Sunday, September 9, 2012

حديث في الهوية ـ 2 ـ

هذا ليس تدوينة مفردة، انما تكملة للحديث السابق بخصوص الهوية. و هو حديث ـ على قصره ـ لا يلخّص، و الاسلم أن تبذل أصابعك شيئا من الجهد و تنزل الى التدوينة السابقة، و كن واثقا أنها لن تأخذ منك وقتا أكثر من زمن استهلاك سيجارة...


و التدوينة السابقة توقفت عند الاسئلة التي طرحها التونسيون، كما المصريون و غيرهما من الدول العربية، بخصوص الهوية. و لعلّ مسألة الهوية من نوادر المسائل التي يكون فيها السؤال أسهل من الاجابة. فلكل اجابة واثقة و معتدّة بذاتها، أسئلة تقصمها، و تفتت غرورها. كأن يقول أحدهم (التونسيين) "نحن عرب."، فماذا عن الاتراك الذين يملأون المدن العتيقة؟ و ماذا عن الذين وجد آباؤهم في هذه البلاد من قبل أن يأتيَ العرب أصلا إلى هنا؟ أنطردهم جميعا من حاء "نحن" و نحصر المعنى في شراييننا؟ ثم من "العرب" أصلا؟ بنو هلال؟ بنو رياح؟ لو خضنا في مسألة الأعراق لتراءت لنا حقيقتان بديهيتان قد تفزعان كل قوميّ متعصّب : هل كان الرسول صلى الله عليه و سلم عربيا؟ هو من قريش طبعا، لكنّ نسبه ينتهي عند إبراهيم عليه السلام، فمن أي القبائل العربية كان إبراهيم؟ و لو أن من نسله جاء بنو إسرائيل، فهم عربٌ أيضا. و حينما نوغل في هذا المعنى يَعرض السؤال الثاني : فماذا كان أوّل العرب؟ و ماذا كان أول البشر؟ أليس العرق واحدا؟
هنا يمتدّ لسان أحدهم بالاجابة : انما نعني الثقافة العربية. فهل الثقافة العربية كافية لتعريفنا؟ و ماهي الثقافة العربية؟ هل هي المعلقات السبع، و كرم حاتم الطائي، و وفاء السموأل، و حكمة قسّ بن ساعدة، و حرب داحس و الغبراء، و أصنام قريش، و اسماء الابل التي لا تنتهي؟ فماذا عن اسقفية الاسكندرية؟ و ماذا عن خبز "الطابونة"، و الكسكسي المغاربي؟ و ماذا عن الطربوش التركي، و الحلوى الحلبيّة، و موسيقى الراي الجزائرية، و ما تبقى في بغداد من الرقوق الآشورية الثمينة؟ حتى في قلب شبه الجزيرة العربية، مالعربيّ في معمار الرياض و جدّة اليوم؟ حتى معمار المدينة المنوّرة بل المسجد النبويّ نفسه، ستجد خبراء يدلونك عن تفاصيله ذات الاصول الفارسية او البيزنطية.

ما الذي يعنيه كل هذا؟ يعني أن الهوية الجماعية ليست قالبا تماما كما الفرد، و انها ايضا مركبة، خليط من روافد أخرى كثيرة، او ربما للدقة تراكمات لا تنتهي يرسّخها التاريخ يوما بعد يوما، و الا فما الذي يفرّق بين مصريّ و ليبيّ مثلا؟ أليست الاصول اللوبية التي تختلف حتما عن الاصول المصرية الفرعونية؟ و ما الذي يجعل لبنان اقرب شبها للفلسطينيّ من البحرينيّ؟ أليس تاريخ الفينيقيين المجيد الذي جمع بين تلك الربوع قبل ازدهار الثقافة العربية فيها؟

و بهذا المعنى، يمكن هدم كل محاولة لاختصار الهوية الجماعية في دين أو عرق أو لغة أو ثقافة من الثقافات الرافدة (هذه الثقافات الرافدة نفسها خليط من ثقافات مركبة اخرى)، و لن تبقى سوى عبارة وحيدة : نحن تونسيون، نحن جزائريون، نحن عراقيون أو اماراتيون أو سعوديون. 
و هي في الواقع عبارة شديدة الالتصاق بالارض و الزمن، فالغجر بهذا القول لا هوية لهم، و اليهود أيضا (أعني بني اسرائيل طبعا)، كما أن بن دارفور كان بالامس سودانيا، فتحول بجرّة قلم إلى جنوبيّ!
و لو اقتربنا أكثر مما نسميه "هويّة تونسية" فسيحيّرنا الاقتراب، و سيزيد من أسئلتنا، يقال إن لغتنا العربية، و يقال إن لنا لغة بذاتها يمكن أن نسميها "تونسية"، فكيف نقول "أنا" بتونسيتنا؟ على الطريقة العاصمية؟ أم "آني" على الطريقة الساحلية؟ ام "أني" كما يقول أهل قابس؟ أم "نايا" و هو المصطلح المستعمل في اغلب ارياف الشمال؟ ثمّ إننا لو اقتربنا من الحدود الليبية، فسيطالعنا السؤال : مالذي يجعل هذه الاماكن تونسية لا ليبية غير التقسيم الاداري؟ فلهجتهم أقرب إلى الليبيين من تونسيي الشمال، و بالمنطق نفسه، سنجد اهل بنغازي اقرب للمصريين منهم الى الليبيين، أو لعلّه العكس.

هكذا تسقط افكارنا الصماء بخصوص الهوية الجماعية، و هكذا توجّب علينا اعادة تشكيل مفهوم الثقافة (اي الهوية الجماعية) بالبحث مرة اخرى، عن منطلق جديد. لكنّ المنطلق هنا، موجود منذ البدء، و ان اسأنا استخدامه. ألم نقل منذ البداية، إن هوية الجماعة كهوية الفرد في خصائصها؟ لم لا ننطلق من الفرد لنقيس على الجماعة؟ أين أجد فردا أسوقه مثالا؟ 
هل قال أحدكم "انظر الى المرآة"؟

انا لستُ ربع مهندس، أنا مهندسٌ كامل، هل يعني ذلك أنني أتماهى مع بقية المهندسين؟ حتما لا. ففضلا عن كوني مهندسا، فأنا "فرشيشيّ"، و حينما أقول إنني كذلك، فليس رأسي فرشيشيا، و لا يداي، بل انا كاملا، احمل كلي الصفتين. كنت أيضا طالبا بالجامعة. و كان عليّ ان اتعامل بشيء من الاحترام مع استاذة درستني، هي منذ سنتين صديقة لي تقريبا. حينما ينتهي الدرس، تنتهي هويتي كطالب و هويتها كمدرسة، و نعود صديقين.
و هويتي كطالب لا تنتفي و لا هويتي ككاتب أو كرئيس ناد جامعيّ، بل كل منها يتقدم على الاخر باختلاف الحال و الموقف دون ان يذهب أي منها دون رجعة.
و لو قسنا على ذلك، فأعتقد أن نصف مشاكلنا قد انزاحت جانبا، فنحن متوسطيون ان بحثنا عمّا يجمعنا بالايطاليين مثلا، و نحن عرب اذا بحثنا عن ما يميّزنا عنهم. نحن امازيغ ان اردنا التميز عن العرب، و نحن شرق ان اردنا التميّز عن الغرب. نحن تونسيون ان بحثنا ما يجمع بيننا و نحن "منازلية" و "قراوة" و "سواحلية" لو بحثنا في ما يميّزنا..

الثقافة شديدة الديناميكية، و هي و ان كانت واحدة فمتعددة الاوجه، بتعدد الناس الذين يمثلون الجماعة. و من الحمق نكران بعض الوجوه و ان كان وجها شاحبا أو لا يكاد يرى لضعف تأثيره.. خصوصا اذا كان تأثير ذلك "الوجه" ملحوظا في حياتنا. لذلك فمن ينكر وجهه الامازيغيّ من التونسيين، تعصبا لفكر قوميّ مثلا، هو شخص لا ينظر إلى نفسه جيدا في المرآة، و من يرفض وجهه العربيّ، لتعلات ايديولوجية أو ميتافيزيقية ضيقة، لا أظنه يملك مرآة أصلا...

و لأن الأمور لا تحلّ بهذه البساطة، فالاسئلة لا تكفّ عن الهطول، و تزداد ازعاجا كلما ازداد المرء توغّلا.. فالقول الاخير يشي بوجود ما يجمع بين الناس و ما يميّز بينهم، مهما اختلفت احوالهم و مهما بعدت المسافات ما بينهم. و مثال ذلك ما يجمع بين الاسبان و اهل امريكا اللاتينية من اللغة، و ما يجمع بين اليابانيين و الامريكيين من حب كرة القاعدة (البايزبول)، و قد تكون العلاقة أكثر عمقا و اثارة للحيرة، مثلما يشهد بذلك التشابه المريب بين اهرامات الجيزة في مصر و اهرامات الازتيك في المكسيك.. فللتاريخ أيضا خباياه بخصوص حقيقتنا... و لأن الانسان سيجد دوما ما يجمع بينه و بين الآخرين، فلِم يبحث عمّ يميّزه؟ ألم يكن ذلك مهدا لصراع الحضارات؟ أليست الهويات كما يقول معلوف "قاتلة" لتفريقها بين الناس و حملهم على التعصّب؟ ألا تمثل العولمة مخرجا من كل هذا؟ و هل هويتنا او هوياتنا هي سبب تخلفنا و نكبتنا؟





(يتبع)

No comments:

Translate