات المثيرةَ للغثيانِ كانت مثيرة للغثيان. ولقد ساعدت الإنارة الخافتة Low-Key Lighting والتركيز على اللقطة القريبة Close-up في تلافي نقائص الميزانيّة البسيطة. ولا شكّ أنّ بَقْر بطن بلال كان بشعا بما فيه الكفاية في عيون المتفرّجين.
 
أما جانب الرّعب النفسيِّ، فقد تأثّر سلبا بالميزانيّة البسيطة. ذلك أنّه يحتاج إلى حركة قُمرة أكثر تعقيدا، أو استعمال وجهة نظر البطل POV كما في مشروع الساحرة بلير، وهو أمرٌ رفضه بوشناق، واكتفى بَداله باستعمال متتاليات قصيرةٍ ولقطات قريبة جدا، والعملِ المكثّف على القطع Cuts والتركيب والأصوات السّرديّة diegetic (الصراخ) واللاسردية (الموسيقى) لنقل نفسيّة الشخصيّات أوقات الخطر. وأعتقد أنّ كلّ ذلك قد استعملَ بشكل بسيطٍ خالٍ من الأناقة.
في المقابل، حضرت الأناقةُ في رعب الغيبيّات، فتمَّ تصميمُ الكائنات الخارقةِ والشيطانية بشكل بارعٍ، وكذلك كان تجلّيها رهيبا أحيانا. وبذات العناية، صُمّمت مشاهدُ الطقوس، والأعمال الخارقة. وربّما يعودُ السّبب إلى استئناسِ المخرجِ بمدوّنة الرعب السينمائيّةِ حتّى في هذا المستوى الشديد الخصوصيّة. كان الوحشُ أو الغولةُ شيئا أقرب إلى وحش أفلام الحقد The Grudge أو الحَلَق Ring، وكانت طقوس الليل أشبه بملتقى ساحرات في مقبرة أوروبيّة قديمة. واختفت ألبستهنّ التّونسيّة الريفيّةُ في التقابل الضوئيّ الحادّ الأشبه بالـ chiaroscuro، باستعمال أدوات بسيطة حاول المخرج توريتَها بتقصير اللقطة وتركيبها.
 
اجتماع المقبرة وضوء الكشافات السّيء
 
لقد امتدَّ هذا الامتزاجُ بين الأوروبيِّ والتّونسيِّ إلى رابع أصناف الرّعب الّتي تميّزُ دشرة، وهو أهمّ هذه الأصنافِ لذلك تركتُه لنهايةِ المقالِ. يرتكزُ رعب الأريافِ Rural Horror على فكرةِ الاحتباس في مكانٍ غابتْ عنه الحضارةُ، وما يمكن أن يحملَه من أخطارٍ قد تتعلّق عادةً بمسائل غيبيّةٍ (أسطورةٌ قديمةٌ، طقوسٌ سحريّة، طائفةٌ مخيفة sect). لقد وجد بوشناق في غابات الشمالِ الغربيِّ كنزا فنّيّا ثمينا. شيئا جميلا ومخيفا يشحذُ الخيالَ. شيئا يحملُ الخصوصيات الغربية لأفلام الرعب الريفيِّ، ولكنّه أيضا عامرٌ بالعناصرِ التّونسيَّة الّتي لا تخطئها العينُ.
وهذا المكانُ هو مفتاحُ خارطة الرّعب الّتي تشكّلتْ في دشرة عن غير وعيٍ غالبا، ولكنّها تعكسُ مثلما ذكرنا منذ البداية، محرّما اجتماعيّا مكبوتا.
 
لفهم ذلك يجب أن نعيد صياغة القصّة مثلما يلي: يدرسُ ثلاثةُ طلبةٍ مشروع تحقيقٍ صحفيٍّ فريد. يعيش ثلاثتهم في المدينةِ، يستعملون كلّ ما جادت به التقنيةُ من ترفٍ. من السيّارة إلى الكمبيوتر والهاتف. وحتّى دراستهم تعتمد على تقنيات تصويرٍ متطوّرةٍ لا يملكُ أيٌّ كان القدرة على استعمالها (لنذكر صراخ بلال في وجه عزيز بعدم استعمال قمرته). حين يلتقون بمنجيّة (لاحظوا المقابلةَ بين اسمِ منجيّة واسم ياسمين)، تلك المرأة الّتي وجدت في مكانٍ مقفرٍ بعيدٍ عن الحضارةِ، يختفي الكهرباءُ، ويختفي الحوار المتحضّرُ ويستبدلُ بهجومٍ شرسٍ ودماءٍ تعبّرُ، ويختفي google map وتحضر الخارطةُ التقليديّةُ الورقيّةُ.
 
يذهب الثلاثةُ إلى تخوم الغابةِ، بعيدا عن كلِّ أشكالِ الحضارةِ فماذا يجدون؟ مجتمعا بدائيّا تماما. تحدثُ مقابلةٌ حادّة بين الجماعتين. كانت ياسمين قائدة الثلاثة ولا شكّ. تقود السيّارة، تبادرُ بالحديث، تصرخ في الولدين وتفضُّ نزاعهما، وتتحدّث باسم الفريق. في المقابل، كان هناك سيّدٌ واحدٌ وجمعٌ من النّساءِ من مختلفِ الأعمارِ. يتحدّثُ السيّدُ باسمِ الجميعِ بلهجة الشمال الغربيِّ، وأسلوبٍ ريفيٍّ لطيفٍ. يُبدي لهم كلَّ الكليشيهات الّتي نعرفُها عن أهل الريف: الفقرُ والكرمُ وحسنُ الضيافةِ والشّهامةُ وعرضُ المساعدةِ بلا حدودٍ. في الأثناءِ تكتفي النساء بالصّمتِ المدقع. في هذا المجتمعِ يحرم أن تتكلّمَ النساءُ، ويجب أن يكتفين بطهوِ الطعامِ.
في المرّة الوحيدةِ الّتي نطقت فيها امرأةٌ، كانت حاملاً، وكانت توشوشُ في خوفٍ وكان جزاؤها التوبيخ الشديدَ من سيّد الدّشرةِ. لماذا صرخ فيها؟ يجيبُ ببشاشته السخيفةِ إنّها امرأةٌ تهذرُ كالمجانينِ بما لا تفهمُ.
يجلسُ الجميعُ للأكلِ. يقدّم الطعامُ. لحمٌ وفيرٌ وغيابٌ تامٌّ لأدنى مظاهر النظافةِ. تُبرزُ القمرةُ توحّش القومِ وهم يلوكون اللحومَ، وتبرز في الوقتِ ذاتِه مشاعر القرف المرتسمةِ على الفتاةِ المتحضّرةِ وصديقها بلال.
 
إنّ هؤلاء القومَ لمرعبون. إنّهم يعيشون خارجَ الحضارةِ. يمسكونَ سكاكين عوض مضخّمات الصّوت والقُمرات، ويأكلون بأيديهم بدل الشوكة والسكين، ويخفي النساءُ وجوههنّ عن الغريبِ ويمتنعنَ عن الحديثِ. إنّ الرّعبَ الحقيقيَّ هنا، هو أن تكتشفَ فجأةً أنّك جئت من هنا، من هذا المكانِ!
 
قد يقول القائلُ إنّنا لسنا أمام مقابلةٍ بين الريفِ والمدينةِ، بين الرّيف والعاصمةِ لو شئنا الدّقة في نقلِ الكليشيه الشّائعِ. والأمرُ لا يتعلّق إلا بمكانٍ محدّد دون غيرهِ. لكنّ المقابلةَ الّتي تحدثُ بين جمعِ الطلبةِ وجمعِ المتوحّشينَ واضحةٌ. أكّدها المخرجُ من خلالِ اهتمامِه برحلةِ الجدِّ لإنقاذ ابنته.
 
هناك أغنية راب RAP تونسيّة شهيرة تعكس بشكل كبيرٍ الصّورة النّمطيّة الرّائجة في تونس: 
”جاي مالريف للعاصمة 
مخلي وريا دعاوي لميمة 
من عيلة فقيرة و بو زاولي 
لا سمعنا عمدة ولا والي 
راكب في لواج سارح بافكاري 
نتذكر الفقر تشعل ناري 
في الصغرى مشينا قرينا عل الكريتا 
في صغري نستخايل مناش في الخريطة … 
حكينا عالحاضر و الماضي 
وعلى الدشرة الفقر في دشرتنا صاحب عشرة“
 
وهو مشهدٌ لو قلبنا مسارَ رحلته لاختصر الفيلمَ تقريبا. تقترنُ سيارة الأجرة المعروفة باللّوّاج بالريف بشكلٍ كبيرٍ. ورغمَ وجود الدشرةِ في الشمال الغربيِّ (الأكثر فقرا في تونس)، فإنّ المخرجَ اختار تصوير محطّة باب عليوة الّتي تذهب بالمسافرين جنوبا. ربّما لأنّها مناسبةٌ للتصويرِ أكثر من محطة باب سعدون (الّتي تنقل إلى الشمال)، وربّما أيضا لارتباطها في المخيال الشعبيّ بالانتقال من المدينة إلى الريف، كما في أغنية بلطي.
 
لا، لم يكن الأمرُ عفويّا تماما. فلا توجدُ أيّةُ حاجةٍ سرديّةٍ لتصويرِ رحلة الجدِّ بذلك الشكلِ. ما إن يصل إلى المحطّةِ حتّى تحضر الأشباح (أو الرّهبان لا أعرف). وفي داخل السيارة، لم يُخْفِ الجدُّ خوفه من هذه الكائنات الجالسة من حوله وتتصرّفُ بشكلٍ مريبٍ.
تحملُنا القُمرةُ على الخوفِ من هذا العالمِ، والتوتّر تجاه تصرّفاته. مع إنّنا طيلةَ هذا الوقتِ لا نستطيع الجزمَ بشيءٍ خطإٍ. حتّى مشاهد اللحم المقزّزة، تعكسُ في الواقعِ نظراتِ ياسمين ورفيقيها لما حولهما. ولم يحدث التّحوّلُ إلاّ بالتّزامنِ مع لحظة الكشفِ الرّهيبة: إنّ ياسمين قادمةٌ من ذات هذا المكانِ الذّي تقرفُ منه! إنّها بشكل مجازيٍّ أصيلةُ هذا المكانِ المخجل، أصيلةُ هذا العالم اللامتحضّر المتوحّش! مع اكتشاف هذه الحقيقةِ ينقلبُ العالمُ رأسا على عقبٍ، ويموت من يموتُ، ويهربُ من يهربُ، وتخرجُ الوحوشُ من مخابئها، ويحطُّ الموتُ على الرّؤوسِ.
 
إنّ الاشمئزازَ من الرّيفِ، ومن الأصولِ الرّيفيّةِ أمرٌ شائعٌ عند التونسيّين. ورغمَ كل الكلام اللطيف الذي نقوله في القنوات والصحافة والاجتماعاتِ والندوات الرسمية، فلا تزال زلاّتُ اللسانِ تفضحُ من يشمئزّون ممن وراء "البلايك"، ولا نزال نلاحظ الحضور المكثف لفوبيا الأرياف (لو وجد شيءٌ كهذا) في كلام المقاهي والشوارعِ، وفيما لا يقالُ. إنّ الخوفَ من الأرياف وأهل الأريافِ هو نوعٌ من الخوفِ من الآخر (society's fear of otherness) لما يعكسُه المجتمعُ التّونسيُّ من تقابلٍ عنيفٍ بين الرّيف والمدينةِ.
 
قد يحدثُ ما كانت تخشاه ياسمين، وتتحوّل إلى "منجيّة"، ولكنّنا على أيّة حالٍ لا نرى في حكايةِ ذبح الأطفال إلاّ تعلّة واهية. لقد حدثت أغلبُ هذه الحوادثِ في مدنٍ لا في قرًى صغيرةٍ. وما استشهاد المخرجِ بحادثة الطفل ربيع (ابن منزل بورقيبة أكثر من خمسين ألف ساكن) إلاّ دليل على ذلك. كما أنّ الفيلمَ لا يمكنُ أن يكون تحذيرا إذا ما أخذناه بجدّية، فهو يؤكّد امتلاك هؤلاءِ للقدرات الخارقةِ وينفي فكرة الهراءِ والشعوذة العقيمةِ. هو أقرب إلى التشكيل الخارجيِّ لذلك الرّعبِ الحقيقيِّ الكامن وراءه.
فيلمُ دشرة، عملٌ تونسيٌّ فاتحٌ، لأنّه اقتحم سينما النّوع Film genre وتمكّن إلى حدّ جدِّ محترمٍ من أدواته. ورغمَ بعض الحشوِ الّذي سبّبته الحماسةُ والاندفاعُ، فقد استطاع أن يصنع شيئا حافلا بالأفكارِ والصّورِ. لقد أطنبتُ في تحليلِ الفيلمِ لتبيين قيمة سينما الرّعبِ، وجدّيّتها عكس ما يظنُّ الكثيرون. فلا شيء يدفعُ بالفنِّ إلى الأمامِ أكثر من أن يكون شعبيّا.
 
-------------
1 - جون ب. هِسّ: سايكولوجيا أفلام الفزع John P. Hess The psychology of the scary movies
2/5 - د. ديردي جونسون، المراهقون، دوافع مشاهدة الرّعب المعوي ـ أبحاث في التواصل البشريJOHNSTON, Deirdre D.: (1995) Adolescents„ Motivation for Viewing Graphic Horror. IN : Human Communication Research. 1995
3/4 - سوزَن هيوَرد، دراسات في السينما Susan Hayward: Cinema Studies, Key Studies
6 - برونو بيتلهايم : استخدامات السّحر: معاني الخرافات وأهمّيتها (1977)Bruno Bettelheim: The Uses of Enchantment: The Meaning and Importance of Fairy Tales (1977)

Translate