مملكة
النمل، حلم المخرج التونسي شوقي الماجري أخيرا في القاعات. معاناة طويلة
عرفها الرجل، كي يتمكن من تصوير الفيلم، ليس أيسرها جمع المال الكافي
للانتاج.
مملكة النمل، قيل عنه الكثير، و سبق اسمه كتابته، و سبق
الحديث عنه، حديثه. و بات الانتظار مشوبا بشيء من الخوف من الاحباط.
الاحباط ديدن الاعمال التي تنتظر منها الكثير. خصوصا أن شوقي الماجري
انطلاقا من أعماله الدرامية ( التي شاهدتها على الاقل) جدّ مؤهل لذلك (يمكن
أن نذكر "هدوء نسبي" كمثال قويّ لذلك.) لكن، مع كل ذلك، قتل الفضول القطة كما يقولون، لم أجرؤ أن أضنّ على نفسي بعمل انتظرته منذ سنوات في الواقع..
الانطباع؟
الفيلم بدا لي أشبه بومضة اشهارية عن المعاناة الفلسطينية. ومضة طويلة
جدا، لكنها ومضة : اتقان في الشكل، التزام بالفكرة الواحدة، و وضوح في
الرسالة. شيء أشبه بومضات : الارهاب لا دين له. لكن تجمع بينها علاقات
عضوية : الشخصيات مثلا. كل ومضة تصوّر موقفا ما : مشهد العرس في المغارة.
مشهد العريس في الشارع، مشهد الأطفال في المدرسة، مشهد الدفن، مشهد السجن.
كلها مشاهد مستقلة بذاتها، يمكن أن تقدم بمفردها رسالة بليغة و واضحة.
ما يُلزم الومضة، ان الدراما تغيب في الشخصيات، لا تتطور الشخصية، و لا
تتغير، هي صورة ثابتة، تقدم فكرة واضحة، ترمز إلى صورة ما. و هو ما يتجلى
تماما في الفيلم. الجد بدأ منقبا بين الرفات، و انتهى كذلك. و الجد بدأت
عبوسا تحمل مأساة فلسطين البكر، و ظلت كذلك، الزوجان بدآ بالحلم، و انتهيا
به، الجندي الاسرائيلي، بدأ جنديا كل همه أن يجعل الحياة مستحيلا و انتهى
كذلك. ربما صبا مبارك هي الشخصية الوحيدة التي شذت عن القاعدة و لو قليلا. و
هو ما جعلها شخصية أكثر حيوية و أكثر عمقا (بقليل)..
أسلوب
الومضة هذا، أضر بنظري بالعمل كثيرا. بدا، أبعد عن الدراما السينمائية، و
بسّط كثيرا من الشخصيات فيها : الفلسطينيون ملائكة على وجه الأرض. بسطاء،
احلامهم جميلة و بسيطة، ثقافتهم الفن و الحياة. الاسرائيليون : الاشرار،
يقتلون بدم بارد، ثقافتهم الموت و الدمار. قد يعجب الأمر المشاهد العربي
المتحمس، لكنّه حتما سينفّر المشاهدَ الاوروبي الفضوليّ. فنّيا هو أمر سيء
جدا.
كما ذكرت، الشكل كان متقنا، لولا بعض الهنات الفنية البسيطة
(المشاعل عند مدخل المغارة يمكن ان ترى على بعد أميال، اصابة الطفل في قلبه
تلقي به في الحال، الجنود حينما اكتشفوا مدخلا للمغارة، لم يفكروا
باقتحامها.. الخ) و تصوير مشاهد حرب الشوارع، هي عادة ماجريّة محببة، برع
الرجل فيها و خبِر. لكنّ أكبر العيوب شكلا كانت الموسيقى، كانت فشلا تاما
برأيي، لم تقدم للفيلم شيئا، و كان من الممكن اعتماد موسيقى فلسطينية
بطريقة أكثر حرفية و مهارة وسط الفيلم.
صبا مبارك، كانت من أجمل
ما ظهر في الفيلم تقريبا، و قد حاول المخرج تقديمها في صورة شاعرية تخرج عن
الواقع المحيط بها، فهي جميلة في كامل زينتها دوما، متأنقة في أحلك
المواقف، إلى حدود تثير الغيظ أحيانا (حينما فجرت دلال نفسها) و أشياء
أخرى..
فكرة الفيلم نفسها ليست سيئة أبدا، صورة الفلسطينيّ الذي
بين امواته و تاريخه تحت الارض، لايزال يناضل من أجل أن يعيش، لا يزال
يمارس "الحياة" و يحتفل بها، كعنوان أعظم للجهاد و المقاومة. فكرة تحاول كل
"الومضات المتفرقة" تقديمها، لكن كما ذكرت، كل ومضة كانت "كافية" جدا. بدا
الفيلم و كأن الماجري، يملك فقط هذه الفكرة، و يحاول جاهدا أن يملأ منها
فيلما كاملا.. بعض الومضات كانت كلاسيكية جدا (في القدس، في المدرسة)،
بعضها رغم كونه كلاسيكيا، كان مؤثرا إلى حد كبير (زفة العريس في الشارع)،
بعضها كان بالفعل مبتكرا و رائعا و هنا أشير خصوصا إلى قصة التفاحة، التي
كانت من اجل مشاهد الفيلم. و مواطن الجمال هنا ثلاثة : المغارة (و قيل إنها
في تونس)، فلسطين (عاداتها الجميلة و فن الحياة فيها)، و صبا مبارك!
عموما، فالفيلم برأيي مخيّب، ليس فيه جديد تقريبا، لكنّه خير مذكّر لمن
ينسى، و هو بروباغندا لا بأس بها، فلا تبخلو على أنفسكم بمشاهدته، و لا
تبخلوا على العالم بمعرفة الحقيقة..
No comments:
Post a Comment