ربما كانت تونس تملك أرقى أصناف الحداثة بالفعل، تلك الحداثة التي لم تتأثر قطّ بمرور السنين و العقود و القرون. تلك الحداثة الصامدة في وجه التغيرات و الافكار التي أتى بها القرن العشرين و ما بعده!
حاملو لواء الحداثة في تونس هم أبناء القرن التاسع عشر باستحقاق، و لو سمعت خطابهم عن العنصر و العرق، لما وجدتَ اختلافا كبيرا عمّا كان يقوله جول فيري "الفاتح العظيم" الذي وهب هذه البلاد المطحونة قبسا من الحضارة و الحداثة!
ستجد مثلا ذات الخطاب العنصريّ الدقيق، آسف هنا لا تحمل صفة "عنصريّ" أيّ معنى سلبيّ. إنّه العلم يا سادة! يقول العلم إنّ جيناتنا التونسيّة تحمل بصمات أمازيغيّة بنسبة أكبر نسبة البصمة العربية. و هو ما احتفت به بعض وسائل الإعلام المعروفة من خلال مقالات مغرقة في الدقة العلمية. (هذا على سبيل المثال)
بعضهم ذهب إلى الاستنتاجات الحداثية البديهية، نحن امازيغ و لسنا عربا. هناك من تعدّى ذلك إلى الحلول العَملية : اُخرجوا من أرضنا!
لا أعرف من يقصد بالقول، مادمنا كلنا أمازيغا فمن عليه أن يخرج إذا؟
لكن دعونا نعود إلى فكرة الجينات العبقرية هذه. هذا الصنف من الحداثيين، يعتقد إذا أن وجود جينات امازيغية أكثر من العربية، تعني ـ على الأقل ـ أن الامازيغ أكثر من العرب ( هكذا و كأن التونسي إما يحمل سلسلة جينية "امازيغية" و إما "عربية")، حسن ألا يعني هذا أن هناك وجودا عربيا في تونس؟ لماذا ننكرهم؟ لماذا نقول إننا "لسنا عربا"؟ أليس من الأجدى القول إذا إننا أمازيغ و إننا أيضا عرب؟
ربما لأنّ هؤلاء الحداثيين مثلا لا يحتملون هوية مركّبة، أو لا يستوعبونها (فكرة تذكرني بهذا المقال) أو ربما لأنهم كما ذكرت أعلاه، في وفائهم لقيم الحداثة، الحداثة التي مجّدت الرجل الأبيض و واجبه الحضاريّ تجاه الأعراق المتخلفة، تعود إلى الجينات و الدماء لتحليل مشكلة الهوية، أو ربما في نهاية الأمر، لأنّ مشكلتها مع الهوية العربية تتجاوز المسألة العرقيّة و حتى مسألة الهوية (مسألة كهذه مثلا).
بعض هؤلاء يستغفلون الجهلة كما يستغفل جماعة "حزب ربي" مثلا جماعة آخرين، و كلاهما يحارب الآخر في ضراوة، ربما لأنهما يكرهان المنافسة، أو ربما لأن التنافس في النهاية يفرض ذلك. تجد مثلا صفحات فايسبوكية تلقى شعبية لا بأس بها، يتابعها في حماس خصوصا أولئك الذين لم يتح لهم التفكير إلا بعد سنّ العشرين للأسف. أولئك الذين لم يوفّروا لأنفسهم حدّا أدنى من المعرفة بتاريخ بلادهم يمكّنهم من فرز ما يقوله الآخرون لهم. يظلّون سجناء محيطهم و بيئاتهم خصوصا.
هؤلاء المستغفِــلون يعرفون جيّدا ما يفعلون، و لا يبدو أنهم يكتبون جهلا أو حمقا. من بين هؤلاء ستجدون مثلا هذه الصفحة. التي تنتسب إلى بورقيبة و تقول كل شيء من أجل محاربة العرب و "الوجود العربيّ" في تونس. تعتمد الصفحة في انتسابها إلى بورقيبة على "حربه" على العروبة و على الاحتلال العربيّ الممتدّ من 1300 سنة. طبعا فات هؤلاء أن بورقيبة هو أيضا لا يحمل أصولا "أمازيغيّة" أو لنقل بشكل أكثر يسرا، أن أصوله تعود به إلى طرابلس بعيدا عن الأراضي التونسيّة، و هناك يختلف الدارس و أغلبهم يذهب به إلى شرق أوروبا. المهمّ أن "الغزاة العرب" أعرق حضورا من بورقيبة على هذه الأرض مثلا. أما عن الحرب التي شنّها بورقيبة على العروبة في تونس فلعلّ أبرز عناوينها ارساء التعريب في البلاد، بعدما كان التعليم مفرنسا تماما. كان بورقيبة مشرفا على المشروع بشهادة محمد المزالي. لكنّهم لا يرون تفاصيل بسيطة كهذه، يرون فقط خلافه التاريخيّ مع عبد الناصر، خلاف على الزعامة العربية في الواقع، و خلاف على منهج التحرك العربيّ. لا يرون استقبال بورقيبة للمقاومة الفلسطينية، و لا يرون استقبال تونس للجامعة العربية بعد معرّة كامب دافيد. لكنّهم يعنونون الأشياء خلف الخلاف البورقيبي اليوسفي على الزعامة أيضا، و الذي لعب فيه بن يوسف على وتر العروبة ليكسب الدعم المصريّ الجزائريّ.. لم يكن بورقيبة بطلا قوميّا طبعا، لكنّه لم يتنصل قطّ من روحه العربية، و لم يدعُ تونس للهروب من حقيقتها العربية. لكنّها السياسة، السياسة التي يحسنها بورقيبة بأكثر مما يعقلون.
أجل نحن أمازيغ يا سادة، و نحن عرب أيضا، و كنعانيون، و ربما رومان، و ربما جرمان، و سلاجقة، و شركسيون، و أشياء أخرى كثيرة.. لكنّ الهوية في تعقيدها و كثرة وجوهها (و هو ما يخلق زينتها و ثراءها و تفرّدها أيضا) تملك وجوها أوضح من غيرها، و عيونا أكثر انفتاحا من غيرها يمكن للمرء أن يوجه لها الكلام. و أن يفسخ المرء وجها من وجوهه، أو أن يقرّر أن ينظر للأشياء بقفاه، فلن يقرّبه ذلك من القرن الحادي و العشرين مقدار أنملة.
إنّ من يريد التنكر لوجهه العربيّ بتعلّة إنه سبب تخلّفه الحضاريّ و التقنيّ، سيظلّ يلقي بالقمامة في الشارع حتى لو أصبح يتحدث باليابانيّة أو السويديّة. و ما الهوية العربية إن لم تكن هذه الملايين التي تتحدث العربية و تريد التخلص منها. هل تُـراها حينما تتخلص من لغتها و من أمثالها و من تاريخها و من متنبّيها و نزارها و شابّيها و درويشها ستصبح أقل رشوة و أقل جهلا و أكثر طهرا و تطهّرا؟ و ماذا لو فكّر هؤلاء القوم بصيغة مقلوبة مثلا؟ أن يقدّموا مثالا للعربي المعاصر المتحضّر، ألن يصبح "العرب" حينئذ كذلك؟
أجل نحن أمازيغ يا سادة، لكنّنا نحاول أن نكون أقل حمقا و أكثر مسؤولية لا أكثر.
حاملو لواء الحداثة في تونس هم أبناء القرن التاسع عشر باستحقاق، و لو سمعت خطابهم عن العنصر و العرق، لما وجدتَ اختلافا كبيرا عمّا كان يقوله جول فيري "الفاتح العظيم" الذي وهب هذه البلاد المطحونة قبسا من الحضارة و الحداثة!
ستجد مثلا ذات الخطاب العنصريّ الدقيق، آسف هنا لا تحمل صفة "عنصريّ" أيّ معنى سلبيّ. إنّه العلم يا سادة! يقول العلم إنّ جيناتنا التونسيّة تحمل بصمات أمازيغيّة بنسبة أكبر نسبة البصمة العربية. و هو ما احتفت به بعض وسائل الإعلام المعروفة من خلال مقالات مغرقة في الدقة العلمية. (هذا على سبيل المثال)
بعضهم ذهب إلى الاستنتاجات الحداثية البديهية، نحن امازيغ و لسنا عربا. هناك من تعدّى ذلك إلى الحلول العَملية : اُخرجوا من أرضنا!
لا أعرف من يقصد بالقول، مادمنا كلنا أمازيغا فمن عليه أن يخرج إذا؟
لكن دعونا نعود إلى فكرة الجينات العبقرية هذه. هذا الصنف من الحداثيين، يعتقد إذا أن وجود جينات امازيغية أكثر من العربية، تعني ـ على الأقل ـ أن الامازيغ أكثر من العرب ( هكذا و كأن التونسي إما يحمل سلسلة جينية "امازيغية" و إما "عربية")، حسن ألا يعني هذا أن هناك وجودا عربيا في تونس؟ لماذا ننكرهم؟ لماذا نقول إننا "لسنا عربا"؟ أليس من الأجدى القول إذا إننا أمازيغ و إننا أيضا عرب؟
ربما لأنّ هؤلاء الحداثيين مثلا لا يحتملون هوية مركّبة، أو لا يستوعبونها (فكرة تذكرني بهذا المقال) أو ربما لأنهم كما ذكرت أعلاه، في وفائهم لقيم الحداثة، الحداثة التي مجّدت الرجل الأبيض و واجبه الحضاريّ تجاه الأعراق المتخلفة، تعود إلى الجينات و الدماء لتحليل مشكلة الهوية، أو ربما في نهاية الأمر، لأنّ مشكلتها مع الهوية العربية تتجاوز المسألة العرقيّة و حتى مسألة الهوية (مسألة كهذه مثلا).
بعض هؤلاء يستغفلون الجهلة كما يستغفل جماعة "حزب ربي" مثلا جماعة آخرين، و كلاهما يحارب الآخر في ضراوة، ربما لأنهما يكرهان المنافسة، أو ربما لأن التنافس في النهاية يفرض ذلك. تجد مثلا صفحات فايسبوكية تلقى شعبية لا بأس بها، يتابعها في حماس خصوصا أولئك الذين لم يتح لهم التفكير إلا بعد سنّ العشرين للأسف. أولئك الذين لم يوفّروا لأنفسهم حدّا أدنى من المعرفة بتاريخ بلادهم يمكّنهم من فرز ما يقوله الآخرون لهم. يظلّون سجناء محيطهم و بيئاتهم خصوصا.
هؤلاء المستغفِــلون يعرفون جيّدا ما يفعلون، و لا يبدو أنهم يكتبون جهلا أو حمقا. من بين هؤلاء ستجدون مثلا هذه الصفحة. التي تنتسب إلى بورقيبة و تقول كل شيء من أجل محاربة العرب و "الوجود العربيّ" في تونس. تعتمد الصفحة في انتسابها إلى بورقيبة على "حربه" على العروبة و على الاحتلال العربيّ الممتدّ من 1300 سنة. طبعا فات هؤلاء أن بورقيبة هو أيضا لا يحمل أصولا "أمازيغيّة" أو لنقل بشكل أكثر يسرا، أن أصوله تعود به إلى طرابلس بعيدا عن الأراضي التونسيّة، و هناك يختلف الدارس و أغلبهم يذهب به إلى شرق أوروبا. المهمّ أن "الغزاة العرب" أعرق حضورا من بورقيبة على هذه الأرض مثلا. أما عن الحرب التي شنّها بورقيبة على العروبة في تونس فلعلّ أبرز عناوينها ارساء التعريب في البلاد، بعدما كان التعليم مفرنسا تماما. كان بورقيبة مشرفا على المشروع بشهادة محمد المزالي. لكنّهم لا يرون تفاصيل بسيطة كهذه، يرون فقط خلافه التاريخيّ مع عبد الناصر، خلاف على الزعامة العربية في الواقع، و خلاف على منهج التحرك العربيّ. لا يرون استقبال بورقيبة للمقاومة الفلسطينية، و لا يرون استقبال تونس للجامعة العربية بعد معرّة كامب دافيد. لكنّهم يعنونون الأشياء خلف الخلاف البورقيبي اليوسفي على الزعامة أيضا، و الذي لعب فيه بن يوسف على وتر العروبة ليكسب الدعم المصريّ الجزائريّ.. لم يكن بورقيبة بطلا قوميّا طبعا، لكنّه لم يتنصل قطّ من روحه العربية، و لم يدعُ تونس للهروب من حقيقتها العربية. لكنّها السياسة، السياسة التي يحسنها بورقيبة بأكثر مما يعقلون.
أجل نحن أمازيغ يا سادة، و نحن عرب أيضا، و كنعانيون، و ربما رومان، و ربما جرمان، و سلاجقة، و شركسيون، و أشياء أخرى كثيرة.. لكنّ الهوية في تعقيدها و كثرة وجوهها (و هو ما يخلق زينتها و ثراءها و تفرّدها أيضا) تملك وجوها أوضح من غيرها، و عيونا أكثر انفتاحا من غيرها يمكن للمرء أن يوجه لها الكلام. و أن يفسخ المرء وجها من وجوهه، أو أن يقرّر أن ينظر للأشياء بقفاه، فلن يقرّبه ذلك من القرن الحادي و العشرين مقدار أنملة.
إنّ من يريد التنكر لوجهه العربيّ بتعلّة إنه سبب تخلّفه الحضاريّ و التقنيّ، سيظلّ يلقي بالقمامة في الشارع حتى لو أصبح يتحدث باليابانيّة أو السويديّة. و ما الهوية العربية إن لم تكن هذه الملايين التي تتحدث العربية و تريد التخلص منها. هل تُـراها حينما تتخلص من لغتها و من أمثالها و من تاريخها و من متنبّيها و نزارها و شابّيها و درويشها ستصبح أقل رشوة و أقل جهلا و أكثر طهرا و تطهّرا؟ و ماذا لو فكّر هؤلاء القوم بصيغة مقلوبة مثلا؟ أن يقدّموا مثالا للعربي المعاصر المتحضّر، ألن يصبح "العرب" حينئذ كذلك؟
أجل نحن أمازيغ يا سادة، لكنّنا نحاول أن نكون أقل حمقا و أكثر مسؤولية لا أكثر.
محرقة عطور في شكل رأس للإله بعل ـ حمون
و هو مزج للاله الفينيقي بعل، و الاله البربري حمون أو آمون.
(المتحف الوطني بقرطاج)
|
No comments:
Post a Comment