لا أتحدث هنا عن طريقة نظم فارسية، و إنما عن نظام عدّ تستعمله كل الأجهزة الالكترونية. يسميه أحفاد شكسبير Binary number system وهو عكس النظام العشري الذي تعرفه، لا يملك الا رقمين اثنين هما صفر وواحد. ومن هذين يمكن اختراع بقية الاعداد:
0 -> 0
1 -> 1
2 -> 10
3 -> 11
4 -> 100
5 -> 101
وهكذا باستعمال رقمين فحسب، يمكن للآلة فعل المعجزات! يمكنها هذا النظام من تصوّر أشياء شديدة التعقيد و التركيب، على اعتبار أن كل شيء مركّب يتكون من أشياء أكثر بساطة. في الواقع لا أعرف إن كانت هذه القاعدة تعمل على الأنظمة الطبيعية، فطريقة عمل النظام الشمسي تبدو أبسط بكثير من طريقة عمل الشمس نفسها، و سلوك الإنسان يبدو غالبا أكثر قابلية للتوقع من سلوك الذرات التي تكون جسمه.. هل العقول مثنوية؟ أعني هل تعمل وفق نظام العدّ المثنويّ (أو الثنائيّ لمن لا يحبّ الحذلقة) أم أنها أكثر تعقيدا من ذلك؟ يقال إن المعطيات (data) تتردد في المخّ وفق شحنات كهربائية و هو ما يحيلنا بالفعل إلى منظومة مثنوية. لكنّ ما يهمني من كل ذلك، هو تلك الحقيقة التي تقول إن العقل قادر على تصور أنظمة شديدة التعقيد و التركيب، أكثر بكثير من جهاز الكمبيوتر. أقول "قادر"، لأنني أعتقد أن أغلب العقول لا تمارس ذلك بالفعل، و تسبب جرّاء ذلك، الكثير من الرداءة.. أعتقد أن تلك الرداءة هي ما يجعل الحياة عسيرة في هذه البلاد..
حينما نبدأ بفهم الأشياء من حولنا صغارا، نتعلم قاعدة أساسية تتمحور حولها سلوكاتنا : هذا جيّد. هذا سيء. كل ما نحاول فعله أو فهمه يمرّ عبر هذا السؤال : هل هو جيد أم سيء. فيما بعد يتخذ المفهومان أشكالا عديدة، خير و شر، الله و الشيطان، ربما سكاي وولكر و دارث فايدور، أو الكابتن ماجد و الكابتن بسام ... لا أعرف، لكن المقاربة المثنوية حاضرة هناك.. فيما بعد تتكفّل ثقافة المرء و تجاربه بتعليمه أشياء كثيرة و تعقيد المشهد من حوله.. يتعلم المرء أن الخير و الشرّ مثلا نسبيان عبر المكان و الزمان و الأحداث أيضا.. يتعلم أن الخير و الشرّ تقييم لا يناسب مواقف و أنظمة أخرى كثيرة. الانسان يدرك الواقع عبر قوالب ذهنية (models) أكثر يسرا للاستيعاب، تأخذ هذه القوالب أشكالا شديدة البساطة في البداية، و مع اكتساب المعرفة، تأخذ هذه القوالب أشكالا أكثر تعقيدا..
في الماضي كان الانسان يعتقد أن الأرض مسطحة، حينما اكتشف كروية الأرض، اعتقد أنها كرة مثالية (perfect). لم يلبث فيما بعد أن أدرك أنها يجب أن تكون مسطحة على مستوى القطبين، كبرتقالة. طبعا شكل الأرض أكثر تعقيدا و أبعد ما يكون عن الأشكال الهندسية المثالية التي نستعملها في الهندسة الاقليدية. لكن بعض الناس لا يزال يجد بعض العسر في استيعاب الشكل الكرويّ الأول. إن التفاوت في القدرة على تصوّر الأشياء و إدراك مستويات تعقيدها أمر طبيعيّ. الطبيعة قائمة على التفاضل (أمر قد لا يعجب الكثيرين و لكنه ليس موضوعنا الآن). لا يمكن لشخص مهما بلغت درجة ذكائه و معارفه و خبراته أن يتمثّل في ذهنه الأشياء كما هي بالضبط في الواقع، لكنّه يطوّر قوالبه الذهنية و يعقّدها أكثر فأكثر. و لا يمكن أن يتساوى الناس في درجة التعقيد التي يمكن لأذهانهم بلوغها. كاتب هذه السطور يجد صعوبة بالغة في استيعاب عالم خماسيّ الابعاد، بينما تجد فيزيائيي مراكز البحث الكبرى، يحاولون تقديم تصور للكون من اثني عشر بعدا! لكن، اعتقد أن هناك حدّا أدنى من التعقيد وجب توفّره عند الانسان حتى يستطيع أن يساير العالم الجديد من حوله.
كلّ الصور تمثّل أرنبا، لكن كما تلاحظون كلما ارتفعت درجة تعقيد الصورة (عدد المثلثات التي تشكل سطح المجسم) كلما ازداد وضوحا. |
الأمر جادّ صدقوني. أنا لا أتحدث عن مجرد صور تعلق بالذاكرة. أنا أتحدث عن طريقة عمل الذهن، التي تجعلنا ما نحن عليه. حينما أتأمل الرداءة التي تحيط بي من كل جانب. أعتقد أن أحد أسبابها الأساسية، هو بدائية القوالب التي نمثّل بها الأشياء و المواضيع و الحقائق من حولنا. حينما تسود بدائية القوالب في مجتمع ما، فهو مجتمع بدائيّ، مهما امتلك من تقنية و أموال.. خطورة المسألة ترجع إلى أن غالبية أفراد هذا المجتمع، تسيطر عليهم طرق التفكير المثنوية، التي تختزل الأشياء في الأبيض و الأسود.. إن الاستقطاب الثنائي الذي يجمع على وجوده الجميع في تونس، موجود تقريبا في أغلب دول العالم. لماذا اذا يبدو لنا الاستقطاب الثنائي غير طبيعيّ في تونس؟ أعتقد أن السبب يكمن في التفكير المثنويّ. هنا، يشيطن الناس بعضهم البعض لا لتوفر المعطيات الوجيهة و لكن فقط لأنه لا يستطيع رؤية العالم من وجهة النظر المقابلة.
ماذا؟ تقول إن ذلك لا علاقة له بالقوالب البسيطة إنما بالتعصب. و ما هو التعصب؟ أليس عدم القدرة على رؤية الأمور من وجهة نظر مختلفة؟ لا أطالب الشيوعيّ بأن يؤمن بالفلسفة الليبرالية. لكن عليه أن يفهم أن الليبرالي ليس بالضرورة شخصا جشعا يريد أن يعيش على جوع الآخرين.
المتعصب هو شخص يجد صعوبة في ايجاد قوالب ذهنية مركبة و عديدة. لذلك يفضل تلك القوالب البسيطة الجاهزة. الكليشيهات التي تنشأ لتردد انموذج ما أكثر من غيره. الكثير من المبرمجين يستعملون النظارات لذلك نشأ هذا القالب الجاهز الذي يربط مباشرة بين مبرمج الكمبيوتر و النظارات. مبدأ الربط هذا مزروع في الجينات البشرية لأنه يساعد الانسان في الكثير من المواقف. لكن على الانسان أن يرتقي بوعيه إلى ما فوق هذا السلوك اللاواعي حتى لا يتحكم في نظرته الى الأمور. هذا الخطأ المنهجيّ هو تقريبا ما تقوم عليه النظرة المتعصبة تجاه الآخر. تقابل فتاة محجبة فتسقط عليها آليا قيم التقوى و الورع. . يتشكل في ذهنك ذلك القالب البسيط الجاهز الذي تجمع تحته كل المججبات. و قد تجدها تمارس سلوكا يتنافى و ذلك الذي 'يجب أن تكون عليه المحجبة' فتسقط حكمك عليها و على المحجبات جميعا. (لماذا انت بحاجة الى اطلاق حكم ما اصلا فتلك قضية اخرى) كل هذا و انت لم تسمع عنها فكرة واحدة. حاجتك الى القوالب الجاهزة سببها عدم قدرة ذهنك على تمثل قوالب أكثر تعقيدا. محجبة لكنها غير مسلمة. لها افكار خاصة ربما شاذة لكنها افكارها هي و ما يجعلها هكذا.
ايضا يميل المتعصب الى تصنيف ثنائي جامد : ما هو مثلي فهو جيد و خير و صحيح في كل شيء. الآخر هو كل تلك الصفات السلبية. المسلمون جميعهم حمقى و جهلة. الادهى ان تسمع من يقول : المسلمون جميعهم متعصبون. هذه قولة مشطة في الانفتاح!
من اين يأتي هذا العجز عن فهم القوالب المعقدة؟ ربما هناك اسباب عديدة. لاحظوا انني لست اقوم بدراسة معمقة هنا. لكن هناك شيء ما ليس على ما يرام في تربيتنا. كل شيء من حولنا يتمثل الاشياء بسذاجة. اغانينا تصور مواقف بدائية من العشق و الوحدة و حب الوطن. اشعارنا تكرر ذات الصور الساذجة. قصصنا و افلامنا و مسلسلاتنا - الا ما رحم ربي - ترنو الى الخير المطلق و الشر المطلق. تلفزاتنا الملونة تبث سموما بيضاء و سوداء منذ القرن العشرين و لم تتغير. و مواعظ شيوخنا لا تزال تحدثنا عن سابع جار و نحن نعيش في مبنى لا نعرف عدد سكانه و لا متى نغادره..
هل علينا أن ندرس جميعا النظريات الرياضية المعقدة حتى تتجاوز أذهاننا حاجز التفكير المثنوي؟ و هل على التلفاز أن ينقل لنا مباشرة وقائع الاعلان عن اكتشاف بوزونات هيوغز حتى نصبح قادرين على قبول الاختلاف و عدم شيطنة الآخر؟ ربما يوما ما. لكن لأن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، فأعتقد أن الارتقاء بمستوى الفنّ و الأدب في هذه البلاد و لو خطوة واحدة، أمر ضروريّ أو بلغة الكمبيوتر تعليمة رقم 0.
هل علينا أن ندرس جميعا النظريات الرياضية المعقدة حتى تتجاوز أذهاننا حاجز التفكير المثنوي؟ و هل على التلفاز أن ينقل لنا مباشرة وقائع الاعلان عن اكتشاف بوزونات هيوغز حتى نصبح قادرين على قبول الاختلاف و عدم شيطنة الآخر؟ ربما يوما ما. لكن لأن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، فأعتقد أن الارتقاء بمستوى الفنّ و الأدب في هذه البلاد و لو خطوة واحدة، أمر ضروريّ أو بلغة الكمبيوتر تعليمة رقم 0.
No comments:
Post a Comment