من وحي لحظة حقيقية..
أنا ابن مدينة ميّـتة..
كلّما عدتُ إلى أحضانها، يستقبلني صقيع أناملها. لستُ غريبا و لكنّ أناملها باردة، و وجهها شاحب، و عيون أهلها سقطت مع خضرة أشجارها التي كانت تتخضب بها.. أسير في شوارعها متتبعا أثر طفولتي، لكن الشوارع فقدت ذاكرتها.. صدى الماضي يتردّد في خجل على ألسنة المارّة و رواد المقاهي، فبدا كأنه تسجيل خافت لأصوات المدينة حينما كان فيها حياة أو بعض حياة.. هل تغيرت المدينة؟ و هل يتغيّر الموتى؟ بعض الضمور لا أكثر.. التغيير لعبة من ألعاب الحياة.. ، ثم إنّ سمعك ينتبه إلى صراخ ساخر مقتضب مستهتر، لا هو بالغاضب و لا هو بالمرِح، و قبل أن تلتفت، كانت ذاكرتك قد عملت بما يليق، و إذا بك تبتسم في سعادة و أنت تستقبل وجه "يوسف المهبول"..
و من عادة يوسف حينما يحيّي الناس، أن يهتف بتحيته فتسمعه كل المدينة، و من عادته حينما يسأل الناس بعض المال أن يهتف بالسؤال فيعلم الجميع حاجته.. و حاجته يسيرة، لا تشقّ عليه و لا على مانحيه.. فيعود وسط النهار أو آخره بشيء من الخبز و التبغ و جريدة لا يعلم أحد ماذا يفعل بها.
هو لا يبحث عن عمل و لا يبدو أن أحوال البلاد و العباد تعنيه و تشغله.. و أي أمر يشغل بال هذا الرأس الأشعث الأشيب الكبير؟ إنه مجنون، لذلك لا يلتفت إلى أخبار عالم لا يعرفه. العالم عند يوسف، هو هذه الطريق التي تمنحه قوته، و البشرُ، هم هؤلاء الذين يلقاهم هنا. أما أولئك الذين تجود بهم شاشات التلفاز و صور الجرائد، أولئك الذين لا يرى جنونه في أعينهم المستغرِبة المشفقة، فلا يعينه أمرهم، و لا يعترف بوجودهم.
حكمة البشر ترنو أن تجد سببا لكلّ طريق نسلكها. الحاجة تصنع السبيل و تُوجد الهدف. و لأن يوسف لا يملك شيئا من حكمة أهل مدينته، فهو ينطلق في شوارعها بلا سبيل و لا هدف. لكنّه يجدّ في سيره، و ينظم خطواته في حركات عسكرية تخلق شيئا من الضحك البريء هنا و هناك.. حيثما يمرّ يوسف، يذوب الجليد عن الوجوه، و تنبت ابتسامة دافئة متحدّية الزمان. تبعته متعجبا لخطواته الواثقة، و يده التي تمتد أحيانا إلى المارّين كأنها تعطي و ليست بآخذة.
كيف يعرف المجنون طريقه؟ تلك القدمان الحافيتان الغليظتان. كأنهما تسألان الأرض في كل خطوة عن الخطوة التالية. هذا الجسم الضخم الذي كسته ثياب الحشمة، لا يبدو محتاجا إلى عقل ليهتديَ إلى طريقه. و لأنّ الفضول قد امتلكني، فقد أصررتُ على تتبّعه.. تجاوز الحديقة الكبيرة، و عرّج نحو سوق المدينة.. صوت العصافير و الرائحة الكريهة، جاران أزليّان هنا. يلقي يوسف التحية على العصافير بشيء من الصفير الرقيق الذي يجيده، و يتجه نحو الرائحة الكريهة كأنه على موعد مع فطور الصباح. لقد بدأت طقوس نبش القمامة..
يروي الناس قصة يوسف مع الجنون بشيء من الحسرة، و يضفون عليها ألوانا شتى من الدراما و من ألاعيب الخيال. قيل إنه على قدر كبير من الثقافة، و إنه اجتهد في علمه حتى ذهب به إلى بلاد الألمان، و إنه بذل من نفسه في تحصيل العلم بقدر ما بذل في تحصيل المال، فكان يرسل كل ما يبقى له إلى والده حتى يبنيَ له بيتا و يعدّ له العدة لعودته. و حينما عاد إلى الديار، اكتشف أن والده بذر ماله في أرحام بنات الحلال، و لم يترك له مليما واحدا. فكان ذلك سببا لخروجه عن حكمة البشر. و الحق أن القصة بدت لي أشبه بحكايات البوذيين، حتى إنني أتساءل أيّ عبقريّ صاغ أسطورة كهذه. أهو اللاوعي الجمعيّ حقا؟ أم هي طبيعة الحياة؟ و هل قصة كهذه تدعو إلى الحكمة أم إلى الجنون؟
وجد كتابا..
أخرجني المشهد من تأملاتي، فعدتُ أراقب يوسف مستندا إلى شجرة كينا (كالاتوس) نجت من مجازر بلدية المدينة. قلـّب الكتاب بين يديه المكتنزتين، و مسح عنه القذارة في عناية و اهتمام. ثم فتح الكتاب و بدا كأنه يقرأ بعض ما فيه. هل يجيد المجانين القراءة؟ ربما يجيدون قراءة كتب القمامة، فالحكمة تقضي أن لا يقرب المرء من القمامة و أن لا يفتح كتبها. اِبتعد عن الحاوية و محيطها مكتفيا بالكتاب الذي لقيه. كتاب كبير، أصفر الغلاف، لم تذهب بلمعانه القمامة، و لا تجاهلُ العاقلين. و الأرجح أنه معجم، يهدي الباحثين عن المفردات، و يجيب السائلين عن المعاني. هذا الجسم الذي ذهب عقله و تركه حافيا شبه عار يقتات من المارّة و القمامة، يهتمّ للغة و المعاني؟ ماذا يفيد منها؟ أيْ يوسف! إنك لتدهشني!
لكنّ الرجل لم يكتف بتنظيف الكتاب فحسب، بل إنه رفع رأسه و نادى الطفل المارّ بقربه ببساطة كأن بينهما قربى :" يا حمّادي! هاك كتاب، هاك!" و لأنّ الطفل لا يسمّى حمادي، و إنما هو اسم ينادي به يوسف جميع العاقلين، و لأن حكمة العاقلين قد تسرّب بعضها إلى رأسه الصغيرة، فقد ارتبك و جزع لهيئة المجنون المريعة، و خشيَ أن يصيبه مكروه، و ظنّ أنه غير معنيّ بالنداء. لكنّ شكل الكتاب أعجبه، و حمله على الثبات. أما يوسف، فلم يكن ليلحظ كلّ ذلك، كان جسده يستعيد مشيته الثابتة المتواضعة البسيطة، و هو يتقدم نحو الطفل فاردا يده بالكتاب نحو الفتى. فكّر الفتى قليلا، ثم اختطف الكتاب من يد المجنون و ركض مبتعدا، أما يوسف فأطلق ضحكة ساخرة و هتف مبتعدا : "أقرا مليح عاد!"
هممتُ أن أتبع يوسف، لكن سمعتُ هتافا حيث ذهب الفتى، فاستدرتُ أتابع ما حلّ به. كانت امرأة تنهره و تفتكّ الكتاب من يده. لعلّها أمه و قد رأته يأخذ الكتاب من المجنون. أسمعها تصرخ فيه مربيّة :" كيف تأخذ زبالة هذا المجنون؟ هل ينقصك كتاب في المنزل حتى تتسول من المتسولين؟! أعد الكتاب إلى القمامة و لا تعد إلى ذلك ثانية! تحرّك!"
للعقلاء حكمتهم، و للمجانين ضحكتهم الساخرة و كتبهم التي ترشدهم إليها أقدامهم الحافية.. للعقلاء مدينتهم الميّتة، و للمدينة مجانينها الذين يحيونها للحظة أو يزيد قليلا. فالمدينة و إن ذبلت، بمجانينها.
و من عادة يوسف حينما يحيّي الناس، أن يهتف بتحيته فتسمعه كل المدينة، و من عادته حينما يسأل الناس بعض المال أن يهتف بالسؤال فيعلم الجميع حاجته.. و حاجته يسيرة، لا تشقّ عليه و لا على مانحيه.. فيعود وسط النهار أو آخره بشيء من الخبز و التبغ و جريدة لا يعلم أحد ماذا يفعل بها.
هو لا يبحث عن عمل و لا يبدو أن أحوال البلاد و العباد تعنيه و تشغله.. و أي أمر يشغل بال هذا الرأس الأشعث الأشيب الكبير؟ إنه مجنون، لذلك لا يلتفت إلى أخبار عالم لا يعرفه. العالم عند يوسف، هو هذه الطريق التي تمنحه قوته، و البشرُ، هم هؤلاء الذين يلقاهم هنا. أما أولئك الذين تجود بهم شاشات التلفاز و صور الجرائد، أولئك الذين لا يرى جنونه في أعينهم المستغرِبة المشفقة، فلا يعينه أمرهم، و لا يعترف بوجودهم.
حكمة البشر ترنو أن تجد سببا لكلّ طريق نسلكها. الحاجة تصنع السبيل و تُوجد الهدف. و لأن يوسف لا يملك شيئا من حكمة أهل مدينته، فهو ينطلق في شوارعها بلا سبيل و لا هدف. لكنّه يجدّ في سيره، و ينظم خطواته في حركات عسكرية تخلق شيئا من الضحك البريء هنا و هناك.. حيثما يمرّ يوسف، يذوب الجليد عن الوجوه، و تنبت ابتسامة دافئة متحدّية الزمان. تبعته متعجبا لخطواته الواثقة، و يده التي تمتد أحيانا إلى المارّين كأنها تعطي و ليست بآخذة.
كيف يعرف المجنون طريقه؟ تلك القدمان الحافيتان الغليظتان. كأنهما تسألان الأرض في كل خطوة عن الخطوة التالية. هذا الجسم الضخم الذي كسته ثياب الحشمة، لا يبدو محتاجا إلى عقل ليهتديَ إلى طريقه. و لأنّ الفضول قد امتلكني، فقد أصررتُ على تتبّعه.. تجاوز الحديقة الكبيرة، و عرّج نحو سوق المدينة.. صوت العصافير و الرائحة الكريهة، جاران أزليّان هنا. يلقي يوسف التحية على العصافير بشيء من الصفير الرقيق الذي يجيده، و يتجه نحو الرائحة الكريهة كأنه على موعد مع فطور الصباح. لقد بدأت طقوس نبش القمامة..
يروي الناس قصة يوسف مع الجنون بشيء من الحسرة، و يضفون عليها ألوانا شتى من الدراما و من ألاعيب الخيال. قيل إنه على قدر كبير من الثقافة، و إنه اجتهد في علمه حتى ذهب به إلى بلاد الألمان، و إنه بذل من نفسه في تحصيل العلم بقدر ما بذل في تحصيل المال، فكان يرسل كل ما يبقى له إلى والده حتى يبنيَ له بيتا و يعدّ له العدة لعودته. و حينما عاد إلى الديار، اكتشف أن والده بذر ماله في أرحام بنات الحلال، و لم يترك له مليما واحدا. فكان ذلك سببا لخروجه عن حكمة البشر. و الحق أن القصة بدت لي أشبه بحكايات البوذيين، حتى إنني أتساءل أيّ عبقريّ صاغ أسطورة كهذه. أهو اللاوعي الجمعيّ حقا؟ أم هي طبيعة الحياة؟ و هل قصة كهذه تدعو إلى الحكمة أم إلى الجنون؟
وجد كتابا..
أخرجني المشهد من تأملاتي، فعدتُ أراقب يوسف مستندا إلى شجرة كينا (كالاتوس) نجت من مجازر بلدية المدينة. قلـّب الكتاب بين يديه المكتنزتين، و مسح عنه القذارة في عناية و اهتمام. ثم فتح الكتاب و بدا كأنه يقرأ بعض ما فيه. هل يجيد المجانين القراءة؟ ربما يجيدون قراءة كتب القمامة، فالحكمة تقضي أن لا يقرب المرء من القمامة و أن لا يفتح كتبها. اِبتعد عن الحاوية و محيطها مكتفيا بالكتاب الذي لقيه. كتاب كبير، أصفر الغلاف، لم تذهب بلمعانه القمامة، و لا تجاهلُ العاقلين. و الأرجح أنه معجم، يهدي الباحثين عن المفردات، و يجيب السائلين عن المعاني. هذا الجسم الذي ذهب عقله و تركه حافيا شبه عار يقتات من المارّة و القمامة، يهتمّ للغة و المعاني؟ ماذا يفيد منها؟ أيْ يوسف! إنك لتدهشني!
لكنّ الرجل لم يكتف بتنظيف الكتاب فحسب، بل إنه رفع رأسه و نادى الطفل المارّ بقربه ببساطة كأن بينهما قربى :" يا حمّادي! هاك كتاب، هاك!" و لأنّ الطفل لا يسمّى حمادي، و إنما هو اسم ينادي به يوسف جميع العاقلين، و لأن حكمة العاقلين قد تسرّب بعضها إلى رأسه الصغيرة، فقد ارتبك و جزع لهيئة المجنون المريعة، و خشيَ أن يصيبه مكروه، و ظنّ أنه غير معنيّ بالنداء. لكنّ شكل الكتاب أعجبه، و حمله على الثبات. أما يوسف، فلم يكن ليلحظ كلّ ذلك، كان جسده يستعيد مشيته الثابتة المتواضعة البسيطة، و هو يتقدم نحو الطفل فاردا يده بالكتاب نحو الفتى. فكّر الفتى قليلا، ثم اختطف الكتاب من يد المجنون و ركض مبتعدا، أما يوسف فأطلق ضحكة ساخرة و هتف مبتعدا : "أقرا مليح عاد!"
هممتُ أن أتبع يوسف، لكن سمعتُ هتافا حيث ذهب الفتى، فاستدرتُ أتابع ما حلّ به. كانت امرأة تنهره و تفتكّ الكتاب من يده. لعلّها أمه و قد رأته يأخذ الكتاب من المجنون. أسمعها تصرخ فيه مربيّة :" كيف تأخذ زبالة هذا المجنون؟ هل ينقصك كتاب في المنزل حتى تتسول من المتسولين؟! أعد الكتاب إلى القمامة و لا تعد إلى ذلك ثانية! تحرّك!"
للعقلاء حكمتهم، و للمجانين ضحكتهم الساخرة و كتبهم التي ترشدهم إليها أقدامهم الحافية.. للعقلاء مدينتهم الميّتة، و للمدينة مجانينها الذين يحيونها للحظة أو يزيد قليلا. فالمدينة و إن ذبلت، بمجانينها.
كانون الثاني 2014
No comments:
Post a Comment