Monday, May 30, 2022

الخوفُ من الفانتازيا: رحلةٌ مع فرططو الذهب

عجبتُ ممّا حاق بفِلمِ عبد الحميد بوشناق الأخير من تهليل وإكبار لما وُصف كأوّل فلمِ فانتازيا تونسيٍّ. ليس لأنّ الفانتازيا، وعكس ما يظنّه الناسُ، أكثرُ فنونِ القصصِ في مدوّنتنا العربية منذ حربِ البسوسِ وعنترة إلى قصص ابن المقفع وألف ليلة وليلة. وليس لأنّ بوشناق جاء متأخّرا على قصص عبد العزيز العروي الخارقة ببضعة عقودٍ. ولكن لأنّ فلمَ "فرططّو الذّهب" ليس فلمًا عجائبيّا من أساسه!

ما العجائبيّ الّذي يجدُه المرءُ في هذا الفلم؟ أن يعيش أحدُهم حالةً من الهلاوس البصريّة؟ أن يعيش واقعا بديلا؟ أن ينقطعَ عن العالمِ ويبنيَ مكانه وهمًا عجائبيا؟ ربّما من الضّروريِّ أن نستذكر أحداثَ الفلمِ الكبرى بعجالةٍ حارقةٍ للأحداثِ ومفاجآتها علّنا نرشُد إلى ما كان خفيّا.

ها هنا معزّ (محمد السويسي) ابن الممثّل السابق (فتحي الهداوي) الّذي كسدت تجارتُه فانقطع للشرابِ وسوء معاملة أهلهِ حتّى انتقلت فظاظتُه لابنِه ففاقه فيها. لكنّ حدثيْن مهمّيْن يقصمان ظهر الفتى: الاعتداء حتى الموتِ على حبيبته من قبلِ مُنحرفيْنِ، وإصابتُه بمرضٍ في عينيْه قضى بفقدان بصرِه في القريب العاجلِ. هكذا يُطلقُ العنان لهلاوسِه الذهنية والبصريّة لتختلق قصّة الطّفل الوهميِّ إذ يأتيه مصحوبا بتحاليل طبيةٍ تُعلنُ اقتراب أجَلِ ضَرارتِه، فيقرّر بعد لأْيٍ أن "يُريه اللّي عمره ما شافه": يصحبُ ذاتَه الطّفلة في رحلةٍ في ذاكرتِه، يستعيدُ عوالم أبيه المسرحيِّ، يتصالح مع جرائم أبيه السكّيرِ، ويكشف لنا أنّه والطّفلَ واحدٌ. لم يكن هناك متسوّل بأجنحةٍ، ولا مومسٌ بعيونٍ في أعلى الرأس، ولا أمهق يتحوّل إلى مذؤوب مفترس. كلّها خيالاتٌ انتقلت من ذاكرة البطلِ إلى واقعِه المتوهَّمِ، كما يحدث في الكثير من حالات الذُّهانِ والاضطرابات النفسية المختلفةِ، فما العجائبيُّ في كلّ هذا؟

هناك أمثلة كثيرة مشابهة، ربّما أشهرها ـ ممّن أستحضرهم ـ الرّجل الطّائر Birdman لألخندرو إنيارّتو، وأقربُها لمثال بوشناق، فلمُ "أنا سايبورغ ولا بأس بذلك" للكوريِّ الجنوبيِّ الرّائع تشان ووك پارك Chan-wook Park. وجميعها لا تحاولُ إقناعنا بأيّة سرديّةٍ عجائبيّةٍ، بل إنّها تستعمل العجائبيَّ لتحييد البطلِ عن الحقيقةِ، وتأكيد عجزِه عن مواجهتها. وانطلاقا من هذا المعنى، ففرططّو الذّهب دراما واقعيّةٌ بسيطةٌ حاولَ عبرَها بوشناق أن يسيرَ في خطوطٍ متشابكةٍ تشكّلُ ملامِحَ شخصيّةِ معزّ.

معزّ المريض هي أوهن هذه الخطوطِ. نجدُه يعاني من داءيْنِ أبلغُ في دلالتهِما من حضورِهما. فأمّا ذهابُ بصرِه، فيدلُّ على ذهابِ بصيرتِه، وافتراقِ طباعِه عن طبيعتِه. نرى ذلك جليّا في معاملتِه لجارِه، وفي معاملتِه للطفلِ-ذاته حين أتاهُ. بل أوضحُ من ذلك، امتهانُه خدمة البوليس المشحونةِ بكلِّ معاني العنفِ وصُورِه. وأمّا إصابتُه بالذُّهانِ فليس أكثرَ من حيلةٍ روائيّةٍ لتبريرِ ما كاد يكون عجائبيّا، ولنقلِه إلى خانةِ الواقعيّةِ. وبلغة الشطرنج، فهي ذلك الخطأ الفادح Blunder الّذي يحوّل النّصر إلى اللانصر، والفانتازيا إلى اللاخيال. وكمثلِ تلكَ الحيلةِ السّخيفةِ الّتي يلجأ إليها الرّواةُ حين تتعقّد رواياتُهم فيُوقظونَ أبطالَهم من النّومِ في النّهاية، برهنَ عبد الحميد بوشناق عن خوفٍ مُبهمٍ من الفانتازيا، إنّني أكادُ أراهُ يتجوّل في قاعةِ العرضِ المظلمةِ ويهمسُ في آذانِ المشاهدين بضحكةٍ عصبيةٍ خافتةٍ: لا تأخذوها على محملِ الجدِّ، أنا نفسي لا أفعل ذلك!

يبرِّرُ الذّهانُ الفانتازيا، ولكن ما الّذي يبرّرُ الذهان؟ حادثةُ صديقتِه؟ نرجّح ذلك، ولكنّ البناء السّرديَّ لا يَفتَرُ عن حبكةٍ شديدةِ التّماسُكِ، ويكتفي بإلقاءِ الأحداثِ جزافا تاركًا للمشاهدِ عبء التّركيبِ. أليس هذا جميلا؟ يهمسُ أحدُهم، فأجيبُ، بلى، إذا كانت القِطعُ المُلقاةُ قابلةً للتّركّبِ دون تعسّفٍ…

في خطٍّ آخرَ، يرسمُ بوشناق صورةَ معزّ الإبن. فيُناظرُ بين علاقتِه ـ رجلاً ـ بذلك الطّفل الّذي كفِله، وبين علاقتِه طفلاً بأبيهِ في الماضي. هكذا سار الفلمُ مُراوِحا بين مغامرةِ معزّ والطّفل الغامضِ، وبين ماضي معزّ مع أبيه السكّير العنيفِ عبر تكثيفٍ للقطات الاسترجاع Flashback. ولأنّ المخرج اختار حرمان المشاهدِ من تفسير العلاقةِ بين الماضي والحاضرِ، فقد كانت المراوحةُ ثقيلةً وتشي بتشتّتٍ في الأفكارِ. الكثير من التقفيز (Jump cut) والنّادرُ من الوصل (Match cut) لا يساعدان في فهم المقارنة المُقترحة. الأهمّ من هذا، هل نجح التناظر حقا؟ في مغامرةِ البطلِ والطّفلِ التّائهِ، تنجح الفانتازيا بطريقةٍ ما في ترويضِ معزّ والخروجِ بِه من مستنقع العنفِ والذّهانِ. تُصالِحُه مع ماضيه وتُعيدُه إلى واقعِه. أمّا في قصّتةِ مع أبيهِ عبد الوهاب (الهدّاوي)، فلا يحضُر المسرحُ (مقابل الفانتازيا) إلاّ في النّهايةِ (لدواعٍ سرديّةٍ)، ولكنّنا نُدركُ أنّه لم ينجح في انتشالِ عبد الوهاب من محنتِه، بل إنّه مُسبِّبُها. وبالتّالي فقد أدخلنا بوشناق في مقارناتٍ خياليّةٍ وغير مفيدةٍ بسبب تكثيف الاسترجاع، وعموما فقد كان البناءُ السّرديّ غير متوازنٍ بالمرّةِ بسبب إصرارِ بوشناق على استحداث التواءةٍ سرديّة plot twist لم تباغت أحدًا.

خلافا لصورةِ المريضِ، فإنّ صورة الإبنِ جوهرية. فما الفلمُ إلاّ محاولةٌ لتفكيكِ عناصرِ العلاقةِ المعقّدةِ بين الإبنِ وأبيهِ. فيقترحُ ظاهرًا مشحونا بالعنفِ والاستهتارِ: استهتارُ الإبنِ بحالةِ أبيهِ الحاضرةِ، مقابل استهتار الثاني بعائلتِه كلّها في الماضي. ثمّ يكشفُ رويْدا رويْدا عن باطنٍ مثقّل بالآلامِ. ومع تصاعد وتيرةِ العنفِ والألمِ (لدواعٍ غير مبرّرةٍ تقريبا)، نصلُ إلى لحظة المصالحةِ: فيتصالحُ الأبُ وابنُه حين يتصالحُ الإبنُ وذاته. يستعملُ بوشناق في هذا الخطِّ، شخصيّةً ثالثةً هي شخصيةُ الأختِ (هاجر عيّاد). إنّها أيضا ابنةُ عبد الوهاب ولكنّ علاقتَها به تختلف جذريا، فقد تقبّلت أسلوب أبيها، وربّما أبدت قوّة شكيمةٍِ لا يملكُها أخوها الغاضبُ، العاجزُ عن المواجهةِ. والحقيقةُ أنّ دورَ هاجر عيّاد رغم براعةِ الأداءِ وقوّة الحضورِ، يكادُ يرجعُ بالفلمِ إلى خانةِ الأعمال الاجتماعيّةِ البائسةِ، ولا يحقّقُ للفكرةِ/الأفكار الرّئيسيّة أيّة نقاطٍ إضافيّة.

أعتقد أنّ أيَّ وَلَدٍ ينظُر عادةً إلى أبيهِ بتعظيمٍ وإجلالٍ. سيكون قُدوتَه الأولى ومرآةَ الكمالِ في عينيْهِ ولو لزمنٍ بسيطٍ قبل أن يصابَ بخيبةِ الأملِ الّتي ستسمحُ له بالانفصالِ بشخصيّتِه بعيدًا. ثمّ إنّه سوف يحتاج إلى وقتٍ قصر أو طالَ ليتقبّل هذا الانفصالَ، ويتصالحَ مع والدِه مجدّدا وقد تدرّج من مرتبة الإله إلى الشيطانِ ثمّ الإنسانِ. ولقد عبّر بوشناق عن هذه الرّحلةِ بصدقٍ متلعثمٍ. ولئن أخذ معزّ عن أبيه حُبَّهُ للفنِّ، فقد كان انفصاله عنه انفصالا عن الفنِّ أيضا، وآثر العملَ شرطيّا يمارسُ العنفَ بإفراطٍ. أفيلعنُ بذلك أباهُ على "محنةِ" الفنّ الّتي أورثه إيّاها؟ يقولُ بوشناق إنّ ثمّة 70% منهُ في الفلمِ، ولأنّنا نستبعدُ تشابه ظاهر علاقةِ معزّ وأبيه بتلك الّتي تجمعُ المخرجَ بالفنّان لطفي بوشناق، فلا نستبعد عناصرَ من باطنها. وهو ما يحيلُ على خطّ ثالثٍ مشكّلٍ لشخصيّةِ معزّ، وهو الفنّان.

لقد دفن معزّ ذلك الفنّان الّذي كان يمكن أن يكونه، وأصبح بوليسا بكلّ العنفِ الّذي يمثّله. ومع حلولِ الطّفلِ الغامضِ في حياتِه، استنجدَ تلقائيّا بما علق في ذاكرتِه من "فنونِ" أبيهِ لينقذ نفسه. لكنّ معزّ طوال الفلمِ لم يتقمّص قميصَ الفنّانِ، بل تركَ ذلك لمختلفِ الشّخصيّاتِ الخياليّةِ الّتي قدّمَها للولدِ: الشريدُ ذو الجناحيْن، المومسُ ذات العيون الخمسة، الكائنُ الخفيُّ ذي اللسانِ الحربائيّ وأخيرا ذلك الأبهق المذؤوب. وقبل هؤلاءِ، يمثّل الأبُ عبد الوهاب صورةَ الفنّانِ أهمَّ تمثيلٍ في الفلمِ، فما الّذي يجمعُ خمستَهم، وكيف تمثّل عبد الحميد بوشناق الفنّان؟ ظهر عبد الوهاب بحُلّةِ المهرّج في ومضاتٍ استرجاعيّةٍ سريعةٍ خاطفةٍ، تحكي عن تجربةِ أداءٍ Casting خائبة. وفضلا عن افتقارها للطّرافةِ، فهي تقدّم الفنّان في حُلّةِ المتسوّل المتوسّلِ للحصولِ على فرصةٍ/عملٍ. لكنّ بوشناق لم يكتفِ بالتلميح لذلك، بل قدّمه متسوّلا بالفعلِ عبر شخصيّةِ الشّريدِ ذي الأجنحةِ. وعموما فما يجمع هؤلاء الّذين سوف يُرونا ما لم نره في عمرنا، هو بؤسُهم وانحطاطُ أوضاعهم وعيشهم على هامش العالمِ، بل في عالمٍ آخر تمامًا كما الحالُ مع الأمهقِ. ومع أنّ الفلمَ يحاولُ أن يُبرزَ أثر الفنِّ على الإنسانِ كقوّةِ خلاصٍ، فإنّه لم يسعَ لاستبدال الصورة النمطيّةِ لـ "فنّان الغلبة" الّتي نجدُها في الأعمال الدراميّة الكلاسيكيّةِ ذات البُعد الاجتماعيِّ، بصورةٍ تناسبُ قدرته على الفعلِ والتّأثيرِ. ذلك أنّ "فرططّو الذهب" مرّة أخرى، يفشلُ في استحضار شروط الفانتازيا.

نتبيّن خطّا رابعا في صورةِ معزّ، وهو خطّ البوليس. وأستعمل لفظة "البوليس" بدالَ رجل الأمن هنا لأن لا أحد يشعر بالأمن في حضرةِ أناسٍ كهؤلاء. وأعتقد أنّ بوشناق اعتنى بهذا الخطّ وبالغ في الاهتمامِ بمُنحنياتِه. وإنّي أرجّح اختياره لمحمّد السّويسي لهذا الغرضِ بالأساس: طويلٌ، ذو ملامحَ غليظةٍ ونظرات ثاقبة مليئة بالعنفِ. لا يملك قواما رشيقا، ولكنّه يملك كتلة ضخمةً كأنّها الحضورُ المادّيّ لروحٍ همجيّةٍ. ثمّ، كنارٍِ على علمٍ، يمنحُه حذاءً يضاهيهِ ثِقلاً وضخامة وعُنفا. نتحصّل في النّهايةِ على تمثّلٍ قويٍّ لرجلِ البوليس، كسالبٍ Negative لصورة الفنّانِ. ولأنّ بوشناق لا يريدُ لأفكارِه أن تحافظ على جمالِ بساطتِها، فقد فضّل أن يتجاوز هذا المعنى، ويستطرد أكثر في مسألةِ الأمنِ والعنفِ. لم يعد لنا مثالٌ واحدٌ بل مثالان متقابلان: معزّ الانفجاريِّ، والمنذرُ رئيسه الهادئُ الأنيق (إبراهيم زرّوق). يقدَّم المنذر من خلالِ فضاءاتِه: مكتبه ومنزلِه، وأيضا من خلالِ عائلتِه (تقوم بدور زوجته رباب السّرايري). وعلى طريقةِ أغنية لَبِنَةٌ في الجدار A brick in the wall، يُشحَن ظاهرُ المنذرِ الهادئُ بعنفٍ أكبر بكثيرٍ من ظاهرِ معزّ. سوف نلحظ هنا كيف تتميّزُ فضاءاتُ حضورِ المنذر بضوءٍ أكثرَ، وألوانٍ أقربَ للبياضِ والانفتاحِ في مقابلِ الظُّلمةِ وألوان النّيون الّتي تميّزُ عوالمَ معزّ. علاقتُه بزوجتِه تتلخّص في الكدماتِ على وجهها، وعلاقتُه بابنته تقفُ عند طاولةِ الطعامِ، وكلّ هذا صورةٌ معاكسةٌ لعالمِ معزّ وعلاقتِه بحبيبتِه وبالولدِ الّذي اصطحبه. ما الّذي يرسمُه بوشناق عبر كلّ هذا؟ ربّما مقابلةً بين عون البوليس الميدانيِّ البسيطِ، وأصحاب السّلطةِ الحقيقيّين، وأرباب العنف الهيكليّ. وهي لعمري مقابلةٌ ـ على رجاحتِها ـ لا تضيف شيئا إلى فكرةِ/أفكار الفلمِ الرئيسيّةِ. وقد يمكن أيضا ترجيحُ استعمالِ شخصيّة المنذر للتأكيد على أنّ عنف معزّ طارئ وليس متأصّلا فيه. نراهُ يمارسُ العنفَ، مثل أبيه، تعبيرا عن ألمه الّذي شقّ عليه. وهي فكرةٌ جميلةٌ لولا أنّنا في النهاية نتحصّل على عنفٍ أصليّ يتركُ كدماتٍ بسيطةً وعنفٍ مؤقّت يفقأ العيون ويقتل… وعلى كلّ حالٍ، فكلّ الجزء الخاصّ بالمنذر استطرادٌ طويلٌ ومملٌّ.


آخرُ الخطوطِ المكوّنةِ لملامحِ البطلِ، هو خطّ الحبيبِ، ويظهرُ في لقطاتٍ عابرةٍ غير ذاتِ بالٍ سوى للبناءِ السّرديّ المرتبك. فبعد أن "يصدم" المخرجُ المشاهدين بمشهد الفَقْءِ، يعودُ ليبرّر ذلك باغتصاب حبيبتِه بأيدي ضحيّتيْهِ. "هما إذا مذنبان، وربّما يستحقّان ما حاق بهما"، كأنّما يصبح الانتقامُ مشروعا خصوصا إذا ما كان المرءُ صاحب سلطةٍ (بوليس)... طبعا لن ندخل في مهاتراتٍ أخلاقيّةٍِ، ولا تحملُ كلُّ هذه المشاهدِ أية تفاصيل يعبّر من خلالِها المخرجُ عن موقفِه من سلوكات بطلِه. ولكنّ تقديمَ الاعتداءِ ثمّ تفسيرَه فيما بعد (بحثا عن التواءة أخرى)، يخلق نَفَسًا تبريريّا. وربّما هذا ما حدث بالفعلِ، فبعد أن يصدم المخرجُ المتفرّجين بمشهد الفقءِ منذ البدايةِ، كان عليْه أن يبرّره ليصنع بعض الانسجام الدّراميِّ، من هم هؤلاءِ، ولماذا قتلهم. وقد يفسّر ذلك اختلاف مشاهد معزّ مع حبيبتِه عن باقي لقطات الفلمِ أيضا. والمؤكّد أنّ معزّ الحبيب كان كقِطع الفراولة في فنجان قهوةٍ: لم ينجح في الانسجام مع باقي خطوط الشخصية فحسب، وإنّما شتّت مذاقاتِها، وهلهل الحبكة الدّرامية بشكل كبيرٍ.

إنّه ذات الخطإ الّذي اقترفه عبد الحميد بوشناق في "دشرة"، العجز عن لملمة خطوط السّردِ بعد الإفراطِ في تشبيكِها. هو نوع من الهوس الّذي يستبدّ بالكثير من المؤلّفين في بداياتهم، يدفعهم لخلقِ شيءٍ عبقريٍّ معقّد التفاصيل، ثمّ تكشف لهم التجاربُ عن قيمةِ البساطةِ وعبقريّتها. البلاغةُ في الإيجاز يقول الأقدمون، والجمالُ في البساطةِ، وكلّما أضافُ المرءُ كلماتٍ للجملةِ، كلّما زاد احتمالُ اللّحن (الخطإ).

الفانتازيا هو آخر شيءٍ يمكن أن نصف بهِ فلمَ فرططّو الذّهب لعبد الحميد بوشناق. ليس لأنّ الفلمَ لا يقدّم أيّ عنصرٍ فانتازيٍّ، فكما قلنا، لم تكن المشاهد العجيبة هنا سوى هلوساتِ ذُهانٍ دونكيخوتيّةٍ. وليس لأنّ تلكم المشاهد كانت معزولةً وسط الفلمِ، لا تُشبِهُه ولا تؤثّر على شيء من أحداثِه، وتكتفي بمدلولاتِها الذّاتيّةِ (هذه التّجارب العجيبة الّتي لم يرَ مثلها الولدُ من قبل، هي ما يقدّمُه الفنُّ للناسِ، هي شيءٌ أجملُ من الحقيقةِ، وأكثرُ جمالا) كأنّها فاصلٌ وسط الحكايةِ. بل أكثر من ذلك، فالفلمُ يستعملُ لغةً واقعيةً لا تمتُّ بصلةٍ للفانتازيا. ونجدُ مشاهدَه مغمورةً أغلب الوقت في مياهِ الواقعية الاجتماعيّةِ، حتّى في تعبيرِه عن قضيّته الأساسيّةِ أي قضيّة الفنّانِ، وأثر العملِ الفنّيِّ. تحاول بعض الأقلام أن تجدَ حلاّ توفيقيّا باستعمال مصطلح الواقعيّة السحريّةِ. حيث تمتزج سيميائيّةُ الواقعيّةِ Realism بعناصر الفانتازيا. ولكن حتّى في هذه الحالةِ، فالعجائبيُّ لا يُنكرُ ويجد اعترافا وقبولا حسنًا. قططُ موريكامي تتحدّث في واقعِه لا في أحلامِ أبطالِه. لقد حاولَ بوشناق أن يكسر محرّمات السينما العربية بتجاوزِ نظرتِها الكلاسيكيّةِ للفلمِ كوِحدةِ رصدٍ للواقعِ وللمجتمعِ بالأساسِ، ولكنّه عِوضَ أن يفعلَ، فقد رسّخ لتلك النّظرةِ وبرهنَ ربّما أنّ الحواجز بين السينما العربية والفانتازيا لا تعودُ للجمهور وإنّما للفنّان نفسِه.



 

Monday, April 11, 2022

رَمْلٌ وبِزْرٌ وأسطورة: لعبةُ الاستشراقِ في فلمِ كُثيب


يسمح لنا الإصدار الجديد من فِلم كُثيب Dune بالتّفكّر في تأويليّة العملِ السّينمائيّ من منظور جديد. فتجزئته لفِلمَيْن لم يُنتج ثانيهما بعدُ، يجعلنا حائرين في التّعاملِ مع أوّلِهما. فهل هو فلمٌ قائمٌ بذاتِه أم تُراه مقدّمة سلسلةٍ من الأفلام؟
 
لا أعرف إن كان ضروريّا أن أقدّم عالم كُثيب الروائي/السينمائي، فقد أعاده فلمُ دُني فيلنوف Denis Villeneuve إلى الواجهة وجعل اسمَه على كلّ لسان، وأعاد معَه حكاية الفشلِ الأشهر في تاريخ هوليود. حكاية خودورفسكي وسلفادور دالي 1976، وحكاية ديفد لينش المُحبِطة مع الخيال العلمي 1984. لقد انتهى الجميع إلى حقيقةِ أنّ قصّة كُثيب أكثر كثافة وتعقيدا من أن يحتويها فلمٌ واحدٌ. إذ لا يتعلّق الأمرُ بقصّة پول أتريدس Paul Atreides وصراعِ عائلتهِ ضدّ آل هاركونن Harkonnen على ثروات كوكب الكثبان. بل تتجاوز ذلك لتبنيَ عالمًا متراميَ الأطراف في الزمان والمكان، ترتسمُ الشّخصيات فيه على أكثر من بعدَيْن، وتأخذُ حيّزا لأفعالِها ودوافِعها. هكذا، فإنّ كلَّ محاولةٍ لحشرِ فضاءِ "كُثيْب" في حيّزٍ سينمائيٍّ "تجاريٍّ"، تستدعي أسلوبَ الحذفِ البلاغيِّ في غير موضِعه، فمعَ كلِّ حدثٍ ينتقلُ من النصِّ إلى الشّاشةِ، تسقُط الدّوافعِ الّتي أدّت إليهِ، فيبدو للمُشاهدِ ضعيفَ التّبريرِ، واهنَ الارتباط بما يتبعه. وهو ما دعمتهُ تجربةُ ديفد لينش السّابق ذكرُها. وما كان لِـدُني فيلنوف أن يخوضَ المغامرةَ لولا تعلّقه الطّفوليّ بعالمِ فرانك هربرت Frank Herbert. فاستحدث لرغبتِه (ولرغبةِ المنتجين) صيغةً مجزّأةً مثيرةً للتساؤل.
 
يغطّي فلمُ فيلنوف مرحلةَ البدايةِ من قصّةِ الأميرِ پول أتريدس. أي، منذ زمن رحيله وعائلتِه عن كوكبه الأمّ واستقرارِه في كوكبِ الكثبانِ، إلى حدوثِ المؤامرةِ على أبيه وآلِه، ولجوئه إلى قومِ الفريمن Fremen. ورغم أنّ النهايةَ لا تخبر عن مآلِ عرشِ پول أتريدس، إلّا أنّ لغةَ الفلمِ تُنبئُ عنه: فقد عومِل الفتى منذُ البدايةِ بما يليقُ بالأنبياء، إمّا بحبٍّ خالصٍ أو بتقديرٍ خاصٍّ. ولا يجدُ فيهِ أصحابُ الرُّؤى والكراماتِ سوى حالةٍ استثنائيّةٍ تتجاوز اللامعقولَ. لقد وُلدَ بطلاً ولم يبق له سوى اجتياز الطّريقِ ومِحَنِه لتحقيقِ ذاتِه المغيّبةِ. إنّه توماس أندرسن الّذي سيصبحُ نيو، وهو الإسكندرُ الّذي سيصبح في نبؤاتِ العرّافين، ملكَ المشرقِ والمغربِ. لم يبخل فيلنوف البتّة في استعمال النبؤات لربط بطلِه بهذا التّصوّر الإسكندريِّ. كان هناك إفراطٌ في الرّؤى الّتي تنتاب پول، وماهي إلاّ ساعةٌ أو شهرٌ حتّى تتحقّق أمامه، كأنّ الواقعَ يتقوّضُ ثمّ يركع تحتَ إرادتِه. وإضافةً إلى منزلتِه بين الشخصياتِ، ورؤاهُ التنبّئيّة، تسير أحداثُ الفلمِ تحت وقعِ نغمةٍ قَدرِيّةٍ لا تُخطئها العينُ: لا أحد هنا يراوغ قدَره، لا الأبُ السائرُ نحو حتفِه في كوكب الكثبان وهو يدري بذلك، ويوصي خليلتَهُ بابنه. ولا المُقاتلُ دُنكن إداهو Duncan Idaho وهو يواجه نهايته بابتسامٍ. ولا قومُ الـFremen وهم يتابعُون قضاءَ صاحبِهم أمامهم على يدِ الغريب في تسليمٍ. أضعفت حتميّةُ الأقدارِ من تشويق الفلمِ، فمسارُ البطلِ يرتسمُ مُسبقا بدون ارتباك، تقريبا. أقول تقريبا لأنّ فيلنوف قام بمحاولةٍ أخيرة في النّهايةِ، كي يشتّت الأذهانَ، ويبعث شيئا من التّشويق وهو يستخدمُ ذاتَ الأدواتِ (الرؤى، النبؤة، الحتميّة القدريّة) ليعلن موت بطلِه قبل نزالِه ضدّ أحدِ رجال الفريمن. تتكرّر ذات الفكرةِ مع نيو في ماتركس لكن بمقدار اجتهادٍ أقلَّ. تُعلنُ الرّؤيا أن على پول أن يموت ليُبعث لسان الغيب، وفي الآن ذاته، تُسرُّ له أنّه إذا أخذ روحا، فكأنّما أخذ روحه. معادلةٌ سهلةٌ تسمحُ له أن يحقّق عكس ما رآهُ في الرؤيا، وأن يذعنَ لمشيئتها أيضا.
 
ما يهمُّنا من كلّ ذلك، أنّ لغةَ الفلمِ تُعبّرُ عن قدريّةٍ نعرفُ مسبقا أين ستفضي بنا، ولكنّنا لا نعرفُ كيف. بالتّالي، نقفُ حائرين أمام صورةِ البطلِ المرتسمةِ عندَ نهايةِ الفلمِ، لا نعرفُ هل اكتملتْ أركانُها أم لا تزال في بداياتها. ولكيْ تتّضحَ أبعادُ المعضلة، سنذهب قُدما في التّعامل مع "كثيب: الجزء الأول" كأنّه عملٌ فنيٌّ مكتملٌ قائمٌ بذاته. وسنحاول اقتفاء تصوّر البطلِ من خلالِه. ثمّ نعودُ إلى توقّعنا لأحداث الجزء الثاني، وكيف يغيّر اعتبارُه جزءا لا يتجزّأُ من العمل ككلّ، من تصوّرنا للبطلِ.
 
لا شكّ عندي أنّ فيلنوف أجاد اختيار بطله كما لم يفعل سابقوه. فقد أضحى الممثل الأمريكيّ تيموتي شالامي، أيقونة هوليوديّة للنّضارةِ وخصب الموهبةِ والرجولةِ الّتي لا تزال وعدًا. إنّه قمر الزّمان لهذا العصر، مزج من نعومة النبلاء وجاذبية الجامحين. وكذلك شخصيّةُ پول أتريدس في بدايةِ رحلتِه، وريثا للعرشِ، وولدًا ينبئُ نبوغُه بشأنٍ عظيمٍ. ولئن تحوّلت الشّخصيّةُ إلى منهلٍ للعديدِ من الملاحمِ القصصيّةِ العالميّةِ (لوك سكايوولكر في حرب النجوم، وغريفيث في رائعة كنتارو ميورا برسرك Berserk، وخصوصا راينهارد فون لوهنغرام بطل ملحمة أبطال المجرّة ليوشيكي تاناكا)، فإنّها لم تأتِ من فراغٍ، واستمدّت عناصِرَها من شخصيّاتٍ أخرى، لا شكّ أنّ لورنس العرب أشهرُها. وكما ساهم العميلُ القادمُ من الغربِ في إشعال فتيل الثورة العربية الصحراويّةِ في وجهِ الأتراكِ، جاء پول أتريدس ليقودَ شعب الكثبان ضدّ آل هاركونن. لكنّ لورنس العرب لم يكن نبيلاً، ولم يكن له حظّ (أو رغبة) في تزعّم هؤلاء. لذا يجب أن نذهب إلى تاريخٍ أبعدَ لنعثر على ما يمكن أن يكون أصلاً لپول. فهناك في بلاد الإغريقِ، بزغ نجم الإسكندر المقدوني وهو بعدُ في مقتبلِ العمرِ، وبدأ رحلةَ المجدِ بوفاةِ والده. صاحبت رحلتَه النّبؤاتُ والرؤى والقصص المدهشةُ، وحاولَ في كلّ مرّة غزا فيها قوما أن ينتسبَ إليهم، فأعلن في مصر ارتباطه بآمون أسوة بالفراعنة من قبله، وصاهر ملوك الفرس الّذين قهرهم، ومنحَ حملتَه العسكريّةَ أبعادا أكبر من غنيمة السّلطة. لا شكّ أنّ پول أتريدس تنويعٌ دراميٌّ لشخصيّة الإسكندر المقدونيّ، ويمكن بذلك تفسير اختيار اسم "أتريدس" Atredes النّابع من الميثولوجيا الإغريقيّة (من عائلة أتريدس أو أتريوس جاء أغاممنون أحد أبطال ملحمة طروادة).
 
لم تختصّ عائلة أتريدس بهذا البعد الرّمزي. إذ تعكسُ القصّةُ صراع الهويّاتِ كما رآهُ فرانك هربرت في عالمِ ما بعد الحربِ (العالمية الثانية). لنتأمّل الجماعاتِ الأربع الرئيسيّة هنا:
فأمّا آل أتريدس، فتشيرُ أصولهُم الإغريقيّة إلى الحضارةِ الغربيّةِ بشكلٍ عامٍّ. هناك حضورٌ ملفتٌ للأعمدة. هل هي دوريّة أم كورنثية؟ وماذا عن تلك النّقوش على الجدران والقبور؟ أهيلينيّةٌ هي أم كلاسيكيّة؟ لستُ خبيرا ولكنّ الرّوح الإغريقية في هذه العناصرِ لا تخطئها العينُ. الأهمّ من ذلك، أنّ دني فيلنوف دمج في تصوُّرِه لـكَلَدَان Caladan (موطن أتريدس) عناصرَ أوروبيّةً أخرى. الجبال والغابات والبحيرات الشماليّة، وثقافة التّوريرو الإسبانية الجنوبية Torero. لقد اختار فيلنوف بلاده كندَا أرضا لتصوير كَلَدَان لأنه أرادها شبيهة بالـ"وطن". هكذا، فأتريدس هي "نحن"، هي الغربُ بروايةِ الغربِ، وپول أتريدس هو الرّجلُ الأبيضُ بامتياز.
 
وفي مقابل هذه الصّورةِ، يشيرُ آلُ هاركونن Harkonen من خلال الروايةِ والمعلوماتِ المحيطةِ بالروايةِ، بأصابعَ ثابتةٍ إلى شرق الستار الحديديِّ. أي الاتّحاد السوفيتيِّ ومن والاه. لا ننسى أنّ فرانك هربرت كتب روايته في الستينات حين كانت الحربُ الباردةُ في أوجها. لقد اختار الكاتبُ فلادمير اسما لزعيم أوغاد روايته، إمعانا في الإشارة. لكن، تغاظى فيلنوف عن كلّ هذا في كُثيبِه وأخرج آلَ هاركونن في حُلَّةٍ محايدة كاد ينكر عليها بشريّتها. لا شيء في أزيائهم أو أسمائهم أو كوكبهم أو بناياتهم يشير إلى ثقافة بعينها، وكلّ ما يمكن تحصيله من هذا الحضور المبهمِ، هو النهمُ الرأسماليُّ الّذي لا ينضبُ للثروة. بكرش ضخمةٍ، ومظهرٍ منفّر، وإفراطٍ في الأكلِ، لم يبق من قبحِ هذا التمثّلِ المادّيِّ لجشع رؤوس المال سوى التحمُّم بسائل زيتيٍّ أسود كالنفط. ولقد قام فيلنوف بذلك فعلا!
 
وأما الجماعةُ الثالثةُ، فهي بني جسريت Bene Gesserit وهي طائفةٌ دينيّةٌ من نساءٍ يمتلكن قدراتٍ ذهنية خارقةٍ، يعملن على التّأثير على أصحاب القرارِ من الرّجال، وبالتّالي الحكم بصيغة غير مباشرة تمهيدا لظهور المنتظر. ومن الواضح أنّ رمزيّة الدّين تغلب على رمزية الجندر في هذه الجماعة، فرغم النّفوذ والقوّة، يظلّ عملُها خدمةً للرجلِ الموعودِ، لسان الغيبِ المنتظرِ. وبالتّالي يجب أن ننظر إليها كجماعة دينية بالأساسِ. جماعة دينيّة تورّث تعاليمها عبر النّساء، وتستعمل مفردة "بِن" Beni وترتبط بنبي منتظر، عند من رأيتُ كلّ هذا من قبل؟ لا شكّ أنّ هناك إحالة إلى اليهود باعتبارهم بشكل ما، جسرا بين آل أتريدس (الغرب) وما يؤمنون به، وبين تلك الجماعة القابعة في الصّحراءِ وما يؤمنون به (Gesserit تبدو تحريفا للكلمة العبريّة جشر גשר).
 
نتحدّث عن الجماعة الرّابعة، وهم الفريمن Fremen وكلّ ذلك الزخم الثقافيّ الّذي استعاره فرانك هربرت من الثقافة العربية الإسلامية (ومن الثقافة البوذية أيضا) وصاغ ملامحها بواسطته. إنهم صحراويّون، أقرب إلى بدو الطوارق في ترحالهم واحتمالهم لقسوة الطقس. يستعملون معجما عربيّا بيّنا (لسان الغيب، شيء الخلود، الرّاقص، الخ)، ويتميّزون بنظام معرفيٍّ لا عقلانيٍّ قائمٍ على الأسطورةِ والإيمانِ. من المهمّ هنا أن نذكر كيف يشترك الفريمن في ذلك مع بني جسريت، لكنّ هؤلاء ينتمين في الآنِ نفسِه إلى عالمِ الامبراطوريّةِ المنطقيِّ، عالم أتريدس ضدّ هاركونن، حيث يملك كلُّ شقٍّ حاسباتِه البشريّة Mentat.
 
إنّ كوكب الكثبان أو الرّاقصِ Arrakis هو صورةُ الشّرقِ في المُخيّلةِ الأوروبيّةِ. ذاتُ الاستشراقِ الّذي فضحه إدوارد سعيد ذات يوم. جسمٌ من الرّمالِ، وذهنٌ من الأساطيرِ، وقلبٌ من البدائية، بل من الثرواتِ المسيلةِ للّعابِ. في عالمِ كُثيب Dune يتحوّل النفطُ العربيُّ إلى بِزرٍ أو توابل تنضحُ بها الرّمالُ اللامتناهية، وهي استعارةٌ عظيمةٌ تعودُ بفكرةِ الاستشراقِ إلى عصورِ الرحلات البحرية الكبرى حين كانت التّوابلُ أعظم ما يأتي بهِ الأوروبيُّ من الشّرقِ. ولقد حافظ فيلنوف على الصّورةِ الّتي استنبطها فرانك هربرت في السّتينات، مع بعض التغييرات الطفيفة الّتي أملتها متغيّراتُ العصرِ، فاختفت بعض المصطلحات مثل "الجهاد"، واتّخذ الفريمن بعض الأدوات البديعةِ رغم افتقارهم للأسلحة الثقيلة ولقوّةِ الحضارةِ.
 
رزح كوكبُ الرّاقص طويلا تحت حكم هاركونن المستبدِّ. ثمّ تحوّلت سيادتُه إلى آل أتريدس، الّذين حاولوا إقامة علاقات تشاركيّةٍ مع أهل الكوكبِ قبل أن يحدث الانقلابُ. الفريمن أو القوم الأحرار إذا، لا يرفضون قطعا أن يستوطن أرضَهم الغرباءُ ويديرونها ويستغلّون ثرواتها طالما سيعاملونهم باحترامٍ ويتركون لهم هامش حرّيّةٍ للتّصرّف في شؤونهم الدّاخليّةِ. أليس مضحكا أن ينتسب الفريمن إلى الحريّة وهم عاجزون عنها؟ إنّ النفط/التوابل لا تعني لهم شيئا لأنهم بدائيون لا يملكون التقنية اللازمة لتكريرها والاستفادةِ من منافعها العظيمة للسفر عبر النجوم. لذا، يصبحُ وجود أتريدس/الرجل الأبيض ضروريّا لإقامةِ الحضارة في هذه الرّبوعِ القاحلة، وتحريرها من الاستبدادِ. تُعيدُنا الفكرةُ إلى موضعِ الشخصيّةِ الرّئيسيّةِ من الجماعاتِ الأربعِ، وكيفَ أنّ پول أتريدس ينتقلُ من عالَمِه الغربيِّ لينتسب مؤقّتا إلى عالم الكثبانِ ويقودَهم في رحلةِ التحرّر. وهي الصّورةُ الّتي استعارَها هربرت من إحدى أهمّ مشاربِ روايتهِ: قصة لورنس العرب Lawrence of Arabia الشهيرة. بل يمضي بها إلى أبعدَ منذ ذلك، فلا ننسى كُنيةَ البطلِ عند الفريمن حين يصدقُ الوعدُ وتتحقّق الرؤى: المُؤدّب Muad'dib. في كثيب الجزء الأوّل، نتوقّف عند مرحلة الانتساب، ولا نعرف بعدُ إن كان فيلنوف سيخلصُ للرّوايةِ أم لا ولا نعرف مدى تأثير پول على عمليّةِ التّحريرِ، لكنّ الأحداث الّتي صوّرَها الجزء الأوّلُ كافيةٌ للتّصديق على هذا التمثّل الاستشراقيِّ. لقد حاول فيلنوف أن يمنح قومَ الفريمن سحريّةَ الغرباءِ، فركّز على كلّ الطقوس الّتي لا تألفُها الذّهنيّةُ الغربيّةُ مثل البصاقِ، والاستفادة من ماءِ الميّتِ، وإجلالَ النخيلِ، وتقديس شيء الخلود)، ورغم كلّ ذلك، ظلّت العلاقةُ عموديّةً. فهؤلاء القومُ أدنى منزلةً من آل أتريدس وآل هركونن داخل الامبراطوريّةِ. إنّهم قومٌ قُصّرٌ يحتاجون إلى "وليٍّ" من كبارِ مجلس الامبراطوريّةِ، أو مجلس الأمن!
 
في رواية هربرت يواصلُ پول أتريدس رحلته المظفّرة نحو عرش الامبراطوريّة، ثمّ ينطلق في مرحلة ثانية في مواجهة الدسائس والمؤامرات. فلا يُبدي خلالَ ذلك أيّ مراجعةٍ لتمثّل representation الفريمن، ولا أيّ انتقادٍ لفكرةِ پول المُنقذِ المؤدّبِ. فهل سينحو فيلنوف نحو ذلك؟ أعتقد أنّ المتأمّل في أعمالِ المخرج الكنديِّ السّابقةِ (Blade Runner 2049 وIncendies أساسا) سوف يجيب بالنّفيِ. فقُربُه النّسبيُّ من الثقافةِ العربية وفهمُه العميقُ لطبيعةِ الأعمال الّتي يُعيدُ صياغتها، ونزوعُه نحو تقديمٍ طرحٍ جديدٍ، يضعونه أمام معادلةٍ تعوّدَ على حلّها بكلِّ اقتدارٍ. وبالتّالي، فإنّي أرى پول أتريدس غير قادرٍ على الحفاظ على منزلته كبطلٍ ومصدرٍ للتّماهي، ولعلّه يتحوّل إلى نقيض ذلك تماما، أي إلى دعوةٍ صريحةٍ لمراجعةِ كلّما أتاه في الجزء الأوّلِ، وينقلب معه كثيب إلى انتقادٍ لسياسةِ الرجل الأبيض ونظرتِه المتعالية للآخر. فهل يكون انقلابُه ذاك متأخّرا؟
 
ربّما كان سابقا لأوانه أن أخوض في جزء لم ينته صاحبُه بعد من كتابته، ولكنّ قيمةَ السّؤالِ تستدعي ذلك: فإذا كان الجزء الثاني سيقلبُ نظرتنا لما حدث في الجزءِ الأوّلِ، كيف يمكننا أن نتعاملَ مع الجزءِ الأوّلِ؟ هل يصحُّ أن نعلنَ أن كثيب الجزء الأوّل هو فلمٌ استشراقيٌّ بامتيازٍ إذا كان الجزء الثاني يدفعنا لانتقادِ السلوك الاستشراقيّ؟ وبعبارة أخرى، كيف يجب أن نتعامل مع عمل فنيّ مجزّأ؟ أيكون الجزء الفردُ قائما بذاته أم لا يمكن تحليله إلا في سياقه الشامل؟
 
لقد أربكني السؤال وأخّر كتابة مراجعتي للكثيب قليلا (لا يسخرنّ أحدكم من هذه الـ"قليلا") ثم إنني انتهيت إلى حقيقة بسبطة هي أن العمل الفني لا يكون كذلك بصفة اكتماله، ولا حتى بصفة النية في إكماله، إنما يكون كذلك بمجرد الإعلان عنه عملا فنيا. فهل ينكر أحدنا أن رواية الحصن لفرانز كافكا غير المكتملة عمل فنيّ؟ إنّ كثيب الجزء الأوّل قائم بذاته بمجرّد صدورِه مفردا يمكن للمتفرّج الاطّلاع عليه من دون ما قد يلحق به من الأجزاءِ، وهو بالتّالي مؤثّر في المتفرّج يهبه لحظة تماهٍ مع بطلٍ مثالٍ ويثبّت في لاوعيه تمثّلاتٍ صائبة أو خاطئة للموضوعاتِ. لا يمكن إذا أن ننكر الاستشراق عن فلمِ دُني فيلنوف وإن لم يرغب في ذلك، بل ولو جاء بغير ذلك في ما سيتبعُ من أجزاءٍ. لا يزالُ إنسانُ المشرقِ متخلّفا، لا منطقيّا، قاصرًا في نظرِ الرّجلِ الأبيضِ، حتّى في عصرٍ أخذ فيه سحرُ الشرقِ وغموضُه في التّلاشي بفعلِ حركات الهجرةِ والاندماجِ. لقد أصبحَ رجلُ الفريمن مواطنا كنديّا "صالحا" يسكن بجوارِ فيلنوف بين ثلوج الكيبيك ويحرصُ مثله على فرز نفاياتِه وتدويرِها، لكنّ صورته لا تزالُ في ذهنِه، بدويّا يرقص في الرمال اللانهائيّةِ على وقع الأساطير.

Translate