ينقلُ فلمُ مينَري Minari السّؤال عن الهويّةِ من محتواهُ إلى ذاتِه. فهل هو فلمٌ أمريكيٌّ أم كوريٌّ أم كلاهما؟ قد لا يختصُّ فلمُ لِي إسحاق تشُنغ Lee Isaak Chung بهذا السّؤال وإنّما يشملُ كلَّ أعمالِ سينما الدِّيَسْبُورة Diaspora، وأعني بذلكَ تلك الأفلام الّتي تُعبّرُ عن جماعاتِ الأقليّاتِ المهاجرة/المهجّرةِ، كأفلامِ المغاربةِ في فرنسا، وسودِ المخيّماتِ في أمريكا، والسّوريّين في أوروبا… بيدَ أنّ السّؤالَ في مينَري يأخذُ بعدا آخر: مرّةً لأنّ مجتمع الكُوريّين في أمريكا مجتمعٌ محدودٌ لا نكادُ نجدُ له آثارا سينمائيّةً سابقة (عكس الصّينيّين الأمريكيّين مثلا)، ومرّة أخرى لأنّ الشّاشة الأمريكيّةَ والعالميّةَ طبّعت مع السّينما الكوريّةِ بقدرٍ عظيمٍ مع فلمِ الطُّفيلِ (Parasite) فبدا فلمُ مينَري كحلقةٍ وسطٍ بين فصيلتيْنِ مختلفتَيْنِ من شجرةِ السّينما التطوّريّةِ.
لقد بثَّ تشُنغ في فِلمِه بعضَ صفاتِ السّينما الأمريكيّةِ، فهو دراما عائليّةٌ بطلُها أبٌ (جيكُب أو يعقوب) يسعى لتحقيقِ حُلمِه الأمريكيِّ بتعميرِ أرضٍ فلاحيّةٍ وتوفيرِ حياةٍ مرفّهةٍ لزوجتِه مونِكا وابنيْه دَيْفِد وآنّ. وفي سردِه ما فيه من تقنياتِ التشويقِ ما يمتعُ المشاهدَ ويُقحمُه في رحلةِ بطلِه لتجاوزِ العراقيلِ وتحقيقِ الهدفِ المنشودِ. وفي الآن ذاتِه، نسيرُ مع مينَري بنسقٍ متقلّبٍ بين البطء والسُّرعةِ ببراعةِ الرّاقصينِ، يأخذُ وقتهُ لنرى المشهدَ "في" تفاصيلِه، ويأخذُنا بغتةً في مراوَحةٍ بين مشهدَيْن ليفعمَنا بإثارةٍ غير منتظرةٍ، وهو ديدنُ السّينما الكوريّةِ (مذكّراتُ قاتلٍ 2003، الطّفيل 2019، حارق 2018 الخ). ولئن انتحلَت القصّةُ هيئة حكايةٍ أخرى عن الحلمِ الأمريكيِّ، فهي من وراءِ ذلك، حكايةُ اندماجِ عائلةٍ كوريّةٍ في الوسطِ الأمريكيِّ الغريبِ. ولقد روى لنا تشُنغ هذه الحكايةَ على مستويات متنوّعةٍ.
أهمّ هذه المستوياتِ هي الشخصيّاتُ، فبِها حبكت الدّراما وليس بالأحداثِ. لِجيكُب ومونِكا رؤيتان مختلفتان لهدفٍ مشتركٍ هو ضمانُ حياةٍ عائليّةٍ سعيدةٍ. وهاهنا تتشكّلُ عقدةُ الدّراما. تفضّلُ الأمُّ المنزلَ القديمَ في كالفورنيا، حيث الحياةُ الحضريّةُ السّهلةُ والوجودُ المؤنسُ للمجتمع الكوريِّ المهاجرِ والعملُ المضمونُ. وفيما تسخطُ على واقعٍ جديدٍ لا يحقّق كلَّ ذلك، يتطلّع زوجُها إلى مستقبلٍ أجزى من قضاءِ الوقتِ في تفرقةِ فراخِ الدّجاجِ حسب جنسها. لا يهمّه أن يتغرّب أكثرَ داخلَ غربتِه بالابتعادِ عن الحضرِ، والانعزالِ في ريفٍ ناءٍ في منطقةٍ داخليّة مثلِ أركانسس Arkansas، ولا يهمّه أن يخسر مالَه وجهده، فشعورُه بعدم الأمانِ مرتبطٌ بالمستقبلِ لا بالحاضرِ. قد يبدو الأبُ أكثر أنانيّةً وإصرارا على مجدٍ شخصيٍّ لا يبالي ولو بصحّةِ ابنه، لكنّ الحقيقةَ أنّه لا يختلفُ كثيرا عن زوجتهِ، كلاهما ينطلق من رغبةٍ ذاتيّةٍ يعمّمُ فائدتَها على الأسرةِ، فأكثر ما يزعجُ مونِكا وحدتُها المحدَثةُ: لا كنيسةَ كوريّة، ولا أقرباء، ولا أيّ عنصرٍ يحضرُ من خلالِه وطنُها المهجورُ، ومع كلِّ مرحلةٍ تفاوُضيّةٍ حولَ مستقبل العائلةِ ومآلِ المشروعِ الفلاحيِّ، ترضى المرأةُ بإجراءٍ لصالِحها: قدومُ أمِّها، والذّهابُ إلى الكنيسةِ. فكان الصّدامُ بين الرؤيتيْنِ محرّكا أساسيّا للدّراما.
هاجرَ الزّوجان من كوريا بحثا عن حياةٍ أفضلَ، وفيمَ كانت مونِكا ترى أنّ الهدفَ قد تحقّق تقريبا بالاستقرارِ في كالفورنيا، كان جيكُب مصرّا أنّ الهجرةَ مجرّدُ بدايةٍ، وأنّ الهدفَ يحتاجُ تضحياتٍ أكثرَ ومعاناةً أطولَ، ومزيدا من الهجرةِ. وبالتّالي تمثّل الشخصيّتان أيضا، مستويَيْنِ متباينيْنِ من الاندماجِ: لا تجيدُ مونِكا الانكليزية، وتعاني من تغرّبٍ يشتدُّ كلّما أوغلت عائلتُها في قلب القارّةِ الجديدةِ. اُنظروا كيف استقبلت روائح بلدِها وبهاراتِه وأكلاته بالدّموعِ حين جئن مع أمّها! أمّا جيكُب، فرغم اندفاعِه نحوَ بيئتِه الجديدةِ، ظلَّ محافظا على مسافةٍ فاصلةٍ معها، وقد جسّد المخرجُ ذلك ببراعةٍ في علاقته بعامِلِه الإنجيليِّ پول. وعلى يمينِ الأمِّ من محرارِ الاندماجِ، توجدُ أمُّها الّتي تأتي لتوّها حاملةً بلدَها في يديْها وعروقِها وروحِها، ولم يعد للعالم الجديدِ مكانٌ داخلِها إلاّ كلماتٍ لا تكادُ تعني شيئا. وعلى اليسارِ نجدُ الطّفليْنِ، آنّ Anne الّتي تجيد الكلام باللغتيْن، وتُبدي راحةً وقبولا لازدواجِها الثقافيِّ، وديفد الولدِ الصّغيرِ الّذي لم يعرف وطنه الأمّ ولا يزال يبحثُ عن جزئِه الكوريِّ. طيفٌ اندماجيٌّ طبيعيٌّ بحسبِ الجيلِ، ولكنَّه صُوِّرَ بعنايةٍ فائقةِ التفاصيلِ.
في مستوى ثانٍ، شكّلَ تشُنْغ صورةً طريفةً للمُهاجِر في مواجهةِ الآخَرِ. فالمعتادُ أن يظهرَ كموضوعِ النّظرةِ المُهيْمِنَةِ Object of Dominant Gaze. أن يبدوَ موضوعَ فحصٍ ومصدرَ غرابةٍِ، أمّا في مينَري، فتفكّكُ هذه العلاقةُ العموديّةُ وتتحوّلُ إلى ديناميكيّةٍ طريفةٍ، فبعدما استقبلَ الولدُ الأمريكيُّ نظيرَه الكوريَّ بملاحظةٍ مألوفةٍ عن وجههِ المنفطرِ، نرى ديفِد في منزلِ صديقِه الجديدِ وهو يكتشفُ الآخرَ الأمريكيَّ الغريب، ولا شكَّ أنّه استطاعَ أن يدفعنا كمشاهدين أن نتطلّعَ إلى هذا الأمريكيِّ بذاتِ الدّهشةِ وهو يتنكّر بهيئة رعاة البقرِ، أو يجرّبُ ما يشبه "النفّة" (أو الشمّة أو التمباك أو القات ولكلِّ قطرٍ مخدّراته).
تظهر الصّورةُ الأوضحُ لهذا التفكيك، مع ما يحدث مع جيكُب ومشروعه. إذ يواجه منذ البدء، طريقة الأمريكيين التقليدية للبحث عن الماء بواسطة عصا يسير بها أحدهم هلى غير هدى حتّى تميل إلى أسفل. يجعلنا المخرجُ نرى بعينِ جيكب المتغرّبة، غرابةَ السّلوكِ الأمريكيِّ وعزوفه عن المنطقِ. يتحوّلُ بذلكَ موضوعُ النّظرةِ المهيمِنةِ من الشّخصيّةِ الكوريّةِ المهاجرةِ، إلى الشخصيّةِ الأمريكيّةِ صاحبةِ الخطابِ المهيمنة، مفكّكا علاقة التماهي بينها وبين الذّات النّاظرة.
أمّا المستوى الثالثُ من حكاية الاندماجِ، فتحدث عبر رمزيّة الغذاءِ ودلالتِه. لا ننسى هنا أنّ قضيّة الحكايةِ المركزيّة تتعلّق بتعمير الأرضِ، وما يدلُّ عليْه تعميرُها من علاقةٍ مباشرةٍ وقويّةٍ بينه وبينها. فهو يتجاوزُ المجتمعَ وعاداتِه ولغتَه لينبذِرَ في الوطنِ الجديدِ دون وساطةٍ. أو هكذا خيّلت إليه قدرتُه. فقد احتاجَ جيكُب إلى وساطةِ پول أوّلا، ثمَّ إلى لمسةِ الجدّةِ ثانيا. زَرعت نبتة مينَري على ضفاف الجدولِ، فكانت ربّما نجدةَ جيكب الأخيرةَ بعد الّذي حلّ بمشروعه. لا انغراس إذًا، ولا إثمار إلّا بديناميكيّة تحضرُ فيها الجدّةُ (رائحتُها مثل كوريا كما قال حفيدُها) وذلك الأمريكيُّ البسيطُ پول. لا شيءَ أكثر دلالةً على الثقافةِ من الطّعامِ. ولقد اعتنى تشُنغ بهذا التّفصيل بشكل يثير الغيظ من البراعةِ. هل تذكرون مشهد إفراغ الحقيبةِ وردود فعلِ مونِكا مع كلّ طعامٍ تُخرجه لها أمُّها؟ تحدثُ ردّة فعلٍ مقابلةٌ مع الطّفلِ ديفد هذا المتعوّدِ على الأكلِ الأمريكيِّ. فقد انعكست علاقتُه المتوتّرةُ مع جدّتِه على تذمّره من الطّعامِ الّذي أرغمَ عليه. وبهذا المعنى كذلك، يمكن أن يُنظر إلى واقعةِ شرب البولِ الطريفةِ. يمكنُ أن نفهمَ قيمةَ هذا المستوى الثالثِ، من اختيارِ نبتةِ مينَري عنوانا للفلمِ. مينَري أو كرفسُ الماءِ، هذه النّبتة الكوريّةُ النّافعةُ، المتنوّعة الاستخدام، اللّذيذةُ والرخيصةُ والمفيدةُ، تتخّذ وطنها الجديدَ بيسرٍ وكرمٍ، وكذلك أحبَّ تشُنغ لعائلتِه أن تبدوَ. لا ننسى أنّ الفلمَ ضربٌ من السّيرةِ الذّاتيّةِ المحوَّرةِ.
لا يلملمُ مينَري التّفاصيلَ من أجلِ خلقِ صورةٍ جامعةٍ ثريّةٍ، ولا يبثّها في أرجاءِ مشاهِده ليتزيّنَ برائحةِ الواقعيّةِ، ولكنّه يسردُ عبرَها الحكايةَ، ويملأَ التّافهَ (banal) بالمعنى، فإذا نحنُ أمام تجربةٍ عائليّةٍ بسيطةٍ، وفي الآن ذاتِه أمام قصّةٍ كونيّةٍ عن الإنسانِ المتنقّل وذاتِه المتحوّلةِ. مينَري بلا شكّ أحدُ أجملُ أفلام السّنةِ.
No comments:
Post a Comment