Friday, October 26, 2018

نداءُ القمر

في سنةِ 1999 وقبيلَ وفاتِه بلحظاتٍ، ظهر شريط فيديو للمخرجِ الأمريكيِّ الكبير ستانلي كيوبرك يشرحُ فيه كيفَ زوّر عمليّةَ هبوطِ الإنسان على سطح القمر، وكيف حقّق سنة 1969 أكبر خدعةٍ سينمائية في التاريخ. ورغمَ ثبوت زيف شريط الاعتراف هذا وعدم نسبته إلى كيوبرك، فإنّه لم يسمح إلاّ بتغذية فكرةِ المؤامرةِ. لقد سبقَ فيلمُه أوديسا الفضاء 2001، رحلةَ أبولو11 بسنةٍ، وطويلا ما اعتُبرَ الفيلمُ تحضيرًا أو "بروفةً" لإنجاز الخدعة الكبرى. وساهمَ فيلمُ البريق The Shining سنة 1980 بتفاصيلهِ الغامضةِ في إثراءِ الأسطورةِ (راجع الشريط الوثائقيَّ : الغرفة 237)، فاقترنَتْ أشهرُ مغامرةٍ للإنسانِ عبر التّاريخِ بعالمِ السينما. أليس غريبًا أنّ هوليود لم تُخلّدها في أيَّ فيلمٍ بعد؟


تفطَّن المخرجُ الأمريكيُّ (الفرنسيُّ) داميان شازال Damien Chazelle لهذا الفراغِ فبدأ التّفكيرَ في المشروعِ من قبلِ العملِ على غنائيّتِه العبقريّةِ لالالاند La La Land سنة 2016. يجب الحديث قليلاً عن شازال ربّما لأنّ نظرية المؤلّف Auteur Theory تنطبق على أعماله بشكلٍ كبير. لقد أنجز وهو بعدُ في الثالثة والثلاثين ثلاثةَ أفلامٍ روائية طويلةٍ، آخرها لالالاند المتوّجُ بستّ جوائزِ أوسكار، وأحدُها رائعةُ ويبلاش Whiplash أحد أهمِّ أفلامِ العشريّةِ الأخيرةِ.

ترتبطُ كلّ أعمالِ شازال وثيقًا بالموسيقى، لذلك كان إعلانُ فيلمِه الجديدِ مباغتا، كأنّ الرَّجلَ سيغامر بالعملِ خارجَ نطاقِه، لكنّ العنوانَ يكذّبُنا.

الإنسانُ الأوَّلُ First Man هي الصّفةُ الّتي ارتبطتْ إلى الأبدِ بالأمريكيِّ نيلْ أرمسترونغ Neil Armstrong منذ أن وضعَ قدمَه على سطح القمرِ. وهو إنجازُه الّذي به يُعرَفُ ويُعرَّفُ. وبه يبشِّرُ بدراميَّةِ العلاقةِ بين الإنسانِ ومنجَزه: هلْ كانت رحلتُه إلى غياهبِ الفضاءِ ممتعةً وثيرةً؟ هل كان الوصولُ خاليا من التضحيات؟ وإن وجدتْ فهل كان الإنجازُ من مقامِها، جديرًا بها؟

عبر هذه الأسئلةِ نستعيدُ من جديدٍ أفلامَ شازال السّابقةِ وندرُك الجامعَ الحقيقيَّ بينها. إنّنا تقريبا أمام فكرةٍ واحدةٍ، تدعو إلى التوقّف للحظاتٍ أمام هاجسِ الإنجازِ والتّأمّل فيهِ وفي عواقبه وفي فداحةِ الثّمنِ الّذي قد يدفعه المرءُ من أجله. وهي فكرةٌ تناسبُ بديهيًّا فيلما عن أرمسترونغ.

الحقيقةُ أنّ فكرتنا عن السّفر إلى الفضاءِ الكونيِّ موبوءَةٌ بالآمال المعقودةِ على المستقبلِ، بصورة الرُّوادِ النّائمين في سكينةٍ داخلَ قوقعةٍ صُلبةٍ ووثيرةٍ حتّى الوصولِ إلى الهدفِ. إنّ رائدَ الفضاءِ شخصٌ محظوظٌ غالبا، ولو أنَّ أفلاما كثيرةً تمحورت حول الحوادثِ الفضائيةِ (رجلُ المرّيخ The Martian، جاذبية Gravity، أبولو13) فإنّها حوادثٌ لا تُلغي فكرةَ التّشريفِ، وفكرةَ الحُظوةِ اللامبرَّرةِ الّتي يحصلُ عليها الرّائدُ منذ البدايةِ. ثمَّ إنّ رحلةَ أبولّو 11 التّاريخيّةَ كانت خاليةً من الحوادثِ (أو هكذا يخيَّلُ إلينا)، إنّها رحلةٌ مظفَّرةٌ يمرحُ خلالَها الإنسان/الرّائدُ فوق سطح القمرِ بلا أيّةِ هواجس.

وفي هذا المستوى، يُحقِّقُ "الإنسانُ الأوّلُ" أولى انتصاراتِه. فإن التزمَ الفيلمُ بفكرةٍ تجاهَ الحدث التّاريخيِّ، فهي ولا شكَّ إعادة تشكيل صورة الرّائدِ وصورة الرِّحلةِ الفضائيّةِ. في سنة 1962 لم يطرحْ بعدُ على نيل أرمسترونغ فكرةُ السفرِ إلى القمر. وحتّى سنة 1968 أي قبل سنة من الرحلةِ، لم يكن هو الخيارَ الأوّلَ للمغامرةِ. وكان عليه قبل أن يقودَ أبولو 11، أن يجتهدَ كثيرا، ويعانيَ طويلا، ويؤجّل موته مرارا. لا تسئ فهمي، فلسنا إزاء فيلمٍ عن المثابرة حتّى النّجاحِ. ولا يوجدُ أيُّ مشهدٍ احتفاليٍّ ملحميٍّ في نهايتِه. لقد كانت عذاباتُ رائد الفضاءِ فكرةً بعينها. صورةً أرادَ لها شازال أن تطفوَ وتكشفَ عن استحقاقٍ حرمت منه هذه الفئةُ طويلا.

لم تكنْ رحلةُ الإنسانِ إلى القمرِ مسلّيةً إلى الحدِّ الّذي قد نتخيّله. ولم تقدر عقولُ المهندسين والفيزيائيين أن تؤمّنَ كلَّ شيءٍ. لقد كان الموتُ مترصّدا بشكلٍ مدهشٍ. مختبئا بين أكمات الأخطاءِ الرّياضيّةِ البسيطة جدا، وخلف كلِّ غفلةٍ عن عاملٍ من عواملِ الطبيعةِ اللاّنهائيّةِ. حين التحقَ نيل بمشروع جيميني Gemini، فقد زميلهُ إليوت سي Elliot See الحياةَ رفقة آخرينَ في تدريبات جويّةٍ سنة 1966. ثمّ كانت كارثة أبولو 1 سنة 1967 إذ احترق ثلاثةٌ من خيرةِ الرّوادِ في قُمرةِ القيادةِ قبل الانطلاق. وكان من بينهم إد وايت Ed White جارُ نيل وأقربُ الزملاء إليه.



لم يقتصد شازال كثيرا في تصوير حضور الموتِ، فصوّرَ مشهد الاحتراق من خارج القمرة بطريقة مستفزّةٍ موجعةٍ. وتابعَ لحظاتٍ نجا فيها نيل بأعجوبةٍ خلال عمليّاتٍ تدريبيّةٍ أو مهامّ رسميّةٍ. اِنفجارات، جروح، حوادث، غيبوبة في الفضاء، وخروج عن سكّةِ الجاذبية. تنويعٌ يذكّرنا قليلا بأطباقِ الموتِ التّي قدّمها فيلم دنكرك منذ سنتين. هاهو يستنبطُ له وصفة جديدةً: فخلفَ السّكون الّذي قد توحي به صورةُ قُمرةِ القيادةِ، تتعالى ملحمةٌ صوتيّةٌ معدنيّةٌ رهيبةٌ تعكسُ هشاشةَ السُّفنِ الفضائيّةِ. وفي مشهدِ الافتتاحِ، كانت المركبةُ تعوي عواءً مخيفا، أشبه باستغاثات البشر، ونرى احمرار مقدّمتها وهي تجاهد لاختراق الغلاف الجويّ. وفي مشهدٍ آخر، يخيَّلُ إلينا سماعُ تطايرِ البراغي. هندسةٌ صوتيّةٌ تحبسُ الأنفاسَ، تبلّغُنا أنّ روّاد الفضاء الأوائلِ، كانوا يسافرون في علب سردين تقريبا، وكان الموتُ أقربَ إليهم من حبلِ الوريدِ.

جُعلت فكرةُ الموت محوريّةً في الفيلم. فلم تقتصر على عملِ أرمسترونغ في وكالة الفضاء، بل تواصلت في منزله. لقد كان شازال بحاجةٍ إلى بهاراتٍ دراميّةٍ وقد وجدها في وفاةِ كَارِنْ أرمسترونغ Karen، فحوّلَ عبرها اﻹنجاز العظيمَ إلى محنةٍ لازمت الرّائد طيلةَ ستّ سنين. وبدا كأنّه في رُنوّه للسماءِ يبحثُ عن ابنته، ويرغب أن يلتقيها مرّةً أخرى. لقد ساهم هذا الخيارُ في جعلِ انطوائيّتِه الّتي عُرفَ بها طبيعيّةً. ولا شكَّ أنّ اختيارَ ممثِّلٍ يجيدُ التعبيرَ الضّمنيَّ عن الحزنِ والغضبِ مثلَ ريان غوسلينغ Ryan Gosling لم يكنْ عشوائيّا. في المقابلِ، أدّت كلير فوي Claire Foy دورًا أكثر انفعاليّةً عبر شخصية جانِتْ أرمسترونغ Janet Armstrong. ونتيجةُ ذلك، دراما عائليّةٌ جيّدةٌ، تُوّجت بمشهدِ الوداعِ الّذي سيظلُّ محفورا في الأذهانِ.


هل بالغ شازال في استعمالِ موت كارن Karen لأغراضه الدّرامية؟ لا أظنّ ذلك، ولكنّنا نلمسُ تهافتا من أجل إفرازِ المعنى من سيرةِ البطلِ. ربّما كان موت البُنيّةِ مؤثّرا، وربّما كان حضورُ الموتِ في حياتِه طاغيا، لكن يصعبُ أن يمثِّل ذلك دافعا كافيا لرحلته. إنّ أرمسترونغ مجبولٌ على المضيِّ قدما، مع حضور الحوافزِ التاريخية والسياسيّة والمادية وغيرها. لقد كان أشبهَ بجنديٍّ في معركةٍ محمومةٍ لغزوِ الفضاءِ. بل إنّ هذا أبعدُ ما يكون عن المجازِ، وأبعدُ ما يكون عن العفويّةِ. فقد كانت أخبارُ الضحايا تأتي كأخبارِ الوفيّاتِ من الجنودِ، وكان التحضير للتأبين يحدثُ بذات السّياسةِ. ذلك ما خفيَ عن أعيننا وراءَ خطوات الإنسانِ المختالةِ على سطحِ القمرِ، وذلك ما حاول شازال أن يبرزَه.

يبقى "الإنسانُ الأولُ" مع ذلك فيلمًا عن الفضاءِ. لؤلؤة في عقدِ أفلامِ الميزانيّاتِ الضّخمةِ الّتي جادتْ بها هوليود عن غزو النجوم. لقد كان الفضاءُ في ما مضى حصرا على صنف الخيالِ العلميِّ، ولذلك يصنَّفُ فيلمٌ عجائبيٌّ (Fantastic) مثل حرب النجوم Star Wars على أنّه خيالٌ علميٌّ. وللسّبب نفسه وقفَ الكثيرُ حائرين بشأنِ تصنيفِ فيلمِ "جاذبية" Gravity. لكنّ "الإنسان الأوّل" يكسرُ بشكلٍ قاطعٍ احتكار الخيالِ العلميِّ على الفضاءِ الكونيِّ الشاسع، إذ يمنحُه إلى نقيضه : السينما التّاريخيّةِ.

تكشفُ مشاهدُ الفيلمِ عن إحاطةٍ مدهشةٍ بتفاصيلِ الحقبةِ الزمنيةِ. رائحةُ السّتيناتِ في الملابسِ، وأثاثِ المنزلِ، والتقنياتِ والموسيقى، والأحداثِ طبعا. وجرى تدقيقٌ تاريخيٌّ صارمٌ في أبسطِ آلات التدريبِ ومركباتِ الفضاءِ الأسطوريّةِ المشاركةِ في الرحلةِ. طبعا لا دخلَ لي في تأكيدِ هذه الدّقّةِ، فهناكَ مختصّون وخبراءٌ قد شهدوا به.

وعلاوةً على الدِّقّة، فقد اعتمدَ شازال على أموال يونفرسال Universal الطّائلةِ ليقدّمَ لنا صورةً مدهشةً للقمر. في مشهدٍ عظيمٍ ساحرٍ تتماهى عيون المتفرجين بعينيْ الإنسانِ الأوّلِ وهو يديرهُما على المكانِ المظلمِ المنير في آن. صخورٌ ملءَ الأفقِ، وصمتٌ تضيعُ فيه الجاذبيةُ، وعناقٌ بين الضّوء والعتمةِ، وتناقضٌ حادٌّ فاتنٌ كأفلامِ الجريمة السوداءِ Noir ولقطةٌ في ثلاثمائةٍ وستينَ درجةً تؤكّدُ على محدوديَّة تأثيرِ الكمبيوتر في هذا التنصيبِ التشكيليِّ المذهلِ.



تقنيّا، فقد تخلّى المخرجُ عن الصور المصمّمة بالكمبيوتر CGI واعتمد على الطّرق الهوليوديّةِ الكلاسيكيّةِ البديعةِ. فاستعملَ مركبات فعليّة محاطةٍ بشاشات عملاقةٍ تعكسُ الخلفيّةَ المطلوبة. فكان الممثِّلُ أثناءَ التصوير قادرًا على تأمُّل سطحِ القمرِ، دون حاجة إلى تخيّله. وهو عملٌ معقّدٌ أضفى على المشهدِ أصالةً عظيمة.

أمّا أسلوبيّا، فقد طغت لقطة القُمرة الذّاتيّة Point of View shot على أغلب مشاهدِ الحركة، ليعيش المشاهدُ لحظات الاقترابِ من الموتِ كما لو كان رائدَ فضاءٍ. وهذا ليس تشبيها بلاغيّا، فأغلب الظنِّ أنّ الفيلمَ معدٌّ خصّيصا لتقنية الواقع الافتراضيِّ Virtual Reality ولن ننتظر طويلا قبل أن نجد عروضا بهذا الشّكل. وعلى كلّ حالٍ فـ"الإنسان الأول" تجربةٌ بصريّةٌ يستحسنُ أن تتمَّ في أفضل الظروف، أمام شاشة IMAX لمن استطاع إليها سبيلا.

أعتقد أنّ شازال لم يُفلحْ كثيرا على المستوى الأدبيِّ، فالعملُ تكلّف النّبشَ في فكرةِ الموتِ، وعلاقتها بدفعِ الإنسانِ إلى القمّةِ، ولم يبلغ الأصالةَ إلاّ في تغييرِ فكرتِنا عن رائدِ الفضاءِ وطبيعةِ عملهِ. وعلى المستوى الدّراميِّ لستُ أشاطرُ انتقاد الكثيرين لغوسلنغ على فتورِ ملامِحه وعجزه عن تبليغِ انفعالاته، فالرَّجلُ في صمته كان قادرا على تبليغ أعقدها، وقد أثبت ذلك في أكثر من مشهدٍ. أما على المستوى التقنيِّ، فالفيلمُ تحفةٌ حقيقيّةٌ سيتردّد إسمه طويلا في ترشيحات الأوسكار لهذا الموسم.
 
الفيلم : الإنسانُ الأوّلُ First Man
المخرج : داميان شازال Damien Chazelle
الصنف : سيرة، تاريخ، حركة، فضاء
المدّة : 141 دقيقة
السنة : 2018
النجوم: ريان غوسلنغ Ryan Gosling، كلير فوي Claire Foy

Friday, October 19, 2018

نارُ الحقيقةِ الحارقة

منذ أن سرق بروميثيوس النّار من مجتمع الآلهة، وهي في حالة استعارة متبادلةٍ مع فكرة الإنسان عن الحقيقةِ. ذلك أنّ الأولى تشحذ حواسّ المرءِ وتستفزّها. وبلسعتها، ودخانها ووهجها و فحيحها، تُدْرَكُ حتّى الألمِ وحتّى يستحيل تجاهُلها. وكذلك الحقيقةُ.
 
ويبدو أنّ تشانغدونغ لي Chang-dong Lee كان مدركا لهذه الدّيناميكيّة حين أنجز فيلمه الأخير "حارق" Beoning، فمشى على حافّتها بمهارة محيّرةٍ.

لمن لا يعرفُ الرّجلَ، فـتشانغدونغ لي من أهمّ المخرجين الكوريّين، وسبق أن حصل على جوائز في كانّ Cannes وفي البندقيّة عن فيلمي الشِّعر Poetry وأشعّة الشمس السرّيّة Secret Sunshine، وهو الفيلم الكوريُّ الوحيد الّذي تقترحُه مجموعةُ كرايتيريون Criterion Collection المرموقةُ للأفلام الكلاسيكيّة والمعاصرة.

وفي فيلم "حارق" Beoning (والأصل هي الكلمة الإنكليزية Burning لكن هكذا ينطقها الإخوة الكوريّون)، يواصلُ لِي عملَه على سينما الواقعية السحريّة أو الواقعيّة الشِّعريّة، لكنَّه يضيفُ إليها بهارات الإثارة Thriller بحرفيّةٍ أدارت إليها الرّقاب في مهرجان كانّ Cannes الأخير. فسادَ الاعتقادُ في الكواليسِ بأنّه المرشّح الأول للسّعفة الذهبية، لكنّ اللجنة كانت قد فضّلت فيلم يابانيّا…



من الصّعب تقديم الفيلمِ بقصّته. فالأحداثُ فيها ملتبسةٌ تتسرّبُ من بين أصابعِ الإدراكِ. وهو ما سأطرحُه لاحقا… يصوّرُ ظاهرُ القصّةِ بعضًا من حياة جونغسو Jong-Su، ابن الفلاّح السّجينِ، الّذي يريد أن يصبحَ كاتبا. إذ يلتقي الفتى بصديقة الطّفولةِ هَايْمِي Hae-Mi فتتوطّدُ علاقتُهما قبيلَ سفرها المفاجئ إلى إفريقيا. لكنّها تعودُ رفقةَ بِينْ Ben الكوريِّ الثريِّ دون أن توضِّح علاقتهما، وتبدأ قصّةٌ ثلاثيةٌ مُرْبِكةٌ وضبابيّةٌ، يتأرجحُ فيها المشهدُ بين عالَمِ بِينْ المُترَفِ العجائبيّ وبين عالمِ جونغسو الرّيفيِّ البائس عند الحدودِ الكوريّة الشمالية. ثمّ، مع اختفاءِ إحدى الشّخصيّاتِ المفاجئ، يأخذُ (المشهد) طابعَ الغموض والإثارةِ، وينتهي بشكلٍ عنيفٍ ومباغتٍ لا أرغبُ في كشفِ تفاصيله. لكنّ ظاهر القصّةِ لا يشتركُ في الكثير مع باطنها، بل إنّ هذا الظاهرَ العالقَ بقشرةِ الأحداثِ لا يكفي لفهمها (القصّة)، وإنّما نحن بحاجةٍ إلى الكثير من المجازِ والتّأويلِ للعثورِ على الحقيقةِ.

يتأسّس الفيلمُ على ثنائيّاتٍ عديدةٍ متقابلةٍ ومتناقضةٍ. وأهمُّها ولا شكَّ، شخصيّتا بِينْ وجونغسو. فعدا التّقابل بين الاسم الانكليزيّ والاسم الكوريِّ، ينتمي الأوّلُ بكلِّ شكلٍ إلى ضواحي العاصمةِ الأكثر دَعةً، وينتمي الثّاني إلى إحدى القرى الحدوديّةِ التّابعة لمدينة باجو Paju، حيثُ لا تنقطعُ مكبّرات الصوتِ الكوريّة الشماليّة عن ترديد خطب البروباغندا الاستفزازيّةِ. يعيشُ الأوّلُ في منزلٍ أنيقٍ تنبعث فيه الموسيقى مداعبةً داعيةً إلى الحياة، ويعيشُ الثاني في منزل ريفيٍّ تتكدّس أغراضُه في مللٍ وقنوطٍ. يستعملُ هذا شاحنةَ أبيهِ الفلاحيّة الصدئة، ويتسلّى ذاك بسيّارة بورشه Porsche يتمنّى غيرُه أن يراها عن قرب لا أكثر. طبقتان اجتماعيّتان شديدتا التباينِ، تتقاسمان مساحة الوطن، ولا تتقاسمان الحياة فيه. لا يمكنُ اعتبار جونغسو من طبقة فقيرة، وإنّما من طبقة الّذين فشلوا أن يكونوا في الأعلى. يعاني من البطالة الّتي أصبحت مشكلا مخيفا في البلادِ، في حين غيّر غريمُه من مفهوم العملِ والمتعةِ فصار عاطلاً باختياره لا معطَّلاً. يمتدُّ التَّرفُ إلى رؤية العالمِ، وأسلوب الحياةِ. فلا يطبخُ لحاجةٍ "حقيقيّةٍ" له كما يفعلُ بطلُنا، وإنّما ليمنحَ ذاتَه المؤلّهةَ قربانًا يليق بالمقام. وفي إحدى الانتقالات العبقريّةِ من لقطة إلى أخرى Transition، قابل المخرجُ بين حفلات سيول الصّاخبة بيئةُ بِينْ الطبيعيّة، وبين حفلة الغناءِ الفرديِّ الّتي يمارسُها جونغسو أثناء الاعتناء ببقرته. وأخيرا، فإنّ هايمي تبدو عند بينْ تسليةً مؤقّتةً يسهلُ استبدالها بينما هيَ الحبُّ الكبيرُ عندَ جونغسو وهي البدايةُ والنهاية.

إنّها أيضا نقطةُ التقائهما، فقد تعارفا من خلالها، وما كان عالماهما ليجتمعا لولا طبيعةُ شخصيّتها الاستثنائيِّة. لقد سمحتْ لها أصولها الرّيفيّةُ بأن تعرفَ جونغسو منذ الطفولة، وسمح لها سفرُها المُكلفُ أن تختلط بأثرياءٍ من أمثال بين. تمشي هايمي بين العالمين بمنتهى الغموضِ والتّلاعبِ. تدعو هذا لاستقبالها في المطار، وتطلب من ذاك مرافقتها إلى المنزل. لا تحدّدُ طبيعة علاقاتها، ولا تجزم القول في شيء تقريبا. هل قال لها في صباه أنّها دميمة؟ وهل سقطتْ في طفولتِها في البئرِ فأنقذها؟ لقد حاول جونغسو أن يتبيّنَ فخابَ وظلَّ الأمرُ يحتملُ الأمرَ ونقيضه. لا يمكن تصديق كلامها، ولا يمكن تجاهلهُ. ولقد تعاظم الغموض حتّى بلغ ذروته مع الاختفاء المفاجئ. إلى الحدِّ الّذي يجعل المرءَ يتساءل إن كان الاختفاءُ نفسه حقيقيّا...

إذا كان الشّابّانِ يمثّلان رؤيتين متناقضتين لكوريا، فإنَّ هايمي تمثِّل رؤيةً أكثر تعقيدا وضبابيّةً. إنّها تمثّلُ طبيعةَ الحقيقةِ المُتَمنّعةِ. ومن المدهشِ أنّها في الآنِ ذاتِه الشخصيّةُ الوحيدةُ الّتي تعلنُ البحثَ عن الحقيقةِ هدفًا صريحا. بل لعلّه الشيءُ الثابتُ الوحيدُ بخصوصها. تسافرُ إلى مجاهل الصحراءِ الإفريقيةِ بحثا عن الامتلاءِ، أو بحثا عن الانتماء إلى مجازٍ يعبّر عن جوعها. فهناك في عالمِ قبائل البُوشْمِنْ Bushmen بين بوتسوانا وجنوب إفريقيا، يسمّى الجوعُ إلى الطّعامِ الجوعَ الصّغيرَ ويخصّصُ الجوعُ الكبير Great Hunger للحاجةِ المضنيةِ للحقيقةِ. إنّ هايمي بشكل ما، تشبهنا نحن المتفرّجين. فبسيرِها على حدودِ العالميْنِ، تعبِّر عن جوعِها الكبيرِ لمعرفةِ حقيقتِها وحقيقةِ انتمائها. ونحنُ أيضا نحاول تبيُّن الحقيقةِ الموضوعيّةِ لأحداثِ القصَّةِ من بين ركامِ الذّاتيّةِ الّتي تفرِضُها أو تفترضُها غرابةُ ما يحصلُ (هل تملكُ قطّا؟ ماذا يفعلُ حوضُ القططِ عندها؟ وماذا تفعلُ فيه فضلاتُ القطط؟). عَكْسَ كلِّ شيءٍ متراقصٍ في حياتها، يسبّب الجوعُ إلى الحقيقةِ ألمًا عميقا في صدرها، فتعبّر عنه برقصاتها البديعةِ، ومنها ذلك المشهد الأيقونيُّ الّذي رقصت فيه على أنغام مايلز دايفس Miles Davis بشكلٍ لن يفارق ذاكرتي. من المدهش أنّ هذه هي التجربة التّمثيلية الأولى لـجونغسيو دجون Jong-seo Jeon لأنّ حضورها يملأ الصّورةَ، وعيناها تعبّران عن راحةٍ تامّة في التّعامل مع البيئة التصويريّةِ.



تملكُ شين هايمي ميزةً ثالثةً كشخصيّةٍ محوريّةٍِ بين طرفيْ نقيضٍ. فلا تكتفي بأن تمثِّل غموضَ الحقيقةِ ورحلةَ البحثِ عنها، بل تمنحُ أيضا مفتاحَ العثورِ عليها.
ينبغي العودةُ إلى السّهرة الأولى الّتي جمعتها بـجونغسو. إذ نراها تقطف الهواء بيدها، وتحاكي تقشير اليوسفيّ (المندلينة) ثمّ تعبُّ الهواء كأنّها تأكل منها. تقولُ للشّاب المندهشِ أمامها، تلك الحكمةَ الّتي سوف تظلُّ تتردّدُ طوال الفيلم: لكيْ ترى الثّمرة، يجبُ أن تنسى أنّها غيرُ موجودةٍ.
وكان على جونغسو أن يستعمل ذات المنطقِ كي يتعاملَ مع قطِّها الّذي كُلِّفَ بالعنايةِ به طوال غيابها في صحراء كالاهاري والّذي يذكِّرنا وجودُه وعدم وجودِه بحقيقةِ شرودنغر Schrödinger المربكةِ. ومع حادثةِ الاختفاءِ، كان ضروريًّا أن نسترجِعَ هذه الحكمةَ. هل يجب أن ننسى عدم وجودها حتّى نراها؟ لكنّنا لا نراها بالفعل، فهل كنّا نراها لأنّنا نسينا لوهلةٍ أنّها غير موجودةٍ؟ لم يفكّر جونغسو في هذا الاحتمالِ المخيفِ الّذي قد يعني جنونه، وهو مع ذلك قد تعاملَ مع شيء مماثلٍ حين كان يحاولُ الإمساك بالقطِّ الهاربِ من شقّةِ بين. كيف فكّرَ أنّه يحملُ اسمَ قطِّ هايمي الوهميِّ؟ هل نسيَ أخيرا عدمَ وجودهِ؟

يربكنا المنطقُ، ويربكُنا أكثر إصرارُ المخرجِ لي على تقنية التّذكير المستعملة عادةً في الأعمال التشكيليّةِ التّجريديّة. تؤوَّلُ فكرةُ التّذكير بعنصر أو تفصيل في سياقات مختلفةٍ، على أنّ هناك معنًى خفيّا يسوَّقُ. لكنّها في متاهة البحثِ عن الحقيقةِ قد تتحوَّل إلى مجرَّد حركات استيطيقيّة لا غير، أو عمليّةُ تمويهٍ للتأكيد على طبيعةِ الحقيقةِ الغامضةِ. إلى ما يرمزُ شعاعُ الشّمسِ الّذي في لحظاتِ النّشوةِ القصيرةِ؟ ولماذا اقترنَ ببحث جونغسو عن الانتشاءِ بمفردِه (في غيابِ حبيبته)؟ وإلى ما يرمزُ غيابُ القطِّ في شقّةِ هايمي وحضورُه قربَ منزل بين بُعَيْدَ الاختفاءِ؟ وماذا عن تكرّر فكرة الاحتراقِ؟ ما الجامعُ بين حرقِ ملابسِ أمِّه الغائبةِ بلا رجعةٍ، وبين حرقِ البيوتِ المكيَّفةِ الّتي يمارسُها بين على سبيل تزجية الوقتِ؟ هل من حقيقةٍ وسط كلِّ هذا؟

لا أعتقدُ ذلكَ واسمحوا لي بحرق الأحداثِ (أو لكم أن تنتقلوا إلى الخاتمةِ). يقولُ ظاهرُ الأمرِ بحدوثِ الجريمةِ. فالتّطابق بين اختفاءِ هايمي وإقدامِ بين على حرقِ بيت مكيّفةٍ يشجّع على هكذا استنتاجٍ. أضف إلى ذلك عبارته المستفزَّة عن تبخُّرها، واستبداله إيّاها بفتاة أخرى، وحديثه المخيفَ عن تعاليه عن ثنائيّةِ الخير والشرّ، لتسيطرَ علينا القراءةُ المباشرةُ.
لكنَّها قراءةٌ تتجاهلُ عناصرَ كثيرةٍ أخرى، أطنبَ المخرجُ في زرعها في المَشاهدِ. إنّ الوضعَ قابلٌ لتأويلاتٍ ربّما أشدُّها منطقيّةً أشدُّها غرابةً.

لو أخذنا بحكمةِ هايمي، فهي لم تعُد تُرى لأنّ جونغسو تذكّر أنّها غير موجودةٍ. حين استفاق من غفوته، وبدأ رحلة البحثِ عنها، اكتشفَ أنّ كلَّ أولئك الّذين يعرفونها لم يروها منذ مدّة، كأنَّ ما عاشه جونغسو معها، أضغاثُ أحلامٍ، وألعابُ لاوعيٍ. في سهرةِ العودةِ من إفريقيا، وصفتْ هايمي ما سيحدثُ بدقّة بالغة. تحدّثت عن مشهدِ الغروب ورغبتها العارمة في الاختفاء كأنّما لم تكن. ثمَّ كان اختفاؤها بعدَ مشهد رقصتها عند الغروب.

تتزامنُ عودةُ هايمي إلى حياتهِ، بعودةِ أمّه أيضا. أوّلا عبر الاتّصالات الهاتفيّة المجهولةِ، ثمَّ بالتّصريح، فاللّقاءِ الّذي لا يحدثُ إلاّ باختفائها. لا يمكن تجاهل العلاقةِ بين حياةِ البطلِ العائليّةِ وقصته مع هايمي وبين. لقد أرغمه أبوه في صباه على حرق أغراضِ أمّه الهاربة، تلك الأغراض الّتي تمثّل كلَّ ما بقي له منها. واليومَ يلتقي بشخصٍ مولعٍ بحرق البيوت المكيّفةِ وقد يكونُ وراءَ اختفاءِ حبيبتهِ. إنّ العلاقة الأوديبيّة واضحةٌ، وهو ما يعطي لفعل الحرقِ منطقا مناسبا.



هل كانت هايمي حقيقيّةً؟ هل اختفت بإرادتها أم قتلها بين؟ لا تبدو الحقيقةُ حاسمةً في هذه المسائلِ، ولكنَّ جونغسو يعرفُ ماهو حقيقيٌّ. إنّها المشاعرُ الحارقةُ الّتي تتولّدُ داخله، إما بفضل الحبِّ، وإما بسبب الغيرةِ، أو الغضب والرغبة في الانتقامِ، أو ربّما الحقدِ الطبقيِّ، أو الجوعِ الكبيرِ لمعرفةِ الحقيقةِ. إنّ ماهو حقيقيٌّ هو ذلك المسار الطويلُ نحو الاختفاء، وهو ألمُ احتمالها، وهو النسيانُ الحارقُ لعدم وجودها.

يمنحنا لي بفيلمِ "حارق" Beoning لحظاتٍ مربكة وبسيطةً، قد لا نظفر منها بمعنًى وقد نظفر منها بالكثير من المعاني، وفي الحالتين، سنظفر بالكثير من المشاعرِ والكثير من الجمال "الحارقِ"...

 
الفيلم: حارق Beoning
المخرج : تشانغ دونغ لي Chang-dong LEE
السنة : 2018
المدّة: 148 دقيقة
الصنف: دراما، غموض

Translate