عجبتُ ممّا حاق بفِلمِ عبد الحميد بوشناق الأخير من تهليل وإكبار لما وُصف كأوّل فلمِ فانتازيا تونسيٍّ. ليس لأنّ الفانتازيا، وعكس ما يظنّه الناسُ، أكثرُ فنونِ القصصِ في مدوّنتنا العربية منذ حربِ البسوسِ وعنترة إلى قصص ابن المقفع وألف ليلة وليلة. وليس لأنّ بوشناق جاء متأخّرا على قصص عبد العزيز العروي الخارقة ببضعة عقودٍ. ولكن لأنّ فلمَ "فرططّو الذّهب" ليس فلمًا عجائبيّا من أساسه!
ما العجائبيّ الّذي يجدُه المرءُ في هذا الفلم؟ أن يعيش أحدُهم حالةً من الهلاوس البصريّة؟ أن يعيش واقعا بديلا؟ أن ينقطعَ عن العالمِ ويبنيَ مكانه وهمًا عجائبيا؟ ربّما من الضّروريِّ أن نستذكر أحداثَ الفلمِ الكبرى بعجالةٍ حارقةٍ للأحداثِ ومفاجآتها علّنا نرشُد إلى ما كان خفيّا.
ها هنا معزّ (محمد السويسي) ابن الممثّل السابق (فتحي الهداوي) الّذي كسدت تجارتُه فانقطع للشرابِ وسوء معاملة أهلهِ حتّى انتقلت فظاظتُه لابنِه ففاقه فيها. لكنّ حدثيْن مهمّيْن يقصمان ظهر الفتى: الاعتداء حتى الموتِ على حبيبته من قبلِ مُنحرفيْنِ، وإصابتُه بمرضٍ في عينيْه قضى بفقدان بصرِه في القريب العاجلِ. هكذا يُطلقُ العنان لهلاوسِه الذهنية والبصريّة لتختلق قصّة الطّفل الوهميِّ إذ يأتيه مصحوبا بتحاليل طبيةٍ تُعلنُ اقتراب أجَلِ ضَرارتِه، فيقرّر بعد لأْيٍ أن "يُريه اللّي عمره ما شافه": يصحبُ ذاتَه الطّفلة في رحلةٍ في ذاكرتِه، يستعيدُ عوالم أبيه المسرحيِّ، يتصالح مع جرائم أبيه السكّيرِ، ويكشف لنا أنّه والطّفلَ واحدٌ. لم يكن هناك متسوّل بأجنحةٍ، ولا مومسٌ بعيونٍ في أعلى الرأس، ولا أمهق يتحوّل إلى مذؤوب مفترس. كلّها خيالاتٌ انتقلت من ذاكرة البطلِ إلى واقعِه المتوهَّمِ، كما يحدث في الكثير من حالات الذُّهانِ والاضطرابات النفسية المختلفةِ، فما العجائبيُّ في كلّ هذا؟
هناك أمثلة كثيرة مشابهة، ربّما أشهرها ـ ممّن أستحضرهم ـ الرّجل الطّائر Birdman لألخندرو إنيارّتو، وأقربُها لمثال بوشناق، فلمُ "أنا سايبورغ ولا بأس بذلك" للكوريِّ الجنوبيِّ الرّائع تشان ووك پارك Chan-wook Park. وجميعها لا تحاولُ إقناعنا بأيّة سرديّةٍ عجائبيّةٍ، بل إنّها تستعمل العجائبيَّ لتحييد البطلِ عن الحقيقةِ، وتأكيد عجزِه عن مواجهتها. وانطلاقا من هذا المعنى، ففرططّو الذّهب دراما واقعيّةٌ بسيطةٌ حاولَ عبرَها بوشناق أن يسيرَ في خطوطٍ متشابكةٍ تشكّلُ ملامِحَ شخصيّةِ معزّ.
معزّ المريض هي أوهن هذه الخطوطِ. نجدُه يعاني من داءيْنِ أبلغُ في دلالتهِما من حضورِهما. فأمّا ذهابُ بصرِه، فيدلُّ على ذهابِ بصيرتِه، وافتراقِ طباعِه عن طبيعتِه. نرى ذلك جليّا في معاملتِه لجارِه، وفي معاملتِه للطفلِ-ذاته حين أتاهُ. بل أوضحُ من ذلك، امتهانُه خدمة البوليس المشحونةِ بكلِّ معاني العنفِ وصُورِه. وأمّا إصابتُه بالذُّهانِ فليس أكثرَ من حيلةٍ روائيّةٍ لتبريرِ ما كاد يكون عجائبيّا، ولنقلِه إلى خانةِ الواقعيّةِ. وبلغة الشطرنج، فهي ذلك الخطأ الفادح Blunder الّذي يحوّل النّصر إلى اللانصر، والفانتازيا إلى اللاخيال. وكمثلِ تلكَ الحيلةِ السّخيفةِ الّتي يلجأ إليها الرّواةُ حين تتعقّد رواياتُهم فيُوقظونَ أبطالَهم من النّومِ في النّهاية، برهنَ عبد الحميد بوشناق عن خوفٍ مُبهمٍ من الفانتازيا، إنّني أكادُ أراهُ يتجوّل في قاعةِ العرضِ المظلمةِ ويهمسُ في آذانِ المشاهدين بضحكةٍ عصبيةٍ خافتةٍ: لا تأخذوها على محملِ الجدِّ، أنا نفسي لا أفعل ذلك!
يبرِّرُ الذّهانُ الفانتازيا، ولكن ما الّذي يبرّرُ الذهان؟ حادثةُ صديقتِه؟ نرجّح ذلك، ولكنّ البناء السّرديَّ لا يَفتَرُ عن حبكةٍ شديدةِ التّماسُكِ، ويكتفي بإلقاءِ الأحداثِ جزافا تاركًا للمشاهدِ عبء التّركيبِ. أليس هذا جميلا؟ يهمسُ أحدُهم، فأجيبُ، بلى، إذا كانت القِطعُ المُلقاةُ قابلةً للتّركّبِ دون تعسّفٍ…
في خطٍّ آخرَ، يرسمُ بوشناق صورةَ معزّ الإبن. فيُناظرُ بين علاقتِه ـ رجلاً ـ بذلك الطّفل الّذي كفِله، وبين علاقتِه طفلاً بأبيهِ في الماضي. هكذا سار الفلمُ مُراوِحا بين مغامرةِ معزّ والطّفل الغامضِ، وبين ماضي معزّ مع أبيه السكّير العنيفِ عبر تكثيفٍ للقطات الاسترجاع Flashback. ولأنّ المخرج اختار حرمان المشاهدِ من تفسير العلاقةِ بين الماضي والحاضرِ، فقد كانت المراوحةُ ثقيلةً وتشي بتشتّتٍ في الأفكارِ. الكثير من التقفيز (Jump cut) والنّادرُ من الوصل (Match cut) لا يساعدان في فهم المقارنة المُقترحة. الأهمّ من هذا، هل نجح التناظر حقا؟ في مغامرةِ البطلِ والطّفلِ التّائهِ، تنجح الفانتازيا بطريقةٍ ما في ترويضِ معزّ والخروجِ بِه من مستنقع العنفِ والذّهانِ. تُصالِحُه مع ماضيه وتُعيدُه إلى واقعِه. أمّا في قصّتةِ مع أبيهِ عبد الوهاب (الهدّاوي)، فلا يحضُر المسرحُ (مقابل الفانتازيا) إلاّ في النّهايةِ (لدواعٍ سرديّةٍ)، ولكنّنا نُدركُ أنّه لم ينجح في انتشالِ عبد الوهاب من محنتِه، بل إنّه مُسبِّبُها. وبالتّالي فقد أدخلنا بوشناق في مقارناتٍ خياليّةٍ وغير مفيدةٍ بسبب تكثيف الاسترجاع، وعموما فقد كان البناءُ السّرديّ غير متوازنٍ بالمرّةِ بسبب إصرارِ بوشناق على استحداث التواءةٍ سرديّة plot twist لم تباغت أحدًا.
خلافا لصورةِ المريضِ، فإنّ صورة الإبنِ جوهرية. فما الفلمُ إلاّ محاولةٌ لتفكيكِ عناصرِ العلاقةِ المعقّدةِ بين الإبنِ وأبيهِ. فيقترحُ ظاهرًا مشحونا بالعنفِ والاستهتارِ: استهتارُ الإبنِ بحالةِ أبيهِ الحاضرةِ، مقابل استهتار الثاني بعائلتِه كلّها في الماضي. ثمّ يكشفُ رويْدا رويْدا عن باطنٍ مثقّل بالآلامِ. ومع تصاعد وتيرةِ العنفِ والألمِ (لدواعٍ غير مبرّرةٍ تقريبا)، نصلُ إلى لحظة المصالحةِ: فيتصالحُ الأبُ وابنُه حين يتصالحُ الإبنُ وذاته. يستعملُ بوشناق في هذا الخطِّ، شخصيّةً ثالثةً هي شخصيةُ الأختِ (هاجر عيّاد). إنّها أيضا ابنةُ عبد الوهاب ولكنّ علاقتَها به تختلف جذريا، فقد تقبّلت أسلوب أبيها، وربّما أبدت قوّة شكيمةٍِ لا يملكُها أخوها الغاضبُ، العاجزُ عن المواجهةِ. والحقيقةُ أنّ دورَ هاجر عيّاد رغم براعةِ الأداءِ وقوّة الحضورِ، يكادُ يرجعُ بالفلمِ إلى خانةِ الأعمال الاجتماعيّةِ البائسةِ، ولا يحقّقُ للفكرةِ/الأفكار الرّئيسيّة أيّة نقاطٍ إضافيّة.
أعتقد أنّ أيَّ وَلَدٍ ينظُر عادةً إلى أبيهِ بتعظيمٍ وإجلالٍ. سيكون قُدوتَه الأولى ومرآةَ الكمالِ في عينيْهِ ولو لزمنٍ بسيطٍ قبل أن يصابَ بخيبةِ الأملِ الّتي ستسمحُ له بالانفصالِ بشخصيّتِه بعيدًا. ثمّ إنّه سوف يحتاج إلى وقتٍ قصر أو طالَ ليتقبّل هذا الانفصالَ، ويتصالحَ مع والدِه مجدّدا وقد تدرّج من مرتبة الإله إلى الشيطانِ ثمّ الإنسانِ. ولقد عبّر بوشناق عن هذه الرّحلةِ بصدقٍ متلعثمٍ. ولئن أخذ معزّ عن أبيه حُبَّهُ للفنِّ، فقد كان انفصاله عنه انفصالا عن الفنِّ أيضا، وآثر العملَ شرطيّا يمارسُ العنفَ بإفراطٍ. أفيلعنُ بذلك أباهُ على "محنةِ" الفنّ الّتي أورثه إيّاها؟ يقولُ بوشناق إنّ ثمّة 70% منهُ في الفلمِ، ولأنّنا نستبعدُ تشابه ظاهر علاقةِ معزّ وأبيه بتلك الّتي تجمعُ المخرجَ بالفنّان لطفي بوشناق، فلا نستبعد عناصرَ من باطنها. وهو ما يحيلُ على خطّ ثالثٍ مشكّلٍ لشخصيّةِ معزّ، وهو الفنّان.
لقد دفن معزّ ذلك الفنّان الّذي كان يمكن أن يكونه، وأصبح بوليسا بكلّ العنفِ الّذي يمثّله. ومع حلولِ الطّفلِ الغامضِ في حياتِه، استنجدَ تلقائيّا بما علق في ذاكرتِه من "فنونِ" أبيهِ لينقذ نفسه. لكنّ معزّ طوال الفلمِ لم يتقمّص قميصَ الفنّانِ، بل تركَ ذلك لمختلفِ الشّخصيّاتِ الخياليّةِ الّتي قدّمَها للولدِ: الشريدُ ذو الجناحيْن، المومسُ ذات العيون الخمسة، الكائنُ الخفيُّ ذي اللسانِ الحربائيّ وأخيرا ذلك الأبهق المذؤوب. وقبل هؤلاءِ، يمثّل الأبُ عبد الوهاب صورةَ الفنّانِ أهمَّ تمثيلٍ في الفلمِ، فما الّذي يجمعُ خمستَهم، وكيف تمثّل عبد الحميد بوشناق الفنّان؟ ظهر عبد الوهاب بحُلّةِ المهرّج في ومضاتٍ استرجاعيّةٍ سريعةٍ خاطفةٍ، تحكي عن تجربةِ أداءٍ Casting خائبة. وفضلا عن افتقارها للطّرافةِ، فهي تقدّم الفنّان في حُلّةِ المتسوّل المتوسّلِ للحصولِ على فرصةٍ/عملٍ. لكنّ بوشناق لم يكتفِ بالتلميح لذلك، بل قدّمه متسوّلا بالفعلِ عبر شخصيّةِ الشّريدِ ذي الأجنحةِ. وعموما فما يجمع هؤلاء الّذين سوف يُرونا ما لم نره في عمرنا، هو بؤسُهم وانحطاطُ أوضاعهم وعيشهم على هامش العالمِ، بل في عالمٍ آخر تمامًا كما الحالُ مع الأمهقِ. ومع أنّ الفلمَ يحاولُ أن يُبرزَ أثر الفنِّ على الإنسانِ كقوّةِ خلاصٍ، فإنّه لم يسعَ لاستبدال الصورة النمطيّةِ لـ "فنّان الغلبة" الّتي نجدُها في الأعمال الدراميّة الكلاسيكيّةِ ذات البُعد الاجتماعيِّ، بصورةٍ تناسبُ قدرته على الفعلِ والتّأثيرِ. ذلك أنّ "فرططّو الذهب" مرّة أخرى، يفشلُ في استحضار شروط الفانتازيا.
نتبيّن خطّا رابعا في صورةِ معزّ، وهو خطّ البوليس. وأستعمل لفظة "البوليس" بدالَ رجل الأمن هنا لأن لا أحد يشعر بالأمن في حضرةِ أناسٍ كهؤلاء. وأعتقد أنّ بوشناق اعتنى بهذا الخطّ وبالغ في الاهتمامِ بمُنحنياتِه. وإنّي أرجّح اختياره لمحمّد السّويسي لهذا الغرضِ بالأساس: طويلٌ، ذو ملامحَ غليظةٍ ونظرات ثاقبة مليئة بالعنفِ. لا يملك قواما رشيقا، ولكنّه يملك كتلة ضخمةً كأنّها الحضورُ المادّيّ لروحٍ همجيّةٍ. ثمّ، كنارٍِ على علمٍ، يمنحُه حذاءً يضاهيهِ ثِقلاً وضخامة وعُنفا. نتحصّل في النّهايةِ على تمثّلٍ قويٍّ لرجلِ البوليس، كسالبٍ Negative لصورة الفنّانِ. ولأنّ بوشناق لا يريدُ لأفكارِه أن تحافظ على جمالِ بساطتِها، فقد فضّل أن يتجاوز هذا المعنى، ويستطرد أكثر في مسألةِ الأمنِ والعنفِ. لم يعد لنا مثالٌ واحدٌ بل مثالان متقابلان: معزّ الانفجاريِّ، والمنذرُ رئيسه الهادئُ الأنيق (إبراهيم زرّوق). يقدَّم المنذر من خلالِ فضاءاتِه: مكتبه ومنزلِه، وأيضا من خلالِ عائلتِه (تقوم بدور زوجته رباب السّرايري). وعلى طريقةِ أغنية لَبِنَةٌ في الجدار A brick in the wall، يُشحَن ظاهرُ المنذرِ الهادئُ بعنفٍ أكبر بكثيرٍ من ظاهرِ معزّ. سوف نلحظ هنا كيف تتميّزُ فضاءاتُ حضورِ المنذر بضوءٍ أكثرَ، وألوانٍ أقربَ للبياضِ والانفتاحِ في مقابلِ الظُّلمةِ وألوان النّيون الّتي تميّزُ عوالمَ معزّ. علاقتُه بزوجتِه تتلخّص في الكدماتِ على وجهها، وعلاقتُه بابنته تقفُ عند طاولةِ الطعامِ، وكلّ هذا صورةٌ معاكسةٌ لعالمِ معزّ وعلاقتِه بحبيبتِه وبالولدِ الّذي اصطحبه. ما الّذي يرسمُه بوشناق عبر كلّ هذا؟ ربّما مقابلةً بين عون البوليس الميدانيِّ البسيطِ، وأصحاب السّلطةِ الحقيقيّين، وأرباب العنف الهيكليّ. وهي لعمري مقابلةٌ ـ على رجاحتِها ـ لا تضيف شيئا إلى فكرةِ/أفكار الفلمِ الرئيسيّةِ. وقد يمكن أيضا ترجيحُ استعمالِ شخصيّة المنذر للتأكيد على أنّ عنف معزّ طارئ وليس متأصّلا فيه. نراهُ يمارسُ العنفَ، مثل أبيه، تعبيرا عن ألمه الّذي شقّ عليه. وهي فكرةٌ جميلةٌ لولا أنّنا في النهاية نتحصّل على عنفٍ أصليّ يتركُ كدماتٍ بسيطةً وعنفٍ مؤقّت يفقأ العيون ويقتل… وعلى كلّ حالٍ، فكلّ الجزء الخاصّ بالمنذر استطرادٌ طويلٌ ومملٌّ.
آخرُ الخطوطِ المكوّنةِ لملامحِ البطلِ، هو خطّ الحبيبِ، ويظهرُ في لقطاتٍ عابرةٍ غير ذاتِ بالٍ سوى للبناءِ السّرديّ المرتبك. فبعد أن "يصدم" المخرجُ المشاهدين بمشهد الفَقْءِ، يعودُ ليبرّر ذلك باغتصاب حبيبتِه بأيدي ضحيّتيْهِ. "هما إذا مذنبان، وربّما يستحقّان ما حاق بهما"، كأنّما يصبح الانتقامُ مشروعا خصوصا إذا ما كان المرءُ صاحب سلطةٍ (بوليس)... طبعا لن ندخل في مهاتراتٍ أخلاقيّةٍِ، ولا تحملُ كلُّ هذه المشاهدِ أية تفاصيل يعبّر من خلالِها المخرجُ عن موقفِه من سلوكات بطلِه. ولكنّ تقديمَ الاعتداءِ ثمّ تفسيرَه فيما بعد (بحثا عن التواءة أخرى)، يخلق نَفَسًا تبريريّا. وربّما هذا ما حدث بالفعلِ، فبعد أن يصدم المخرجُ المتفرّجين بمشهد الفقءِ منذ البدايةِ، كان عليْه أن يبرّره ليصنع بعض الانسجام الدّراميِّ، من هم هؤلاءِ، ولماذا قتلهم. وقد يفسّر ذلك اختلاف مشاهد معزّ مع حبيبتِه عن باقي لقطات الفلمِ أيضا. والمؤكّد أنّ معزّ الحبيب كان كقِطع الفراولة في فنجان قهوةٍ: لم ينجح في الانسجام مع باقي خطوط الشخصية فحسب، وإنّما شتّت مذاقاتِها، وهلهل الحبكة الدّرامية بشكل كبيرٍ.
إنّه ذات الخطإ الّذي اقترفه عبد الحميد بوشناق في "دشرة"، العجز عن لملمة خطوط السّردِ بعد الإفراطِ في تشبيكِها. هو نوع من الهوس الّذي يستبدّ بالكثير من المؤلّفين في بداياتهم، يدفعهم لخلقِ شيءٍ عبقريٍّ معقّد التفاصيل، ثمّ تكشف لهم التجاربُ عن قيمةِ البساطةِ وعبقريّتها. البلاغةُ في الإيجاز يقول الأقدمون، والجمالُ في البساطةِ، وكلّما أضافُ المرءُ كلماتٍ للجملةِ، كلّما زاد احتمالُ اللّحن (الخطإ).
الفانتازيا هو آخر شيءٍ يمكن أن نصف بهِ فلمَ فرططّو الذّهب لعبد الحميد بوشناق. ليس لأنّ الفلمَ لا يقدّم أيّ عنصرٍ فانتازيٍّ، فكما قلنا، لم تكن المشاهد العجيبة هنا سوى هلوساتِ ذُهانٍ دونكيخوتيّةٍ. وليس لأنّ تلكم المشاهد كانت معزولةً وسط الفلمِ، لا تُشبِهُه ولا تؤثّر على شيء من أحداثِه، وتكتفي بمدلولاتِها الذّاتيّةِ (هذه التّجارب العجيبة الّتي لم يرَ مثلها الولدُ من قبل، هي ما يقدّمُه الفنُّ للناسِ، هي شيءٌ أجملُ من الحقيقةِ، وأكثرُ جمالا) كأنّها فاصلٌ وسط الحكايةِ. بل أكثر من ذلك، فالفلمُ يستعملُ لغةً واقعيةً لا تمتُّ بصلةٍ للفانتازيا. ونجدُ مشاهدَه مغمورةً أغلب الوقت في مياهِ الواقعية الاجتماعيّةِ، حتّى في تعبيرِه عن قضيّته الأساسيّةِ أي قضيّة الفنّانِ، وأثر العملِ الفنّيِّ. تحاول بعض الأقلام أن تجدَ حلاّ توفيقيّا باستعمال مصطلح الواقعيّة السحريّةِ. حيث تمتزج سيميائيّةُ الواقعيّةِ Realism بعناصر الفانتازيا. ولكن حتّى في هذه الحالةِ، فالعجائبيُّ لا يُنكرُ ويجد اعترافا وقبولا حسنًا. قططُ موريكامي تتحدّث في واقعِه لا في أحلامِ أبطالِه. لقد حاولَ بوشناق أن يكسر محرّمات السينما العربية بتجاوزِ نظرتِها الكلاسيكيّةِ للفلمِ كوِحدةِ رصدٍ للواقعِ وللمجتمعِ بالأساسِ، ولكنّه عِوضَ أن يفعلَ، فقد رسّخ لتلك النّظرةِ وبرهنَ ربّما أنّ الحواجز بين السينما العربية والفانتازيا لا تعودُ للجمهور وإنّما للفنّان نفسِه.
ما العجائبيّ الّذي يجدُه المرءُ في هذا الفلم؟ أن يعيش أحدُهم حالةً من الهلاوس البصريّة؟ أن يعيش واقعا بديلا؟ أن ينقطعَ عن العالمِ ويبنيَ مكانه وهمًا عجائبيا؟ ربّما من الضّروريِّ أن نستذكر أحداثَ الفلمِ الكبرى بعجالةٍ حارقةٍ للأحداثِ ومفاجآتها علّنا نرشُد إلى ما كان خفيّا.
ها هنا معزّ (محمد السويسي) ابن الممثّل السابق (فتحي الهداوي) الّذي كسدت تجارتُه فانقطع للشرابِ وسوء معاملة أهلهِ حتّى انتقلت فظاظتُه لابنِه ففاقه فيها. لكنّ حدثيْن مهمّيْن يقصمان ظهر الفتى: الاعتداء حتى الموتِ على حبيبته من قبلِ مُنحرفيْنِ، وإصابتُه بمرضٍ في عينيْه قضى بفقدان بصرِه في القريب العاجلِ. هكذا يُطلقُ العنان لهلاوسِه الذهنية والبصريّة لتختلق قصّة الطّفل الوهميِّ إذ يأتيه مصحوبا بتحاليل طبيةٍ تُعلنُ اقتراب أجَلِ ضَرارتِه، فيقرّر بعد لأْيٍ أن "يُريه اللّي عمره ما شافه": يصحبُ ذاتَه الطّفلة في رحلةٍ في ذاكرتِه، يستعيدُ عوالم أبيه المسرحيِّ، يتصالح مع جرائم أبيه السكّيرِ، ويكشف لنا أنّه والطّفلَ واحدٌ. لم يكن هناك متسوّل بأجنحةٍ، ولا مومسٌ بعيونٍ في أعلى الرأس، ولا أمهق يتحوّل إلى مذؤوب مفترس. كلّها خيالاتٌ انتقلت من ذاكرة البطلِ إلى واقعِه المتوهَّمِ، كما يحدث في الكثير من حالات الذُّهانِ والاضطرابات النفسية المختلفةِ، فما العجائبيُّ في كلّ هذا؟
هناك أمثلة كثيرة مشابهة، ربّما أشهرها ـ ممّن أستحضرهم ـ الرّجل الطّائر Birdman لألخندرو إنيارّتو، وأقربُها لمثال بوشناق، فلمُ "أنا سايبورغ ولا بأس بذلك" للكوريِّ الجنوبيِّ الرّائع تشان ووك پارك Chan-wook Park. وجميعها لا تحاولُ إقناعنا بأيّة سرديّةٍ عجائبيّةٍ، بل إنّها تستعمل العجائبيَّ لتحييد البطلِ عن الحقيقةِ، وتأكيد عجزِه عن مواجهتها. وانطلاقا من هذا المعنى، ففرططّو الذّهب دراما واقعيّةٌ بسيطةٌ حاولَ عبرَها بوشناق أن يسيرَ في خطوطٍ متشابكةٍ تشكّلُ ملامِحَ شخصيّةِ معزّ.
معزّ المريض هي أوهن هذه الخطوطِ. نجدُه يعاني من داءيْنِ أبلغُ في دلالتهِما من حضورِهما. فأمّا ذهابُ بصرِه، فيدلُّ على ذهابِ بصيرتِه، وافتراقِ طباعِه عن طبيعتِه. نرى ذلك جليّا في معاملتِه لجارِه، وفي معاملتِه للطفلِ-ذاته حين أتاهُ. بل أوضحُ من ذلك، امتهانُه خدمة البوليس المشحونةِ بكلِّ معاني العنفِ وصُورِه. وأمّا إصابتُه بالذُّهانِ فليس أكثرَ من حيلةٍ روائيّةٍ لتبريرِ ما كاد يكون عجائبيّا، ولنقلِه إلى خانةِ الواقعيّةِ. وبلغة الشطرنج، فهي ذلك الخطأ الفادح Blunder الّذي يحوّل النّصر إلى اللانصر، والفانتازيا إلى اللاخيال. وكمثلِ تلكَ الحيلةِ السّخيفةِ الّتي يلجأ إليها الرّواةُ حين تتعقّد رواياتُهم فيُوقظونَ أبطالَهم من النّومِ في النّهاية، برهنَ عبد الحميد بوشناق عن خوفٍ مُبهمٍ من الفانتازيا، إنّني أكادُ أراهُ يتجوّل في قاعةِ العرضِ المظلمةِ ويهمسُ في آذانِ المشاهدين بضحكةٍ عصبيةٍ خافتةٍ: لا تأخذوها على محملِ الجدِّ، أنا نفسي لا أفعل ذلك!
يبرِّرُ الذّهانُ الفانتازيا، ولكن ما الّذي يبرّرُ الذهان؟ حادثةُ صديقتِه؟ نرجّح ذلك، ولكنّ البناء السّرديَّ لا يَفتَرُ عن حبكةٍ شديدةِ التّماسُكِ، ويكتفي بإلقاءِ الأحداثِ جزافا تاركًا للمشاهدِ عبء التّركيبِ. أليس هذا جميلا؟ يهمسُ أحدُهم، فأجيبُ، بلى، إذا كانت القِطعُ المُلقاةُ قابلةً للتّركّبِ دون تعسّفٍ…
في خطٍّ آخرَ، يرسمُ بوشناق صورةَ معزّ الإبن. فيُناظرُ بين علاقتِه ـ رجلاً ـ بذلك الطّفل الّذي كفِله، وبين علاقتِه طفلاً بأبيهِ في الماضي. هكذا سار الفلمُ مُراوِحا بين مغامرةِ معزّ والطّفل الغامضِ، وبين ماضي معزّ مع أبيه السكّير العنيفِ عبر تكثيفٍ للقطات الاسترجاع Flashback. ولأنّ المخرج اختار حرمان المشاهدِ من تفسير العلاقةِ بين الماضي والحاضرِ، فقد كانت المراوحةُ ثقيلةً وتشي بتشتّتٍ في الأفكارِ. الكثير من التقفيز (Jump cut) والنّادرُ من الوصل (Match cut) لا يساعدان في فهم المقارنة المُقترحة. الأهمّ من هذا، هل نجح التناظر حقا؟ في مغامرةِ البطلِ والطّفلِ التّائهِ، تنجح الفانتازيا بطريقةٍ ما في ترويضِ معزّ والخروجِ بِه من مستنقع العنفِ والذّهانِ. تُصالِحُه مع ماضيه وتُعيدُه إلى واقعِه. أمّا في قصّتةِ مع أبيهِ عبد الوهاب (الهدّاوي)، فلا يحضُر المسرحُ (مقابل الفانتازيا) إلاّ في النّهايةِ (لدواعٍ سرديّةٍ)، ولكنّنا نُدركُ أنّه لم ينجح في انتشالِ عبد الوهاب من محنتِه، بل إنّه مُسبِّبُها. وبالتّالي فقد أدخلنا بوشناق في مقارناتٍ خياليّةٍ وغير مفيدةٍ بسبب تكثيف الاسترجاع، وعموما فقد كان البناءُ السّرديّ غير متوازنٍ بالمرّةِ بسبب إصرارِ بوشناق على استحداث التواءةٍ سرديّة plot twist لم تباغت أحدًا.
خلافا لصورةِ المريضِ، فإنّ صورة الإبنِ جوهرية. فما الفلمُ إلاّ محاولةٌ لتفكيكِ عناصرِ العلاقةِ المعقّدةِ بين الإبنِ وأبيهِ. فيقترحُ ظاهرًا مشحونا بالعنفِ والاستهتارِ: استهتارُ الإبنِ بحالةِ أبيهِ الحاضرةِ، مقابل استهتار الثاني بعائلتِه كلّها في الماضي. ثمّ يكشفُ رويْدا رويْدا عن باطنٍ مثقّل بالآلامِ. ومع تصاعد وتيرةِ العنفِ والألمِ (لدواعٍ غير مبرّرةٍ تقريبا)، نصلُ إلى لحظة المصالحةِ: فيتصالحُ الأبُ وابنُه حين يتصالحُ الإبنُ وذاته. يستعملُ بوشناق في هذا الخطِّ، شخصيّةً ثالثةً هي شخصيةُ الأختِ (هاجر عيّاد). إنّها أيضا ابنةُ عبد الوهاب ولكنّ علاقتَها به تختلف جذريا، فقد تقبّلت أسلوب أبيها، وربّما أبدت قوّة شكيمةٍِ لا يملكُها أخوها الغاضبُ، العاجزُ عن المواجهةِ. والحقيقةُ أنّ دورَ هاجر عيّاد رغم براعةِ الأداءِ وقوّة الحضورِ، يكادُ يرجعُ بالفلمِ إلى خانةِ الأعمال الاجتماعيّةِ البائسةِ، ولا يحقّقُ للفكرةِ/الأفكار الرّئيسيّة أيّة نقاطٍ إضافيّة.
أعتقد أنّ أيَّ وَلَدٍ ينظُر عادةً إلى أبيهِ بتعظيمٍ وإجلالٍ. سيكون قُدوتَه الأولى ومرآةَ الكمالِ في عينيْهِ ولو لزمنٍ بسيطٍ قبل أن يصابَ بخيبةِ الأملِ الّتي ستسمحُ له بالانفصالِ بشخصيّتِه بعيدًا. ثمّ إنّه سوف يحتاج إلى وقتٍ قصر أو طالَ ليتقبّل هذا الانفصالَ، ويتصالحَ مع والدِه مجدّدا وقد تدرّج من مرتبة الإله إلى الشيطانِ ثمّ الإنسانِ. ولقد عبّر بوشناق عن هذه الرّحلةِ بصدقٍ متلعثمٍ. ولئن أخذ معزّ عن أبيه حُبَّهُ للفنِّ، فقد كان انفصاله عنه انفصالا عن الفنِّ أيضا، وآثر العملَ شرطيّا يمارسُ العنفَ بإفراطٍ. أفيلعنُ بذلك أباهُ على "محنةِ" الفنّ الّتي أورثه إيّاها؟ يقولُ بوشناق إنّ ثمّة 70% منهُ في الفلمِ، ولأنّنا نستبعدُ تشابه ظاهر علاقةِ معزّ وأبيه بتلك الّتي تجمعُ المخرجَ بالفنّان لطفي بوشناق، فلا نستبعد عناصرَ من باطنها. وهو ما يحيلُ على خطّ ثالثٍ مشكّلٍ لشخصيّةِ معزّ، وهو الفنّان.
لقد دفن معزّ ذلك الفنّان الّذي كان يمكن أن يكونه، وأصبح بوليسا بكلّ العنفِ الّذي يمثّله. ومع حلولِ الطّفلِ الغامضِ في حياتِه، استنجدَ تلقائيّا بما علق في ذاكرتِه من "فنونِ" أبيهِ لينقذ نفسه. لكنّ معزّ طوال الفلمِ لم يتقمّص قميصَ الفنّانِ، بل تركَ ذلك لمختلفِ الشّخصيّاتِ الخياليّةِ الّتي قدّمَها للولدِ: الشريدُ ذو الجناحيْن، المومسُ ذات العيون الخمسة، الكائنُ الخفيُّ ذي اللسانِ الحربائيّ وأخيرا ذلك الأبهق المذؤوب. وقبل هؤلاءِ، يمثّل الأبُ عبد الوهاب صورةَ الفنّانِ أهمَّ تمثيلٍ في الفلمِ، فما الّذي يجمعُ خمستَهم، وكيف تمثّل عبد الحميد بوشناق الفنّان؟ ظهر عبد الوهاب بحُلّةِ المهرّج في ومضاتٍ استرجاعيّةٍ سريعةٍ خاطفةٍ، تحكي عن تجربةِ أداءٍ Casting خائبة. وفضلا عن افتقارها للطّرافةِ، فهي تقدّم الفنّان في حُلّةِ المتسوّل المتوسّلِ للحصولِ على فرصةٍ/عملٍ. لكنّ بوشناق لم يكتفِ بالتلميح لذلك، بل قدّمه متسوّلا بالفعلِ عبر شخصيّةِ الشّريدِ ذي الأجنحةِ. وعموما فما يجمع هؤلاء الّذين سوف يُرونا ما لم نره في عمرنا، هو بؤسُهم وانحطاطُ أوضاعهم وعيشهم على هامش العالمِ، بل في عالمٍ آخر تمامًا كما الحالُ مع الأمهقِ. ومع أنّ الفلمَ يحاولُ أن يُبرزَ أثر الفنِّ على الإنسانِ كقوّةِ خلاصٍ، فإنّه لم يسعَ لاستبدال الصورة النمطيّةِ لـ "فنّان الغلبة" الّتي نجدُها في الأعمال الدراميّة الكلاسيكيّةِ ذات البُعد الاجتماعيِّ، بصورةٍ تناسبُ قدرته على الفعلِ والتّأثيرِ. ذلك أنّ "فرططّو الذهب" مرّة أخرى، يفشلُ في استحضار شروط الفانتازيا.
نتبيّن خطّا رابعا في صورةِ معزّ، وهو خطّ البوليس. وأستعمل لفظة "البوليس" بدالَ رجل الأمن هنا لأن لا أحد يشعر بالأمن في حضرةِ أناسٍ كهؤلاء. وأعتقد أنّ بوشناق اعتنى بهذا الخطّ وبالغ في الاهتمامِ بمُنحنياتِه. وإنّي أرجّح اختياره لمحمّد السّويسي لهذا الغرضِ بالأساس: طويلٌ، ذو ملامحَ غليظةٍ ونظرات ثاقبة مليئة بالعنفِ. لا يملك قواما رشيقا، ولكنّه يملك كتلة ضخمةً كأنّها الحضورُ المادّيّ لروحٍ همجيّةٍ. ثمّ، كنارٍِ على علمٍ، يمنحُه حذاءً يضاهيهِ ثِقلاً وضخامة وعُنفا. نتحصّل في النّهايةِ على تمثّلٍ قويٍّ لرجلِ البوليس، كسالبٍ Negative لصورة الفنّانِ. ولأنّ بوشناق لا يريدُ لأفكارِه أن تحافظ على جمالِ بساطتِها، فقد فضّل أن يتجاوز هذا المعنى، ويستطرد أكثر في مسألةِ الأمنِ والعنفِ. لم يعد لنا مثالٌ واحدٌ بل مثالان متقابلان: معزّ الانفجاريِّ، والمنذرُ رئيسه الهادئُ الأنيق (إبراهيم زرّوق). يقدَّم المنذر من خلالِ فضاءاتِه: مكتبه ومنزلِه، وأيضا من خلالِ عائلتِه (تقوم بدور زوجته رباب السّرايري). وعلى طريقةِ أغنية لَبِنَةٌ في الجدار A brick in the wall، يُشحَن ظاهرُ المنذرِ الهادئُ بعنفٍ أكبر بكثيرٍ من ظاهرِ معزّ. سوف نلحظ هنا كيف تتميّزُ فضاءاتُ حضورِ المنذر بضوءٍ أكثرَ، وألوانٍ أقربَ للبياضِ والانفتاحِ في مقابلِ الظُّلمةِ وألوان النّيون الّتي تميّزُ عوالمَ معزّ. علاقتُه بزوجتِه تتلخّص في الكدماتِ على وجهها، وعلاقتُه بابنته تقفُ عند طاولةِ الطعامِ، وكلّ هذا صورةٌ معاكسةٌ لعالمِ معزّ وعلاقتِه بحبيبتِه وبالولدِ الّذي اصطحبه. ما الّذي يرسمُه بوشناق عبر كلّ هذا؟ ربّما مقابلةً بين عون البوليس الميدانيِّ البسيطِ، وأصحاب السّلطةِ الحقيقيّين، وأرباب العنف الهيكليّ. وهي لعمري مقابلةٌ ـ على رجاحتِها ـ لا تضيف شيئا إلى فكرةِ/أفكار الفلمِ الرئيسيّةِ. وقد يمكن أيضا ترجيحُ استعمالِ شخصيّة المنذر للتأكيد على أنّ عنف معزّ طارئ وليس متأصّلا فيه. نراهُ يمارسُ العنفَ، مثل أبيه، تعبيرا عن ألمه الّذي شقّ عليه. وهي فكرةٌ جميلةٌ لولا أنّنا في النهاية نتحصّل على عنفٍ أصليّ يتركُ كدماتٍ بسيطةً وعنفٍ مؤقّت يفقأ العيون ويقتل… وعلى كلّ حالٍ، فكلّ الجزء الخاصّ بالمنذر استطرادٌ طويلٌ ومملٌّ.
آخرُ الخطوطِ المكوّنةِ لملامحِ البطلِ، هو خطّ الحبيبِ، ويظهرُ في لقطاتٍ عابرةٍ غير ذاتِ بالٍ سوى للبناءِ السّرديّ المرتبك. فبعد أن "يصدم" المخرجُ المشاهدين بمشهد الفَقْءِ، يعودُ ليبرّر ذلك باغتصاب حبيبتِه بأيدي ضحيّتيْهِ. "هما إذا مذنبان، وربّما يستحقّان ما حاق بهما"، كأنّما يصبح الانتقامُ مشروعا خصوصا إذا ما كان المرءُ صاحب سلطةٍ (بوليس)... طبعا لن ندخل في مهاتراتٍ أخلاقيّةٍِ، ولا تحملُ كلُّ هذه المشاهدِ أية تفاصيل يعبّر من خلالِها المخرجُ عن موقفِه من سلوكات بطلِه. ولكنّ تقديمَ الاعتداءِ ثمّ تفسيرَه فيما بعد (بحثا عن التواءة أخرى)، يخلق نَفَسًا تبريريّا. وربّما هذا ما حدث بالفعلِ، فبعد أن يصدم المخرجُ المتفرّجين بمشهد الفقءِ منذ البدايةِ، كان عليْه أن يبرّره ليصنع بعض الانسجام الدّراميِّ، من هم هؤلاءِ، ولماذا قتلهم. وقد يفسّر ذلك اختلاف مشاهد معزّ مع حبيبتِه عن باقي لقطات الفلمِ أيضا. والمؤكّد أنّ معزّ الحبيب كان كقِطع الفراولة في فنجان قهوةٍ: لم ينجح في الانسجام مع باقي خطوط الشخصية فحسب، وإنّما شتّت مذاقاتِها، وهلهل الحبكة الدّرامية بشكل كبيرٍ.
إنّه ذات الخطإ الّذي اقترفه عبد الحميد بوشناق في "دشرة"، العجز عن لملمة خطوط السّردِ بعد الإفراطِ في تشبيكِها. هو نوع من الهوس الّذي يستبدّ بالكثير من المؤلّفين في بداياتهم، يدفعهم لخلقِ شيءٍ عبقريٍّ معقّد التفاصيل، ثمّ تكشف لهم التجاربُ عن قيمةِ البساطةِ وعبقريّتها. البلاغةُ في الإيجاز يقول الأقدمون، والجمالُ في البساطةِ، وكلّما أضافُ المرءُ كلماتٍ للجملةِ، كلّما زاد احتمالُ اللّحن (الخطإ).
الفانتازيا هو آخر شيءٍ يمكن أن نصف بهِ فلمَ فرططّو الذّهب لعبد الحميد بوشناق. ليس لأنّ الفلمَ لا يقدّم أيّ عنصرٍ فانتازيٍّ، فكما قلنا، لم تكن المشاهد العجيبة هنا سوى هلوساتِ ذُهانٍ دونكيخوتيّةٍ. وليس لأنّ تلكم المشاهد كانت معزولةً وسط الفلمِ، لا تُشبِهُه ولا تؤثّر على شيء من أحداثِه، وتكتفي بمدلولاتِها الذّاتيّةِ (هذه التّجارب العجيبة الّتي لم يرَ مثلها الولدُ من قبل، هي ما يقدّمُه الفنُّ للناسِ، هي شيءٌ أجملُ من الحقيقةِ، وأكثرُ جمالا) كأنّها فاصلٌ وسط الحكايةِ. بل أكثر من ذلك، فالفلمُ يستعملُ لغةً واقعيةً لا تمتُّ بصلةٍ للفانتازيا. ونجدُ مشاهدَه مغمورةً أغلب الوقت في مياهِ الواقعية الاجتماعيّةِ، حتّى في تعبيرِه عن قضيّته الأساسيّةِ أي قضيّة الفنّانِ، وأثر العملِ الفنّيِّ. تحاول بعض الأقلام أن تجدَ حلاّ توفيقيّا باستعمال مصطلح الواقعيّة السحريّةِ. حيث تمتزج سيميائيّةُ الواقعيّةِ Realism بعناصر الفانتازيا. ولكن حتّى في هذه الحالةِ، فالعجائبيُّ لا يُنكرُ ويجد اعترافا وقبولا حسنًا. قططُ موريكامي تتحدّث في واقعِه لا في أحلامِ أبطالِه. لقد حاولَ بوشناق أن يكسر محرّمات السينما العربية بتجاوزِ نظرتِها الكلاسيكيّةِ للفلمِ كوِحدةِ رصدٍ للواقعِ وللمجتمعِ بالأساسِ، ولكنّه عِوضَ أن يفعلَ، فقد رسّخ لتلك النّظرةِ وبرهنَ ربّما أنّ الحواجز بين السينما العربية والفانتازيا لا تعودُ للجمهور وإنّما للفنّان نفسِه.
No comments:
Post a Comment