هذا ليس تدوينة مفردة، انما تكملة
للحديث السابق بخصوص الهوية. و هو حديث ـ على قصره ـ لا يلخّص، و الاسلم أن
تبذل أصابعك شيئا من الجهد و تنزل الى التدوينة السابقة، و كن واثقا أنها
لن تأخذ منك وقتا أكثر من زمن استهلاك سيجارة...
كنتُ قد لخصتُ في نهاية حديثي إلى طابع الهوية الجماعية الديناميكيّ، و إلى تعدد أوجهها التي يشعّ أحدها أكثر من الآخرين، و يخفت بريق بعضها حسب الحالة و حسب المكان و الزمان و الوضعية التي يمرّ بها المجتمع.
كما تعظم بعض الوجوه و يكبر سطحها مقارنة ببعض الوجوه الاخرى التي قد لا تكاد تُرى لولا بعض كلمات متسللة إلى اللغة، أو بعض آثار لا تزال صامدة بوجه الزمن.. و كي نقترب أكثر بمثال الشكل المتعدد الاوجه لشكل الهوية، يجب الاشارة أنّ كل وجه من وجوه الهوية، ليس "مسطّحا" تماما و انما هو نفسه يتكوّن من ملايين الوجوه الصغيرة غير المتداخلة بشكل غير مرئيّ حتى يبدو للناظر كأنه وجه واحد. ففي هويتنا مثلا وجه عربيّ، و وجه أمازيغيّ، و وجه اسلاميّ، لعلها أبرز الوجوه و أكبرها مساحة، و بها تتلوّن هويتنا أكبر تلون، لكن لا يمكن نسيان بعض الوجوه الاخرى فقط لأنها صغيرة لا تكاد ترى، كالجرمانية مثلا، او الفندالية، فنحن لا نلحظ في ثقافتنا أي طابع "فنداليّ"، لكن هناك يقين أن هذا الوجه هنا، في مكان ما من انفسنا و عاداتنا... لكنّ الوجه العربيّ أو الاسلاميّ ليسا مسطحين تماما، بمعنى ليسا خالصين، بل إن كلا منهما خليط دقيق من الوجوه المجهرية التي لا تكاد ترى، فوجهنا الاسلاميّ قد لا يخلو من عادات و طقوس ذات أصول يهودية، بل وثنيّة أحيانا، و هذا لعله موضوع آخر، و وجهنا العربي هو خليط من الوجه اليمانيّ، و الشآميّ، و ربما الآشوريّ، و الفينيقيّ، و العبرانيّ...
هذه حقيقة هويتنا، معقدة، مركبة، ضخمة، عسيرة الاستيعاب، حيّة، متحركة، متشكلة بتشكل الاحوال و المجتمعات. فما الذي يجعلنا نرفع لواء وجه دون غيره، و ما الذي يجعلنا نرفض وجها دون آخر و هو فينا؟
أمين معلوف الذي انطلقت من كتابه (الهويات القاتلة) في بداية حديثي، لم يهتم كثيرا بطابع الهوية الجماعية المركب و الديناميكي، و انما تحدث عن ذلك في بداية الكتاب كميزة لهويّة "كل فرد" فينا، و خلص في النهاية إلى استنكار ضرورة الانتماء الى "هوية" (يقصد وجه من وجوه الهوية) ما دون غيرها، و رأى أن ليس على الشخص الافتخار بأن يكون عربيا أو كرديا أو تركيا، فهو لم يختر ذلك، و مهما تكن هويته فسيفخر بها و هو ما يجعل هذا الفخر سخيفا. مع ذلك، قدم في قالب حديثه عن الهوية الجماعية (الثقافة) تفسيرا واضحا لهذه الظاهرة.
يقول بن خَلدون "الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران" و لأن كل حاجة اجتماعية (كالتكاثر) تقابلها حاجة نفسية (كالحبّ) تدفع الانسان إلى تحقيق الاولى، فحاجة الانسان إلى الاجتماع، تفرض عليه الحاجة إلى الانتماء، و لا يوجد انسان قادر على التخلص من الحاجة إلى الانتماء. أنت تبحث أن تنتمي إلى أشياء بسيطة جدا، موسيقى الفلامنكو، فريق كرة قدم، جمعية خيرية، كارهو اللون الرماديّ، أحباء الننتاندو، أو كارهو الـiPhone، لذلك، ستفرح كثيرا حينما تقدم الـplaystation لعبتها الجديدة، أو ستضحك كثيرا على النسخة الجديدة من الـwii، ستغني بفخر آخر أهازيج جماهير اليوفي، لأن الفخر ليس المعنيّ بحد ذاته، و انما النشوة التي يحدثها الانتماء.. و يمكن لذلك أن نسوق ذات المعنى على عظيم الامور : الانتماء إلى حزب سياسي، إلى مذهب دينيّ، إلى فلسفة، إلى وطن، إلى عرق، إلى لغة، الخ.. الانتماء فطريّ في الانسان و لا يمكن أن يرفضه عاقل. و لأن التعصب هو اسراف في الانتماء، فلا يمكن الحكم على شيء من خلال الاسراف فيه، فالاسراف في كل شيء سيء و مضرّ، اما لماذا يحدث الاسراف في الانتماء فهذا ما سأعود إليه لاحقا.
لكنّ حاجة الانتماء، تقابلها حاجة أخرى يمارسها الانسان بكل امتياز، ألا و هي الحاجة للتميّز. و الحاجة للتميّز هي حاجة الانسان الفطرية لأن يشعر بذاته الفرد. لأن لا يذوب وسط الجمع الذي ينتمي إليه. لذلك فالانسان في خضم نخوته بالانتماء لجماعة، يبحث أيضا عمّا يميّزه عنهم. و في هذا التواتر بين التميّز و الانتماء، تتكون شخصية الانسان، اما ثائرا مفرطا في ثورته عن جماعته حتى ينعزل، و اما ذائبا تماما وسط القطيع، منسحبا مع التيار ناسيا وجوده الفرد تماما، و اما على شيء من التوازن بين هذا و ذاك.
و لأن الحاجة البشرية إلى الانتماء و التميّز فطرية بالاساس، فالمفرط في ثورته، سيبحث عن الانتماء إلى جماعة أخرى غريبة عما حوله، سيبحث عن تلك الجماعة في عالم آخر، أو تاريخ آخر، أو جنس آخر، أو لغة أخرى... و الذائب في تيار الجماعة، ستمرّ به لحظات كثيرة من الشك و التفكير بذاته الغارقة، فيرهبه البعد، و ترهبه المحاولة، فيعود إلى السطح مرتبكا "مستغفرا" من أحساسيسه... قد اذهب الى اعتبار أن الدول الشيوعية، بالغت في طمس فعل التميّز و تضخيم فعل الانتماء، بينما حاولت الليبرالية قتل الانتماء و التكريس "لأنا و من بعدي الطوفان"، لكنّ هذا سيجرّنا إلى متاهات لا يتحمّلها حديثنا.
ان هذه الطبيعة البشرية المتأرجحة بين التميّز و التماهي، بين التمرد و الانتماء، تجعل من المحال أن يتوحد البشر تحت هوية واحدة، او ثقافة واحدة، مهما كانت متعددة الاوجه مركبة، سيظل دوما هناك اختلاف باختلاف المناخ، و التاريخ، و المعتقد، و طريقة النطق، و غيرها. لكنّ العالم اليوم، مع تطور وسائل التواصل و الاعلام، بدأ يكوّن وسائل تلقي مشتركة، كالتلفاز و الانترنت، و من خلال هذه الوسائل، باتت ثقافة الآخر متاحة لكلّ مجتمع (تقريبا) و كلّ بيت، و لم يعد بعد المسافة حاجزا لتفاعلات ثقافية لا تقل أهمية عن التفاعلات التي تحدث في حالات الغزو، أو التواصل التجاريّ المكثف (و قد كانا أكثر الطرق التي كرّست للتلاقح الثقافي عبر التاريخ).. و لكنّنا حينما نتحدث عن التلاقح فإن هناك دوما مجتمعا سيفرض ثقافته على مجتمع آخر، و لو عبر من الثاني شيء إلى الاول. و هذا بالضبط ما يحدث اليوم. فوسائل التواصل لا تقدم ثقافة المجتمعات بصفة متوازنة، و انما للأقوى الحظُ الأوفرُ، و هذا لعمري أمر طبيعيّ، لكنّ نتائجه ليست طبيعية بالمرة. فالتلاقح الحضاريّ اليوم ليس عموديا فحسب، بل و سريعا إلى درجة تفوق الاستيعاب أحيانا. ما الذي سيحدثُ إذا؟ ستحدثُ ردّة فعل قويّة تجاه ذلك. تبدأ بتضخم نزعة الانتماء إلى أحد وجوه ثقافة المجتمع المتلقي، تضخما كبيرا، قد يصل حد التعصب، و التطرف أيضا.
تقدّم العولمة على أنها ثقافة مشتركة، قيم كونية، و مجمع لثراء التراث البشري و تراكماته، لكنّ الامر أبعد ما يكون عن الصورة المثالية التي تقدم. فلو اعتبرنا بموجب تعريفنا السابق للثقافة أن العولمة هي ثقافة العالم، فهي ككل ثقافة، متعددة الاوجه، و طبعا هناك وجه ما (أو أوجه) ستحتل أغلب المساحة، بينما تكون بعض الوجوه مجهرية تماما. لذلك يستقبل مجتمع ما هذه الثقافة الجامعة، على أنها مألوفة، فهو يرى فيها وجهه بوضوح، بينما لا يجد مجتمع آخر مساهمته فيها، فيعتبرها دخيلة، و في غالب الاحيان مخالفة لثقافته، فيعاديها و يرفضها، خصوصا حينما تلعب عناصر أخرى غير الثقافة دورا في هذا العداء (كالمصالح الاقتصادية).
و لكن هذا التفسير لا يمكن أن ينطبق طبعا على كل حالات التعصب الثقافيّ، لأن الامر معقد و تتداخل فيه امور كثيرة، لكنّه دوما الاحساس بالتهديد هو ذاك الذي يدفع للتعصب. الخوف كان و لا يزال المفتاح. خوف الغجر من الذوبان في الاوطان التي تأويهم، تجعلهم منغلقين على ثقافتهم، خوف اليهود من زوال ثقافتهم جعلتهم أكثر المجتمعات انغلاقا، خوف البريطونيين من ذوبان ثقافتهم في الثقافة الفرنسية، جعلتهم ينغلقون على انفسهم، كذلك المطالبات بالاستقلال في اسبانيا، أغلبها رفض لاسقاط الثقافة القشتالية اسقاطا عليهم، فلكل منهم لغته و مكوّنات هويته. و مادام لا يرى في القشتالية شيئا من مساهمته هو، فلا يمكن أن يتقبلها.
و لأن عالم اليوم، يجعل من التواصل حتميا، فإن هذا التهديد قائم لكل الثقافات بلا استثناء. فما الحل اذا؟ المساهمة! قواعد اللعبة سهلة : دافع عن ثقافتك، انشر ثقافتك، ستجد انعكاسها في ثقافة العالم، و لن تبدوَ حينئذ هوية العالم غير مألوفة لناظريك، و ستتقبلها على أنها نابعة منك، و من ذاكرتك. حينما تنقذ ثقافتك من الذوبان، فانت تحقق حاجتك من التميز و الانتماء.
و لم الانتماء إلى ثقافة خاسرة؟ لماذا الانتماء إلى وجه مجهري؟ اليس من الطبيعيّ ان تذوب ثقافات و تنشأ ثقافات جديدة؟ لأن الانسان ولد مختلفا عن اخيه الانسان، لأنه لو ذاب وسط ثقافة اخرى، فسيخسر العالم ثقافة كاملة بكل ما فيها من قيم و افكار و فلسفة و رؤى مختلفة للعالم. لقد جُعل الانسان شعوبا لتعارف فيما بينها، و تتواصل و تتبادل الافكار و الرؤى و الفلسفات، و ما يجعل هذا ممكننا هو اختلاف هذه الشعوب. إنه سرّ اختلافنا و اجتماعنا.
لقد خلص أمين معلوف أن جهود الامم في الدفاع عن هوياتها مردها الخوف من الذوبان و التلاشي، لكنه ـ ربما لعدم اقراره بحاجة الانسان الفطرية للانتماء و التميز ـ لم يخلص إلى مشروعية هذا الدفاع. أن تدافع فرنسا على لغتها من الغزو الانكليزي، لا يعني قط ان تحارب اللغة الانكليزية، بل هي تحاول ان تحتويها في قالبها الفرنسيّ، يساعدها في ذلك تقارب اللغتين، و اليوم و ان طرأت كلمات انكليزية كثيرة على اللغة الفرنسية، فإن عدد الكتب المترجمة من الانكليزية الى الفرنسية، و قدرة فرنسا على الانتاج الثقافيّ، تحد كثيرا من ذلك. كما أن تأثير الثقافة الفرنسية على الامريكية حول الكثير من الثقافة الفرنسية إلى الثقافة العالمية المشتركة.
رغم كل ذلك، و رغم حجم التأثير الثقافي الفرنسي على العالم، أجد نفسي جالسا امام عجوزين فرنسيين في أحد ضواحي باريس، اواخر تشرين، بينما الرجل يسأل المرأة : "لكن هذا "الهالوين" ليس من عاداتنا. لماذا علينا الاحتفال به؟"
ان هذا التطلع للمشاركة في الهوية الجماعية، ترنو إليه كل الشعوب و اكثرها تأثيرا في العالم، و لأنني سقت فرنسا مثالا، فلاواصل و لأسق مثال اللجنة الاولمبية العالمية، التي اسسها الفرنسيّ بيار دي كوبرتان، فأصرت فرنسا أن تظل اللجنة معتمدة على الفرنسية كلغة رسمية لها. انها البصمة التي تريد ان تتركها. انه الوجه الذي تريد أن تراه في الهوية العالمية، حتى تتقبله كاملا كأنه منها.
لكنني قبل أن اختم، أعتقد أن عليّ العودة إلى عالمنا الصغير، نحن العرب مثلا، مادمت اسوق الحديث بلغة الضاد، كي أبيّن أننا على اختلافاتنا الكثيرة بفعل المكان و الزمان و الاحداث، فما يجمعنا كثير، لم يزد ما حصل في المنطق مؤخرا الا تأكيده : فبمجرد هبوب رياح الثورة في تونس، تبعتها مصر، فاليمن، فليبيا فسوريا، و عمت الاحتجاجات كامل المنطقة العربية، و ان نجح بعضها في قلب النظام و فشل آخرون، لكن كان ذلك دليلا ان همومنا واحدة و ما يحركنا واحد. بل اننا نعاني الالم ذاته، و ربما دواؤنا سيكون واحدا. فصغتُ هذا الحديث في الهوية، لأبين من نحن، و ما نبغي، أو على الاقل ما ينبغي أن نبغيه. و خلصتُ أن اختلافاتنا طبيعية، و ان اجتماعنا طبيعيّ ايضا، و ان خوفنا شرعيّ، و حقنا في الدفاع عما يجمعنا ليس فيه ما يصمُ، لأن انقاذ العروبة، هو انقاذ لأحد وجوه الهوية العالمية الاكثر ثراء.
إن الهوية قاتلة بقدر ما هي مقتولة، و لا يمكن التخلص من التطرف و التعصب الا بمحاربة الخوف أولا. حينها، لن تقدر الاصوات الجاهلة و الحمقاء أن تؤثر قيد انملة في الشعوب. لأن الفطرة سوية.
كما تعظم بعض الوجوه و يكبر سطحها مقارنة ببعض الوجوه الاخرى التي قد لا تكاد تُرى لولا بعض كلمات متسللة إلى اللغة، أو بعض آثار لا تزال صامدة بوجه الزمن.. و كي نقترب أكثر بمثال الشكل المتعدد الاوجه لشكل الهوية، يجب الاشارة أنّ كل وجه من وجوه الهوية، ليس "مسطّحا" تماما و انما هو نفسه يتكوّن من ملايين الوجوه الصغيرة غير المتداخلة بشكل غير مرئيّ حتى يبدو للناظر كأنه وجه واحد. ففي هويتنا مثلا وجه عربيّ، و وجه أمازيغيّ، و وجه اسلاميّ، لعلها أبرز الوجوه و أكبرها مساحة، و بها تتلوّن هويتنا أكبر تلون، لكن لا يمكن نسيان بعض الوجوه الاخرى فقط لأنها صغيرة لا تكاد ترى، كالجرمانية مثلا، او الفندالية، فنحن لا نلحظ في ثقافتنا أي طابع "فنداليّ"، لكن هناك يقين أن هذا الوجه هنا، في مكان ما من انفسنا و عاداتنا... لكنّ الوجه العربيّ أو الاسلاميّ ليسا مسطحين تماما، بمعنى ليسا خالصين، بل إن كلا منهما خليط دقيق من الوجوه المجهرية التي لا تكاد ترى، فوجهنا الاسلاميّ قد لا يخلو من عادات و طقوس ذات أصول يهودية، بل وثنيّة أحيانا، و هذا لعله موضوع آخر، و وجهنا العربي هو خليط من الوجه اليمانيّ، و الشآميّ، و ربما الآشوريّ، و الفينيقيّ، و العبرانيّ...
هذه حقيقة هويتنا، معقدة، مركبة، ضخمة، عسيرة الاستيعاب، حيّة، متحركة، متشكلة بتشكل الاحوال و المجتمعات. فما الذي يجعلنا نرفع لواء وجه دون غيره، و ما الذي يجعلنا نرفض وجها دون آخر و هو فينا؟
أمين معلوف الذي انطلقت من كتابه (الهويات القاتلة) في بداية حديثي، لم يهتم كثيرا بطابع الهوية الجماعية المركب و الديناميكي، و انما تحدث عن ذلك في بداية الكتاب كميزة لهويّة "كل فرد" فينا، و خلص في النهاية إلى استنكار ضرورة الانتماء الى "هوية" (يقصد وجه من وجوه الهوية) ما دون غيرها، و رأى أن ليس على الشخص الافتخار بأن يكون عربيا أو كرديا أو تركيا، فهو لم يختر ذلك، و مهما تكن هويته فسيفخر بها و هو ما يجعل هذا الفخر سخيفا. مع ذلك، قدم في قالب حديثه عن الهوية الجماعية (الثقافة) تفسيرا واضحا لهذه الظاهرة.
يقول بن خَلدون "الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران" و لأن كل حاجة اجتماعية (كالتكاثر) تقابلها حاجة نفسية (كالحبّ) تدفع الانسان إلى تحقيق الاولى، فحاجة الانسان إلى الاجتماع، تفرض عليه الحاجة إلى الانتماء، و لا يوجد انسان قادر على التخلص من الحاجة إلى الانتماء. أنت تبحث أن تنتمي إلى أشياء بسيطة جدا، موسيقى الفلامنكو، فريق كرة قدم، جمعية خيرية، كارهو اللون الرماديّ، أحباء الننتاندو، أو كارهو الـiPhone، لذلك، ستفرح كثيرا حينما تقدم الـplaystation لعبتها الجديدة، أو ستضحك كثيرا على النسخة الجديدة من الـwii، ستغني بفخر آخر أهازيج جماهير اليوفي، لأن الفخر ليس المعنيّ بحد ذاته، و انما النشوة التي يحدثها الانتماء.. و يمكن لذلك أن نسوق ذات المعنى على عظيم الامور : الانتماء إلى حزب سياسي، إلى مذهب دينيّ، إلى فلسفة، إلى وطن، إلى عرق، إلى لغة، الخ.. الانتماء فطريّ في الانسان و لا يمكن أن يرفضه عاقل. و لأن التعصب هو اسراف في الانتماء، فلا يمكن الحكم على شيء من خلال الاسراف فيه، فالاسراف في كل شيء سيء و مضرّ، اما لماذا يحدث الاسراف في الانتماء فهذا ما سأعود إليه لاحقا.
لكنّ حاجة الانتماء، تقابلها حاجة أخرى يمارسها الانسان بكل امتياز، ألا و هي الحاجة للتميّز. و الحاجة للتميّز هي حاجة الانسان الفطرية لأن يشعر بذاته الفرد. لأن لا يذوب وسط الجمع الذي ينتمي إليه. لذلك فالانسان في خضم نخوته بالانتماء لجماعة، يبحث أيضا عمّا يميّزه عنهم. و في هذا التواتر بين التميّز و الانتماء، تتكون شخصية الانسان، اما ثائرا مفرطا في ثورته عن جماعته حتى ينعزل، و اما ذائبا تماما وسط القطيع، منسحبا مع التيار ناسيا وجوده الفرد تماما، و اما على شيء من التوازن بين هذا و ذاك.
و لأن الحاجة البشرية إلى الانتماء و التميّز فطرية بالاساس، فالمفرط في ثورته، سيبحث عن الانتماء إلى جماعة أخرى غريبة عما حوله، سيبحث عن تلك الجماعة في عالم آخر، أو تاريخ آخر، أو جنس آخر، أو لغة أخرى... و الذائب في تيار الجماعة، ستمرّ به لحظات كثيرة من الشك و التفكير بذاته الغارقة، فيرهبه البعد، و ترهبه المحاولة، فيعود إلى السطح مرتبكا "مستغفرا" من أحساسيسه... قد اذهب الى اعتبار أن الدول الشيوعية، بالغت في طمس فعل التميّز و تضخيم فعل الانتماء، بينما حاولت الليبرالية قتل الانتماء و التكريس "لأنا و من بعدي الطوفان"، لكنّ هذا سيجرّنا إلى متاهات لا يتحمّلها حديثنا.
ان هذه الطبيعة البشرية المتأرجحة بين التميّز و التماهي، بين التمرد و الانتماء، تجعل من المحال أن يتوحد البشر تحت هوية واحدة، او ثقافة واحدة، مهما كانت متعددة الاوجه مركبة، سيظل دوما هناك اختلاف باختلاف المناخ، و التاريخ، و المعتقد، و طريقة النطق، و غيرها. لكنّ العالم اليوم، مع تطور وسائل التواصل و الاعلام، بدأ يكوّن وسائل تلقي مشتركة، كالتلفاز و الانترنت، و من خلال هذه الوسائل، باتت ثقافة الآخر متاحة لكلّ مجتمع (تقريبا) و كلّ بيت، و لم يعد بعد المسافة حاجزا لتفاعلات ثقافية لا تقل أهمية عن التفاعلات التي تحدث في حالات الغزو، أو التواصل التجاريّ المكثف (و قد كانا أكثر الطرق التي كرّست للتلاقح الثقافي عبر التاريخ).. و لكنّنا حينما نتحدث عن التلاقح فإن هناك دوما مجتمعا سيفرض ثقافته على مجتمع آخر، و لو عبر من الثاني شيء إلى الاول. و هذا بالضبط ما يحدث اليوم. فوسائل التواصل لا تقدم ثقافة المجتمعات بصفة متوازنة، و انما للأقوى الحظُ الأوفرُ، و هذا لعمري أمر طبيعيّ، لكنّ نتائجه ليست طبيعية بالمرة. فالتلاقح الحضاريّ اليوم ليس عموديا فحسب، بل و سريعا إلى درجة تفوق الاستيعاب أحيانا. ما الذي سيحدثُ إذا؟ ستحدثُ ردّة فعل قويّة تجاه ذلك. تبدأ بتضخم نزعة الانتماء إلى أحد وجوه ثقافة المجتمع المتلقي، تضخما كبيرا، قد يصل حد التعصب، و التطرف أيضا.
تقدّم العولمة على أنها ثقافة مشتركة، قيم كونية، و مجمع لثراء التراث البشري و تراكماته، لكنّ الامر أبعد ما يكون عن الصورة المثالية التي تقدم. فلو اعتبرنا بموجب تعريفنا السابق للثقافة أن العولمة هي ثقافة العالم، فهي ككل ثقافة، متعددة الاوجه، و طبعا هناك وجه ما (أو أوجه) ستحتل أغلب المساحة، بينما تكون بعض الوجوه مجهرية تماما. لذلك يستقبل مجتمع ما هذه الثقافة الجامعة، على أنها مألوفة، فهو يرى فيها وجهه بوضوح، بينما لا يجد مجتمع آخر مساهمته فيها، فيعتبرها دخيلة، و في غالب الاحيان مخالفة لثقافته، فيعاديها و يرفضها، خصوصا حينما تلعب عناصر أخرى غير الثقافة دورا في هذا العداء (كالمصالح الاقتصادية).
و لكن هذا التفسير لا يمكن أن ينطبق طبعا على كل حالات التعصب الثقافيّ، لأن الامر معقد و تتداخل فيه امور كثيرة، لكنّه دوما الاحساس بالتهديد هو ذاك الذي يدفع للتعصب. الخوف كان و لا يزال المفتاح. خوف الغجر من الذوبان في الاوطان التي تأويهم، تجعلهم منغلقين على ثقافتهم، خوف اليهود من زوال ثقافتهم جعلتهم أكثر المجتمعات انغلاقا، خوف البريطونيين من ذوبان ثقافتهم في الثقافة الفرنسية، جعلتهم ينغلقون على انفسهم، كذلك المطالبات بالاستقلال في اسبانيا، أغلبها رفض لاسقاط الثقافة القشتالية اسقاطا عليهم، فلكل منهم لغته و مكوّنات هويته. و مادام لا يرى في القشتالية شيئا من مساهمته هو، فلا يمكن أن يتقبلها.
و لأن عالم اليوم، يجعل من التواصل حتميا، فإن هذا التهديد قائم لكل الثقافات بلا استثناء. فما الحل اذا؟ المساهمة! قواعد اللعبة سهلة : دافع عن ثقافتك، انشر ثقافتك، ستجد انعكاسها في ثقافة العالم، و لن تبدوَ حينئذ هوية العالم غير مألوفة لناظريك، و ستتقبلها على أنها نابعة منك، و من ذاكرتك. حينما تنقذ ثقافتك من الذوبان، فانت تحقق حاجتك من التميز و الانتماء.
و لم الانتماء إلى ثقافة خاسرة؟ لماذا الانتماء إلى وجه مجهري؟ اليس من الطبيعيّ ان تذوب ثقافات و تنشأ ثقافات جديدة؟ لأن الانسان ولد مختلفا عن اخيه الانسان، لأنه لو ذاب وسط ثقافة اخرى، فسيخسر العالم ثقافة كاملة بكل ما فيها من قيم و افكار و فلسفة و رؤى مختلفة للعالم. لقد جُعل الانسان شعوبا لتعارف فيما بينها، و تتواصل و تتبادل الافكار و الرؤى و الفلسفات، و ما يجعل هذا ممكننا هو اختلاف هذه الشعوب. إنه سرّ اختلافنا و اجتماعنا.
لقد خلص أمين معلوف أن جهود الامم في الدفاع عن هوياتها مردها الخوف من الذوبان و التلاشي، لكنه ـ ربما لعدم اقراره بحاجة الانسان الفطرية للانتماء و التميز ـ لم يخلص إلى مشروعية هذا الدفاع. أن تدافع فرنسا على لغتها من الغزو الانكليزي، لا يعني قط ان تحارب اللغة الانكليزية، بل هي تحاول ان تحتويها في قالبها الفرنسيّ، يساعدها في ذلك تقارب اللغتين، و اليوم و ان طرأت كلمات انكليزية كثيرة على اللغة الفرنسية، فإن عدد الكتب المترجمة من الانكليزية الى الفرنسية، و قدرة فرنسا على الانتاج الثقافيّ، تحد كثيرا من ذلك. كما أن تأثير الثقافة الفرنسية على الامريكية حول الكثير من الثقافة الفرنسية إلى الثقافة العالمية المشتركة.
رغم كل ذلك، و رغم حجم التأثير الثقافي الفرنسي على العالم، أجد نفسي جالسا امام عجوزين فرنسيين في أحد ضواحي باريس، اواخر تشرين، بينما الرجل يسأل المرأة : "لكن هذا "الهالوين" ليس من عاداتنا. لماذا علينا الاحتفال به؟"
ان هذا التطلع للمشاركة في الهوية الجماعية، ترنو إليه كل الشعوب و اكثرها تأثيرا في العالم، و لأنني سقت فرنسا مثالا، فلاواصل و لأسق مثال اللجنة الاولمبية العالمية، التي اسسها الفرنسيّ بيار دي كوبرتان، فأصرت فرنسا أن تظل اللجنة معتمدة على الفرنسية كلغة رسمية لها. انها البصمة التي تريد ان تتركها. انه الوجه الذي تريد أن تراه في الهوية العالمية، حتى تتقبله كاملا كأنه منها.
لكنني قبل أن اختم، أعتقد أن عليّ العودة إلى عالمنا الصغير، نحن العرب مثلا، مادمت اسوق الحديث بلغة الضاد، كي أبيّن أننا على اختلافاتنا الكثيرة بفعل المكان و الزمان و الاحداث، فما يجمعنا كثير، لم يزد ما حصل في المنطق مؤخرا الا تأكيده : فبمجرد هبوب رياح الثورة في تونس، تبعتها مصر، فاليمن، فليبيا فسوريا، و عمت الاحتجاجات كامل المنطقة العربية، و ان نجح بعضها في قلب النظام و فشل آخرون، لكن كان ذلك دليلا ان همومنا واحدة و ما يحركنا واحد. بل اننا نعاني الالم ذاته، و ربما دواؤنا سيكون واحدا. فصغتُ هذا الحديث في الهوية، لأبين من نحن، و ما نبغي، أو على الاقل ما ينبغي أن نبغيه. و خلصتُ أن اختلافاتنا طبيعية، و ان اجتماعنا طبيعيّ ايضا، و ان خوفنا شرعيّ، و حقنا في الدفاع عما يجمعنا ليس فيه ما يصمُ، لأن انقاذ العروبة، هو انقاذ لأحد وجوه الهوية العالمية الاكثر ثراء.
إن الهوية قاتلة بقدر ما هي مقتولة، و لا يمكن التخلص من التطرف و التعصب الا بمحاربة الخوف أولا. حينها، لن تقدر الاصوات الجاهلة و الحمقاء أن تؤثر قيد انملة في الشعوب. لأن الفطرة سوية.
فاروق الفرشيشي
17 ايلول (سبتمبر) 2012
No comments:
Post a Comment