يسمح لنا الإصدار الجديد من فِلم كُثيب Dune بالتّفكّر في تأويليّة العملِ السّينمائيّ من منظور جديد. فتجزئته لفِلمَيْن لم يُنتج ثانيهما بعدُ، يجعلنا حائرين في التّعاملِ مع أوّلِهما. فهل هو فلمٌ قائمٌ بذاتِه أم تُراه مقدّمة سلسلةٍ من الأفلام؟
لا أعرف إن كان ضروريّا أن أقدّم عالم كُثيب الروائي/السينمائي، فقد أعاده فلمُ دُني فيلنوف Denis Villeneuve إلى الواجهة وجعل اسمَه على كلّ لسان، وأعاد معَه حكاية الفشلِ الأشهر في تاريخ هوليود. حكاية خودورفسكي وسلفادور دالي 1976، وحكاية ديفد لينش المُحبِطة مع الخيال العلمي 1984. لقد انتهى الجميع إلى حقيقةِ أنّ قصّة كُثيب أكثر كثافة وتعقيدا من أن يحتويها فلمٌ واحدٌ. إذ لا يتعلّق الأمرُ بقصّة پول أتريدس Paul Atreides وصراعِ عائلتهِ ضدّ آل هاركونن Harkonnen على ثروات كوكب الكثبان. بل تتجاوز ذلك لتبنيَ عالمًا متراميَ الأطراف في الزمان والمكان، ترتسمُ الشّخصيات فيه على أكثر من بعدَيْن، وتأخذُ حيّزا لأفعالِها ودوافِعها. هكذا، فإنّ كلَّ محاولةٍ لحشرِ فضاءِ "كُثيْب" في حيّزٍ سينمائيٍّ "تجاريٍّ"، تستدعي أسلوبَ الحذفِ البلاغيِّ في غير موضِعه، فمعَ كلِّ حدثٍ ينتقلُ من النصِّ إلى الشّاشةِ، تسقُط الدّوافعِ الّتي أدّت إليهِ، فيبدو للمُشاهدِ ضعيفَ التّبريرِ، واهنَ الارتباط بما يتبعه. وهو ما دعمتهُ تجربةُ ديفد لينش السّابق ذكرُها. وما كان لِـدُني فيلنوف أن يخوضَ المغامرةَ لولا تعلّقه الطّفوليّ بعالمِ فرانك هربرت Frank Herbert. فاستحدث لرغبتِه (ولرغبةِ المنتجين) صيغةً مجزّأةً مثيرةً للتساؤل.
يغطّي فلمُ فيلنوف مرحلةَ البدايةِ من قصّةِ الأميرِ پول أتريدس. أي، منذ زمن رحيله وعائلتِه عن كوكبه الأمّ واستقرارِه في كوكبِ الكثبانِ، إلى حدوثِ المؤامرةِ على أبيه وآلِه، ولجوئه إلى قومِ الفريمن Fremen. ورغم أنّ النهايةَ لا تخبر عن مآلِ عرشِ پول أتريدس، إلّا أنّ لغةَ الفلمِ تُنبئُ عنه: فقد عومِل الفتى منذُ البدايةِ بما يليقُ بالأنبياء، إمّا بحبٍّ خالصٍ أو بتقديرٍ خاصٍّ. ولا يجدُ فيهِ أصحابُ الرُّؤى والكراماتِ سوى حالةٍ استثنائيّةٍ تتجاوز اللامعقولَ. لقد وُلدَ بطلاً ولم يبق له سوى اجتياز الطّريقِ ومِحَنِه لتحقيقِ ذاتِه المغيّبةِ. إنّه توماس أندرسن الّذي سيصبحُ نيو، وهو الإسكندرُ الّذي سيصبح في نبؤاتِ العرّافين، ملكَ المشرقِ والمغربِ. لم يبخل فيلنوف البتّة في استعمال النبؤات لربط بطلِه بهذا التّصوّر الإسكندريِّ. كان هناك إفراطٌ في الرّؤى الّتي تنتاب پول، وماهي إلاّ ساعةٌ أو شهرٌ حتّى تتحقّق أمامه، كأنّ الواقعَ يتقوّضُ ثمّ يركع تحتَ إرادتِه. وإضافةً إلى منزلتِه بين الشخصياتِ، ورؤاهُ التنبّئيّة، تسير أحداثُ الفلمِ تحت وقعِ نغمةٍ قَدرِيّةٍ لا تُخطئها العينُ: لا أحد هنا يراوغ قدَره، لا الأبُ السائرُ نحو حتفِه في كوكب الكثبان وهو يدري بذلك، ويوصي خليلتَهُ بابنه. ولا المُقاتلُ دُنكن إداهو Duncan Idaho وهو يواجه نهايته بابتسامٍ. ولا قومُ الـFremen وهم يتابعُون قضاءَ صاحبِهم أمامهم على يدِ الغريب في تسليمٍ. أضعفت حتميّةُ الأقدارِ من تشويق الفلمِ، فمسارُ البطلِ يرتسمُ مُسبقا بدون ارتباك، تقريبا. أقول تقريبا لأنّ فيلنوف قام بمحاولةٍ أخيرة في النّهايةِ، كي يشتّت الأذهانَ، ويبعث شيئا من التّشويق وهو يستخدمُ ذاتَ الأدواتِ (الرؤى، النبؤة، الحتميّة القدريّة) ليعلن موت بطلِه قبل نزالِه ضدّ أحدِ رجال الفريمن. تتكرّر ذات الفكرةِ مع نيو في ماتركس لكن بمقدار اجتهادٍ أقلَّ. تُعلنُ الرّؤيا أن على پول أن يموت ليُبعث لسان الغيب، وفي الآن ذاته، تُسرُّ له أنّه إذا أخذ روحا، فكأنّما أخذ روحه. معادلةٌ سهلةٌ تسمحُ له أن يحقّق عكس ما رآهُ في الرؤيا، وأن يذعنَ لمشيئتها أيضا.
ما يهمُّنا من كلّ ذلك، أنّ لغةَ الفلمِ تُعبّرُ عن قدريّةٍ نعرفُ مسبقا أين ستفضي بنا، ولكنّنا لا نعرفُ كيف. بالتّالي، نقفُ حائرين أمام صورةِ البطلِ المرتسمةِ عندَ نهايةِ الفلمِ، لا نعرفُ هل اكتملتْ أركانُها أم لا تزال في بداياتها. ولكيْ تتّضحَ أبعادُ المعضلة، سنذهب قُدما في التّعامل مع "كثيب: الجزء الأول" كأنّه عملٌ فنيٌّ مكتملٌ قائمٌ بذاته. وسنحاول اقتفاء تصوّر البطلِ من خلالِه. ثمّ نعودُ إلى توقّعنا لأحداث الجزء الثاني، وكيف يغيّر اعتبارُه جزءا لا يتجزّأُ من العمل ككلّ، من تصوّرنا للبطلِ.
لا شكّ عندي أنّ فيلنوف أجاد اختيار بطله كما لم يفعل سابقوه. فقد أضحى الممثل الأمريكيّ تيموتي شالامي، أيقونة هوليوديّة للنّضارةِ وخصب الموهبةِ والرجولةِ الّتي لا تزال وعدًا. إنّه قمر الزّمان لهذا العصر، مزج من نعومة النبلاء وجاذبية الجامحين. وكذلك شخصيّةُ پول أتريدس في بدايةِ رحلتِه، وريثا للعرشِ، وولدًا ينبئُ نبوغُه بشأنٍ عظيمٍ. ولئن تحوّلت الشّخصيّةُ إلى منهلٍ للعديدِ من الملاحمِ القصصيّةِ العالميّةِ (لوك سكايوولكر في حرب النجوم، وغريفيث في رائعة كنتارو ميورا برسرك Berserk، وخصوصا راينهارد فون لوهنغرام بطل ملحمة أبطال المجرّة ليوشيكي تاناكا)، فإنّها لم تأتِ من فراغٍ، واستمدّت عناصِرَها من شخصيّاتٍ أخرى، لا شكّ أنّ لورنس العرب أشهرُها. وكما ساهم العميلُ القادمُ من الغربِ في إشعال فتيل الثورة العربية الصحراويّةِ في وجهِ الأتراكِ، جاء پول أتريدس ليقودَ شعب الكثبان ضدّ آل هاركونن. لكنّ لورنس العرب لم يكن نبيلاً، ولم يكن له حظّ (أو رغبة) في تزعّم هؤلاء. لذا يجب أن نذهب إلى تاريخٍ أبعدَ لنعثر على ما يمكن أن يكون أصلاً لپول. فهناك في بلاد الإغريقِ، بزغ نجم الإسكندر المقدوني وهو بعدُ في مقتبلِ العمرِ، وبدأ رحلةَ المجدِ بوفاةِ والده. صاحبت رحلتَه النّبؤاتُ والرؤى والقصص المدهشةُ، وحاولَ في كلّ مرّة غزا فيها قوما أن ينتسبَ إليهم، فأعلن في مصر ارتباطه بآمون أسوة بالفراعنة من قبله، وصاهر ملوك الفرس الّذين قهرهم، ومنحَ حملتَه العسكريّةَ أبعادا أكبر من غنيمة السّلطة. لا شكّ أنّ پول أتريدس تنويعٌ دراميٌّ لشخصيّة الإسكندر المقدونيّ، ويمكن بذلك تفسير اختيار اسم "أتريدس" Atredes النّابع من الميثولوجيا الإغريقيّة (من عائلة أتريدس أو أتريوس جاء أغاممنون أحد أبطال ملحمة طروادة).
لم تختصّ عائلة أتريدس بهذا البعد الرّمزي. إذ تعكسُ القصّةُ صراع الهويّاتِ كما رآهُ فرانك هربرت في عالمِ ما بعد الحربِ (العالمية الثانية). لنتأمّل الجماعاتِ الأربع الرئيسيّة هنا:
فأمّا آل أتريدس، فتشيرُ أصولهُم الإغريقيّة إلى الحضارةِ الغربيّةِ بشكلٍ عامٍّ. هناك حضورٌ ملفتٌ للأعمدة. هل هي دوريّة أم كورنثية؟ وماذا عن تلك النّقوش على الجدران والقبور؟ أهيلينيّةٌ هي أم كلاسيكيّة؟ لستُ خبيرا ولكنّ الرّوح الإغريقية في هذه العناصرِ لا تخطئها العينُ. الأهمّ من ذلك، أنّ دني فيلنوف دمج في تصوُّرِه لـكَلَدَان Caladan (موطن أتريدس) عناصرَ أوروبيّةً أخرى. الجبال والغابات والبحيرات الشماليّة، وثقافة التّوريرو الإسبانية الجنوبية Torero. لقد اختار فيلنوف بلاده كندَا أرضا لتصوير كَلَدَان لأنه أرادها شبيهة بالـ"وطن". هكذا، فأتريدس هي "نحن"، هي الغربُ بروايةِ الغربِ، وپول أتريدس هو الرّجلُ الأبيضُ بامتياز.
وفي مقابل هذه الصّورةِ، يشيرُ آلُ هاركونن Harkonen من خلال الروايةِ والمعلوماتِ المحيطةِ بالروايةِ، بأصابعَ ثابتةٍ إلى شرق الستار الحديديِّ. أي الاتّحاد السوفيتيِّ ومن والاه. لا ننسى أنّ فرانك هربرت كتب روايته في الستينات حين كانت الحربُ الباردةُ في أوجها. لقد اختار الكاتبُ فلادمير اسما لزعيم أوغاد روايته، إمعانا في الإشارة. لكن، تغاظى فيلنوف عن كلّ هذا في كُثيبِه وأخرج آلَ هاركونن في حُلَّةٍ محايدة كاد ينكر عليها بشريّتها. لا شيء في أزيائهم أو أسمائهم أو كوكبهم أو بناياتهم يشير إلى ثقافة بعينها، وكلّ ما يمكن تحصيله من هذا الحضور المبهمِ، هو النهمُ الرأسماليُّ الّذي لا ينضبُ للثروة. بكرش ضخمةٍ، ومظهرٍ منفّر، وإفراطٍ في الأكلِ، لم يبق من قبحِ هذا التمثّلِ المادّيِّ لجشع رؤوس المال سوى التحمُّم بسائل زيتيٍّ أسود كالنفط. ولقد قام فيلنوف بذلك فعلا!
وأما الجماعةُ الثالثةُ، فهي بني جسريت Bene Gesserit وهي طائفةٌ دينيّةٌ من نساءٍ يمتلكن قدراتٍ ذهنية خارقةٍ، يعملن على التّأثير على أصحاب القرارِ من الرّجال، وبالتّالي الحكم بصيغة غير مباشرة تمهيدا لظهور المنتظر. ومن الواضح أنّ رمزيّة الدّين تغلب على رمزية الجندر في هذه الجماعة، فرغم النّفوذ والقوّة، يظلّ عملُها خدمةً للرجلِ الموعودِ، لسان الغيبِ المنتظرِ. وبالتّالي يجب أن ننظر إليها كجماعة دينية بالأساسِ. جماعة دينيّة تورّث تعاليمها عبر النّساء، وتستعمل مفردة "بِن" Beni وترتبط بنبي منتظر، عند من رأيتُ كلّ هذا من قبل؟ لا شكّ أنّ هناك إحالة إلى اليهود باعتبارهم بشكل ما، جسرا بين آل أتريدس (الغرب) وما يؤمنون به، وبين تلك الجماعة القابعة في الصّحراءِ وما يؤمنون به (Gesserit تبدو تحريفا للكلمة العبريّة جشر גשר).
نتحدّث عن الجماعة الرّابعة، وهم الفريمن Fremen وكلّ ذلك الزخم الثقافيّ الّذي استعاره فرانك هربرت من الثقافة العربية الإسلامية (ومن الثقافة البوذية أيضا) وصاغ ملامحها بواسطته. إنهم صحراويّون، أقرب إلى بدو الطوارق في ترحالهم واحتمالهم لقسوة الطقس. يستعملون معجما عربيّا بيّنا (لسان الغيب، شيء الخلود، الرّاقص، الخ)، ويتميّزون بنظام معرفيٍّ لا عقلانيٍّ قائمٍ على الأسطورةِ والإيمانِ. من المهمّ هنا أن نذكر كيف يشترك الفريمن في ذلك مع بني جسريت، لكنّ هؤلاء ينتمين في الآنِ نفسِه إلى عالمِ الامبراطوريّةِ المنطقيِّ، عالم أتريدس ضدّ هاركونن، حيث يملك كلُّ شقٍّ حاسباتِه البشريّة Mentat.
إنّ كوكب الكثبان أو الرّاقصِ Arrakis هو صورةُ الشّرقِ في المُخيّلةِ الأوروبيّةِ. ذاتُ الاستشراقِ الّذي فضحه إدوارد سعيد ذات يوم. جسمٌ من الرّمالِ، وذهنٌ من الأساطيرِ، وقلبٌ من البدائية، بل من الثرواتِ المسيلةِ للّعابِ. في عالمِ كُثيب Dune يتحوّل النفطُ العربيُّ إلى بِزرٍ أو توابل تنضحُ بها الرّمالُ اللامتناهية، وهي استعارةٌ عظيمةٌ تعودُ بفكرةِ الاستشراقِ إلى عصورِ الرحلات البحرية الكبرى حين كانت التّوابلُ أعظم ما يأتي بهِ الأوروبيُّ من الشّرقِ. ولقد حافظ فيلنوف على الصّورةِ الّتي استنبطها فرانك هربرت في السّتينات، مع بعض التغييرات الطفيفة الّتي أملتها متغيّراتُ العصرِ، فاختفت بعض المصطلحات مثل "الجهاد"، واتّخذ الفريمن بعض الأدوات البديعةِ رغم افتقارهم للأسلحة الثقيلة ولقوّةِ الحضارةِ.
رزح كوكبُ الرّاقص طويلا تحت حكم هاركونن المستبدِّ. ثمّ تحوّلت سيادتُه إلى آل أتريدس، الّذين حاولوا إقامة علاقات تشاركيّةٍ مع أهل الكوكبِ قبل أن يحدث الانقلابُ. الفريمن أو القوم الأحرار إذا، لا يرفضون قطعا أن يستوطن أرضَهم الغرباءُ ويديرونها ويستغلّون ثرواتها طالما سيعاملونهم باحترامٍ ويتركون لهم هامش حرّيّةٍ للتّصرّف في شؤونهم الدّاخليّةِ. أليس مضحكا أن ينتسب الفريمن إلى الحريّة وهم عاجزون عنها؟ إنّ النفط/التوابل لا تعني لهم شيئا لأنهم بدائيون لا يملكون التقنية اللازمة لتكريرها والاستفادةِ من منافعها العظيمة للسفر عبر النجوم. لذا، يصبحُ وجود أتريدس/الرجل الأبيض ضروريّا لإقامةِ الحضارة في هذه الرّبوعِ القاحلة، وتحريرها من الاستبدادِ. تُعيدُنا الفكرةُ إلى موضعِ الشخصيّةِ الرّئيسيّةِ من الجماعاتِ الأربعِ، وكيفَ أنّ پول أتريدس ينتقلُ من عالَمِه الغربيِّ لينتسب مؤقّتا إلى عالم الكثبانِ ويقودَهم في رحلةِ التحرّر. وهي الصّورةُ الّتي استعارَها هربرت من إحدى أهمّ مشاربِ روايتهِ: قصة لورنس العرب Lawrence of Arabia الشهيرة. بل يمضي بها إلى أبعدَ منذ ذلك، فلا ننسى كُنيةَ البطلِ عند الفريمن حين يصدقُ الوعدُ وتتحقّق الرؤى: المُؤدّب Muad'dib. في كثيب الجزء الأوّل، نتوقّف عند مرحلة الانتساب، ولا نعرف بعدُ إن كان فيلنوف سيخلصُ للرّوايةِ أم لا ولا نعرف مدى تأثير پول على عمليّةِ التّحريرِ، لكنّ الأحداث الّتي صوّرَها الجزء الأوّلُ كافيةٌ للتّصديق على هذا التمثّل الاستشراقيِّ. لقد حاول فيلنوف أن يمنح قومَ الفريمن سحريّةَ الغرباءِ، فركّز على كلّ الطقوس الّتي لا تألفُها الذّهنيّةُ الغربيّةُ مثل البصاقِ، والاستفادة من ماءِ الميّتِ، وإجلالَ النخيلِ، وتقديس شيء الخلود)، ورغم كلّ ذلك، ظلّت العلاقةُ عموديّةً. فهؤلاء القومُ أدنى منزلةً من آل أتريدس وآل هركونن داخل الامبراطوريّةِ. إنّهم قومٌ قُصّرٌ يحتاجون إلى "وليٍّ" من كبارِ مجلس الامبراطوريّةِ، أو مجلس الأمن!
في رواية هربرت يواصلُ پول أتريدس رحلته المظفّرة نحو عرش الامبراطوريّة، ثمّ ينطلق في مرحلة ثانية في مواجهة الدسائس والمؤامرات. فلا يُبدي خلالَ ذلك أيّ مراجعةٍ لتمثّل representation الفريمن، ولا أيّ انتقادٍ لفكرةِ پول المُنقذِ المؤدّبِ. فهل سينحو فيلنوف نحو ذلك؟ أعتقد أنّ المتأمّل في أعمالِ المخرج الكنديِّ السّابقةِ (Blade Runner 2049 وIncendies أساسا) سوف يجيب بالنّفيِ. فقُربُه النّسبيُّ من الثقافةِ العربية وفهمُه العميقُ لطبيعةِ الأعمال الّتي يُعيدُ صياغتها، ونزوعُه نحو تقديمٍ طرحٍ جديدٍ، يضعونه أمام معادلةٍ تعوّدَ على حلّها بكلِّ اقتدارٍ. وبالتّالي، فإنّي أرى پول أتريدس غير قادرٍ على الحفاظ على منزلته كبطلٍ ومصدرٍ للتّماهي، ولعلّه يتحوّل إلى نقيض ذلك تماما، أي إلى دعوةٍ صريحةٍ لمراجعةِ كلّما أتاه في الجزء الأوّلِ، وينقلب معه كثيب إلى انتقادٍ لسياسةِ الرجل الأبيض ونظرتِه المتعالية للآخر. فهل يكون انقلابُه ذاك متأخّرا؟
ربّما كان سابقا لأوانه أن أخوض في جزء لم ينته صاحبُه بعد من كتابته، ولكنّ قيمةَ السّؤالِ تستدعي ذلك: فإذا كان الجزء الثاني سيقلبُ نظرتنا لما حدث في الجزءِ الأوّلِ، كيف يمكننا أن نتعاملَ مع الجزءِ الأوّلِ؟ هل يصحُّ أن نعلنَ أن كثيب الجزء الأوّل هو فلمٌ استشراقيٌّ بامتيازٍ إذا كان الجزء الثاني يدفعنا لانتقادِ السلوك الاستشراقيّ؟ وبعبارة أخرى، كيف يجب أن نتعامل مع عمل فنيّ مجزّأ؟ أيكون الجزء الفردُ قائما بذاته أم لا يمكن تحليله إلا في سياقه الشامل؟
لقد أربكني السؤال وأخّر كتابة مراجعتي للكثيب قليلا (لا يسخرنّ أحدكم من هذه الـ"قليلا") ثم إنني انتهيت إلى حقيقة بسبطة هي أن العمل الفني لا يكون كذلك بصفة اكتماله، ولا حتى بصفة النية في إكماله، إنما يكون كذلك بمجرد الإعلان عنه عملا فنيا. فهل ينكر أحدنا أن رواية الحصن لفرانز كافكا غير المكتملة عمل فنيّ؟ إنّ كثيب الجزء الأوّل قائم بذاته بمجرّد صدورِه مفردا يمكن للمتفرّج الاطّلاع عليه من دون ما قد يلحق به من الأجزاءِ، وهو بالتّالي مؤثّر في المتفرّج يهبه لحظة تماهٍ مع بطلٍ مثالٍ ويثبّت في لاوعيه تمثّلاتٍ صائبة أو خاطئة للموضوعاتِ. لا يمكن إذا أن ننكر الاستشراق عن فلمِ دُني فيلنوف وإن لم يرغب في ذلك، بل ولو جاء بغير ذلك في ما سيتبعُ من أجزاءٍ. لا يزالُ إنسانُ المشرقِ متخلّفا، لا منطقيّا، قاصرًا في نظرِ الرّجلِ الأبيضِ، حتّى في عصرٍ أخذ فيه سحرُ الشرقِ وغموضُه في التّلاشي بفعلِ حركات الهجرةِ والاندماجِ. لقد أصبحَ رجلُ الفريمن مواطنا كنديّا "صالحا" يسكن بجوارِ فيلنوف بين ثلوج الكيبيك ويحرصُ مثله على فرز نفاياتِه وتدويرِها، لكنّ صورته لا تزالُ في ذهنِه، بدويّا يرقص في الرمال اللانهائيّةِ على وقع الأساطير.
No comments:
Post a Comment