من المؤكّد أن هذا العام السينمائيّ أسوأ من سابقيه، ومن المؤكّد أنّ هناك شعورا عاما بتغيّر يحصل في هوليود، وينقل الأفكار والجنون والنجوم والمبدعين إلى الشاشة الصغيرة. ولكنّ الابداع خارج الولايات المتحدة ظلّ سخيّا وأتحفنا بصور عبقرية عن العالم كما يراه إنسان اليوم.
في هذه القائمة، أقدّم لكم أهمّ أفلام سنة 2016 التي شاهدتُها. وهذا يعني أنني استثنيت الأفلام التي بثّت للعموم سنة 2016 رغم كونها صدرت في 2015 وأخصّ بالذكر فيلم The revenant للمخرج المكسيكي أليخاندرو إنيارتو Alejandro Iñárritu الذي حصد أوسكارات أفضل إخراج وأفضل سينماتوغرافيا وأفضل ممثل في حفل هذا العام. فيلم ناطحة السحاب High-rise البريطانيّ عرض أيضا في مهرجان تورونتو سنة 2015 ولكنّه لم يعرض في بريطانيا إلا منتصف 2016، وهو فيلم يستحق أن يتواجد في القائمة، وفيلم عناق الثعبان الذي بدأ عرضه في نهاية 2015 بالفعل، ولم أشاهده إلا هذه السنة وأجده أفضل من كلّ أعمال 2016.
وتشهد القائمة تنوّعا كبيرا بين أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية وآسيا، وهو أمر مثير، ذلك أن عالم السينما بات أكثر تحرّرا من الأحكام المسبقة ومن الخيالات الجاهزة ومن الصناعة المعتادة. إنه رغم ما يبدو عليه من أزمة، أكثر تجدّدا وجرأة.
12 - المجيء Arrival
كان العام يمضي نحو فشل ذريع في جانب الخيال العلميّ عكس السنوات الماضية، ولكن يبدو أن فيلم المجيء سيلعب دور المنقذ. يستعيد المخرج الكندي دنيس فلنوف Denis Villeneuve تيمة "الاتصال الأول" المألوفة في أدب الخيال العلميّ، ليزورها في أعماقها ويكسبها طابعا أكثر جدّيّة من تلك التي نعرفها بها في الأفلام السابقة.
تعنى أفلام الاتصال الأول بتصوّر المقابلة الأولى التي ستحدث بين الإنسان والمخلوقات الفضائية، وفي هذا الفيلم كان الاهتمام بتفاصيل اللقاء غير مسبوق. ركّز فيلنوف كثيرا على إيجاد خيالات على قدر من الدقة العلمية، فاهتمّ بشكل سفينة الفضاء، وفارق الضغط الجوي الذي يعيش فيه الفضائيون والأرضيون، كما كان تصوّر فيزيولوجيا الفضائيين غريبا وغير مألوف على العادة السينمائية الهوليودية (لا توجد عينان طوليّتان ولا بشرة خضراء الخ) والأهمّ أن عمليّة التواصل بين الكائنين كانت عقدة الفيلم الرئيسية.
حاول فيلنوف عبر هذا التصوّر الخصب أن يطرح أسئلة كثيرة حول علاقة الإنسان بالكون، ومدى جاهزيته للالتفات إلى الفضاء الفسيح، وحول إشكالية اللغة لا كوسيلة اتصال مع الآخر فحسب، بل كحامل ثقافيّ وفكريّ خطير يوجّه طرق تفكيرنا ويساهم في تأسيس ذواتنا. الفيلم من بطولة المتألقة هذا العام آمي أدامز Amy Adams ولقد حصل بالفيلم على جائزة اختيارات النقاد لأفضل فيلم خيال علمي أو رعب لهذا العام، كما رشحت Amy Adams لجائزة الغولدن غلوب Golden Globe لأفضل آداء نسويّ في عمل سينمائيّ دراميّ.
11 - آكواريوس Aquarius
كنت قد تحدّثت مطوّلا عن فيلم آكواريوس في مقال سابق. ويمكن أن أكتفي بالتذكير بأن فيلم المخرج البرازيليّ كليبير فيلهو Kleber Filho قد عرض لأول مرة في مهرجان كانّ Cannes Film Festival وسط احتجاج طاقم الفريق على ما أسموه "عملية انقلاب على الرئيسة الشرعية ديلما روسيف". والفيلم نفسه لا يخلو من الطابع السياسيّ رغم أنه يروي قصّة امرأة مثقفة تحاول الحفاظ على منزلها من سرطان المقاولات الذي يغيّر وجه المدينة وذلك بعد أن تمكنت في زمن سابق من الحفاظ على حياتها من سرطان الثدي.
يتميّز الفيلم باعتماده على البساطة التي لم تمنع ثراءه في مختلف المستويات، فلم تكن الصور مثقلة بالعناصر والشخصيات، ولم تكن الأحداث شديدة التواتر، واتسمت المشاهد بطولها النوعية ما أفسح المجال للنجمة سونيا براغا Sonia Braga لأن تتألّق في دور كلارا بشكل لافت جدّا. كما سمحت تلك اللقطات العامّة Long shots بإحداث مقابلة بين كلارا في مواجهة الأخطار المحدقة بحياتها، وبين المدينة البرازيلية رسيفي Recife والعصر الجديد بعصاباته السياسية ولاأخلاقيته الاقتصادية الذي يمتصّ منها رونقها القديم.
10 - مانشستر عند البحر Manchester by the sea
يمكن لمشهد واحد في بعض الأحيان أن ينقل فيلما إلى مستوى آخر من الإبداع، وأعتقد أن فيلم مانشتر عند البحر سيظل وفيّا لأحد مشاهده الأخيرة والمحطّمة للأعصاب. لكنّ الفيلم برمّته لا يقلّ تميّزا، ويمكن اعتباره مفاجأة هذا العام في لحظاته الأخيرة. رشح الفيلم بالفعل لأغلب جوائز اختيارات النقاد وحصل منها على جائزة أفضل ممثل وأفضل ممثل شابّ وأفضل سيناريو أصليّ كما رشح لأغلب جوائز الغولدن غلوب المهمة (أفضل فيلم، أفضل ممثل، أفضل ممثلة، أفضل مخرج وأفضل سيناريو أصلي) وأكاد أجزم أنه سيرشح لنظيرتها من جوائز الأوسكار.
أدّى كاسي أفلك Casey Affleck ببراعة مدهشة دور بوّاب (عامل صيانة منازل) لم يعد يملك تقريبا أي شيء يربطه بالحياة. ولكنّ وفاة أخيه تضطرّه للعودة إلى المدينة التي شهدت مأساته. وفي "مانشستر-عند-البحر"، تلقّى المفاجأة التي لم يكن ينتظرها، وصار عليه طبقا لوصية أخيه أن يعتني بابن أخيه المراهق حتى يبلغ سنّ الرشد القانونيّة، وهو ما يلزمه بالبقاء في ماشستر-عند-البحر (الحقيقة أنني لست واثقا تماما من الترجمة، ربما عبر البحر، المهم أن للأمريكيين طرقا غريبة في اختيار أسماء مدنهم). ترى ما الذي ينفّره من المدينة؟
9 - شيطان النيون The neon demon
من الغريب أن هذا الفيلم تعرّض لفشل تجاريّ كبير، ذلك أنه أكثر أعمال هذا العام استفزازا وإثارة لردود الفعل المتباينة. كعادة أعمال نيكولا ريفن Nicolas Refn، فقد شهد عرض الفيلم في مهرجان كانّ Cannes صافرات استهجان وأيضا تصفيقا حارّا، وبينما اعتبرته صحف أمريكيّة مثل نيويورك تايمز أسخف أفلام السنة، وأكثرها زيفا، اعتبرته مجلّة كرّاس السينما الفرنسية المرموقة ثالث أفضل فيلم لهذه السنة.
تعود ردود الفعل المتباينة إلى الجوانب الحسّاسة التي تطرّق إليها الفيلم عبر قصّة دخول جيسي Jesse إلى عالم العارضات القذر، ولم تكن النكروفيليا سوى جانب هامشيّ من بينها. لقد أثار جمالُ جيسي النقي الطبيعيّ غيرة صديقاتها وحسدهنّ ما فتح الباب لشياطين كثيرة أن تخرج. وقد كان شيطان نيكولاس ريفن السرياليّ جاهزا لإخراج الصور الجديرة بفظاعات هذا العالم.
إنّ الإنسان ملعون بالجمال، ويبدو كأن كل الحكمة البشرية التي حاولت تخليصنا من اللعنة وخلق بعد جماليّ خارج مستوى البصر لم تنجح في قلب الحقيقة المخزية، يقول المصمّمُ سارنو Sarno لجيسي : ليس الجمال كلّ شيء، بل هو الشيء الأوحد.
8 - البقاء واقفا Rester Vertical
يمكن اعتبار هذا الفيلم منافسا لابأس به لشيطان النيون على مستوى الاستفزاز. وقد لقي إشادة كبيرة في أوروبا، وحاز على المرتبة السابعة في قائمة كراس السينما. والفيلم يروي قصة ليو Léo المخرج السينمائيّ الذي قاده البحث عن الالهام إلى علاقة بامرأة ريفيّة، وفي ظلّ تواصل أزمة المبدع التي رافقته، وضغط المنتج الذي قطع عنه التمويل، كان عليه الاعتناء وحيدا بطفله الرضيع.
أحداث الفيلم دوما مفاجئة وتراوح بين المدهش والمفزع والسخيف، رغم طابعها الواقعيّ الرتيب. ولقد مكّنه هذا الأسلوب العبقريّ من التعبير بدقّة عن عجز الإنسان الأوروبي المعاصر وسذاجته تجاه تعقيدات العالم الجديد ومتطلباته، لقد صار الوقوف العموديّ ميزة هذا الكائن العاقل منذ ملايين السنين، مهمّة عسيرة وسط الذئاب.
7 - ديدبول Deadpool
كنت قد قدّمتُ فيلم ديدبول عند بداية العام، ذلك أنه كان المفاجأة السارة في سنة تعجّ بالأبطال الخارقين. ولئن كان الجميع ينتظر أفلاما واعدة مثل باتمان ضد سوبرمان أو الفرقة الانتحارية، فقد حقّقت أفلام أخرى مثل الدكتور سترانج Dr Strange نجاحا عظيما. والحقيقة أن الافراط في استغلال شخصية ما، يعجل بنهايتها التجارية، لذلك كان النجاح حليف الشخصيات الجديدة. ظهرت شخصية ديدبول بشكل ثانويّ في فيلم إكسمان وولفرين، ولكنها المرة الأولى التي يتمحور الفيلم فيها عليها.
وديدبول هو ذلك القاتل المأجور الذي يكتشف وهو في لجة الهوى أن أيام حياته باتت معدودة بسبب السرطان، فيقبل مساعدة مختبر مجرم مجنون يحوّل جسده جينيّا ويجعله ممسوخا. لكنّنا نعرف كل ذاك تباعا، إن القصة منذ بدايتها هي قصة انتقام وأيضا قصة رجل يحاول إنقاذ حبيبته من براثن الشرير، ولكن بأسلوب مغرق في الكوميديا والسخرية والإشارات السينمائية الذكية والوعي الذاتيّ بالنوع الفنيّ وكسر الجدار الرابع والقصّ اللاخطّيّ والصور المنتجة بالكمبيوتر بشكل بديع.
6 - شارع الغناء Sing Street
تلاعب جون كارني John Carney بأحساسي بشكل ممتع جدا من خلال هذا الفيلم الموسيقي الرائع، وبطله كونور Conor. نعيش مع كونور كل عناصر حياة المراهق بشكل كوميديّ وعميق، تأثره بأزمة عائلته المادّية، هروبه المستمرّ من تردّي العلاقة بين والديه، تعرّفه على العالم عبر عينيْ أخيه الأكبر، قصة الحبّ الطريفة التي تجمعه بالجميلة آن Anne، صراعه في المدرسة الدينية وخوفه من المدير المتسلط وفرقة الغناء التي أنشأها وعبر من خلالها عن ذاته وسط كلّ هذا.
الفيلم ميلودراميّ جدا، وهو رغم طابعه المرح بل المضحك واعتماده على الموسيقى، انطوى على حزن عميق. وهو ما لا تعكسه النهاية السعيدة إطلاقا. بل تبدو لنا نهاية الفيلم بمفهومها المباشر غير معقولة ولا تتماشى مع واقعيّته، بل هي أقرب إلى تلك الحلول التي تطرأ في خيالات المراهقين حين تغلق الأبواب في وجوههم. ويبدو أن المخرج أراد الانتصار لخيال كونور المبدع على حساب الواقع الكئيب.
5 - الرجل المبتسم Hymyilevä mies
إسمه أولي ماكي Olli Mäki وعمره ثمانية مباريات ملاكمة محترفة فقط، ويفصله القليل من الوقت عن أهم مقابلة في حياته المهنية الجديدة ضدّ بطل العالم، وبعض الكيلوغرامات التي يجب أن يتخلّص منها ليناسب وزن الريشة. في تلك اللحظات التاريخية من حياته، يتجلّى له شعور غريب لم يعرف مثله من قبل في شكل معلّمة بسيطة جميلة الابتسامة وإسمها ريا Raija.
فيلم الرجل المبتسم Hymyilevä mies أو كما ترجمه مخرجه يوهو كووسمانن "أجمل يوم في حياة أولي ماكي" The happiest day in the life of Ölli هو فيلم فنلنديّ عرض في مهرجان كان في مسابقة Un certain regard (نظرة ما) ولاقى استحسان النقاد لمسألتين الأولى اعتماده على الأبيض والأسود بشكل جماليّ مميّز (لم أجده حقيقة فيه) والثانية هي إعادة تشكيله لملامح سينما الملاكمة، تلك السينما التي تتميّز بالعنف المفرط (Raging Bull) والكفاح المميت من أجل بلوغ النجاح المقدّس (Rockie)، إن أولي ماكي فيلم رومانطيقيّ جدا في مختلف عناصره، حضور الطبيعة، كثافة المشاعر، استعادة الماضي، أهميّة الاستيطيقا في العمل ككل، والصمت الجميل الذي يروي تفاصيل الحكاية.
لكنّ أولي ماكي ليس مشهدا منبثقا من الفراغ، إنه إحدى التعبيرات الكثيرة التي تتراكم يوما بعد يوم فوق سطح العالم الجديد، ضدّ السباق المحموم الذي صار الإنسانُ يدفع إليه دفعا ويطالب بالانتصار فيه وضدّ عصر التنمية البشرية التي تمحور حياة الإنسان حول النجاح. ورغم اختلافه التام مع فيلم Whiplash في طريقة الطرح والأسلوب الفنيّ، إلا أنّ كليهما يلامسان الألم نفسه.
4 - يعيش القيصر! Hail, Caesar!
أعتقد أن رائعة الأخوين كوهين لهذه السنة قد وقعت ضحيّة قرار المنتجين بعرضها في بداية السنة ما يضاعف برأيي من حجم المهزلة. إن هذا الفيلم مجزرة بحق هوليود! أحد أجمل الأفلام الساخرة التي شاهدتها رغم كون الموضوع مستهلكا إلى حدّ كبير، حتّى إنّ الأخوين كوهين قدّما من قبل فيلما بعناصر مشابهة (Barton Fink 1991). ذلك أن المبدعين في هوليود قادرون دوما على التجديد حينما يتعلق الأمر بموضوعين اثنين هما صناعة السينما، والهولوكوست.
قصة الفيلم لا تكاد تعني شيئا هنا، نحن في عصر هوليود الذهبيّ، قبل بروز حركة الموجة الجديدة بفرنسا، حين كان المخرج السينمائي مجرّد موظّف عند المدير التنفيذيّ بالاستوديوهات العملاقة. يصوّر الأخوان كوهين عبر مشاهد متنوعة ستظل راسخة في الذاكرة ما أخفته عنّا كاميرا العصر الذهبي: نجوم الورق المصنوعة، الصحافة الجادة والعابثة التي تحمل الوجه نفسه، تأثير الدين والسياسة والاقتصاد على هوليود في مرحلة ما بعد الحرب وبداية الحرب الباردة. الله، الشيوعية، قياصرة العصر، الخطيئة، المال، الإيديولوجيا، التنظيمات السرية، الحرب والجوسسة، الفضائح، الأخلاق... كل شيء في هوليود يقدّم على الفنّ لأنّه :
Would that it were so simple? (أي أكان يمكن أن يكون بسيطا؟).
3 - ما روزا Ma' Rosa
أعتقد أن المخرج Brillante Mendoza لامع بالفعل. فالمرء يحتاج إلى أكثر من أدوات السينما السينما البسيطة التي استعملها لينجز شيئا عبقريا كهذا. شارك الفيلم في مهرجان كانّ Cannes الأخير وربحت فيه جاكلين خوسي Jacklyn Jose البطلة جائزة أفضل أداء نسائي. (الحقيقة أن أداء جاكلين لم يبد مبهرا ولعلّ فوزها بالجائزة كان من باب التعويض للفيلم الذي كان يستحقّ شيئا ما).
تدور الأحداث وسط طقس فيلبيني استوائي، حيث تمتزج غزارة الأمطار بحرارة الجوّ، وفي قلب حيّ شعبي فقير،تبدو فيه المقايضة أكثر انتشارا من العملة. وفي مكان كهذا يصبح كل شيء صالحا للارتزاق وتدبّر قوت العائلة وما يلزم الصغار من مصاريف لدراستهم وسهراتهم وما يحتاج إليه أيضا الزوج لتعمير "الكيف".
هكذا تعيش بطلة الفيلم Rosa Reyes، أو كما يناديها عائلتها Ma' Rosa، قبل أن تحدث المشكلة وتجد نفسها محتجزة في مركز الشرطة رفقة زوجها. لكن لا يزال هناك أمل لتنقذ نفسها وتتحرّر. هي فقط تحتاج إلى مجهودات أبنائها الثلاثة : بنت وولدان.
وعبر معاناة العائلة، نكتشفُ مجتمع الفيلبين بمختلف تفاصيله وأشكاله وتضاريسه وعجائبه، ما يجعل الفيلم بشكل ما أقوى تأثيرا وصدقا من الفيلم الوثائقي. لكنّ هذا ليس كلّ شيء، فما’ روزا هو أيضا فيلم لكل دول العالم الثالث، وهو صورة لمجتمعاتهم وفساد أنظمتها بشكل يثير الغيظ. لماذا لا يستطيع مبدع عربيّ إنجاز شيء عبقريّ كهذا؟
2 ـ شعر بلا نهاية Poesía sin fin
عالم خودورفسكي Jodorowsky لمن لا يعرفه سرياليّ مغرق في الواقعية، مغرق في الدهشة، مغرق في الرمزية أيضا. وفي "شعر بلا توقّف" لا يتخلّص من أدواته، وإنّما يخلطها بذاكرته وقد شارف على التسعين، ليحدثنا عن ذلك الزمن البعيد، هناك في تشيلي، حينما كان يافعا يبحث عن نفسه، ويحاول أن يفهم سرّ وجوده.
بطريقته الساخرة الكاريكاتورية والمتميّزة، يقلّب خودوروفسكي مرحلة المراهقة التي صنعت منه ماهو الآن عليه. يعيد تفكيك علاقاته القديمة مع عائلته ورفاقه الأوائل، يبرز قيمة كلّ من هذه العلاقات في بناء شخصيّته التي نعرفها، صديقه في محنة الشعر، حبيبته الشاعرة، أمّه الحالمة المنشدة، أصدقاؤه الفنّانون، ويقف طويلا عند علاقته المعقدة بوالده، هذا الأب المبالغ في حبّه حتّى القسوة المطلقة، "الرجال لا يبكون"، "الرجال لا يقرأون الشعر لأنه للشواذّ"، "الرجال يصبحون أطبّاء ويجمعون المال الكثير"...
كيف تسرّب الإبن الرقيق الخائف من بين براثن الأب ليعيش حياة الشاعر التي يتمنّاها؟ كيف تعامل مع جمهور المثقفين حين حانت له ولرفيق شعره، أن يقفا عند ذات المنبر الجامعيّ الذي وقف عنده شاعر تشيلي العظيم بابلو نيرودا؟ ماذا تعلّم من حبيبته ستيلا؟ وماذا تعلّم من صديق دربه انريكي؟ والأهمّ من هذا كلّه، ماذا يفعل الشاعر السوريّ الكبير عليّ أحمد سعيد اسبر، أو أدونيس في هذا الفيلم؟!
1 ـ طوني إغدمان Toni Erdmann
أعتقد أن هناك شبه إجماع بشأن أفضل فيلم لهذا العام، ولسبب غير مفهوم لم يحظ عمل المخرجة الألمانية ماغن آده Maren Ade بسعفة كانّ الذهبية رغم تنويه الجميع به. ولكنّ المؤكد هو أنه يتصدّر القائمة الطويلة للأفلام المرشّحة لأوسكار الفيلم الأجنبي.
طوني إيغدمان هي دراما كوميدية طويلة تتجاوز الساعتين ونصف، من بطولة الممثل النمساوي الرائع بيتر زمونيشك Peter Simonischek والممثلة الألمانية زَندغا هوله Sandra Hüller، وتروي لنا تفاصيل رحلة الأب الستيني السيد كونغادي Conradi إلى رومانيا من أجل انقاذ ابنته إيناس Ines المستشارة المتألقة في إحدى شركات الاستشارة العالمية العملاقة، ومع رفض إيناس لوجود أبيها إلى جانبها، وُلدت شخصية طوني إيغدمان، الرجل الغامض والظريف، تجده المرأةُ في كل مكان تقريبًا، ومع كل معارفها، فتتعقد مهمتها الاستشارية إلى حدود الانهيار.
يبدو الفيلم كوميديا في ظاهره، ولكنه مأساوي بشكل كبير في باطنه، إنه احتفاء ببساطة الحياة المعاصرة بقدر ما هو شكوى من خطاياها، محاولة لإيجاد سبب كافٍ للضحك رغم المآسي. ترجمت آده ذلك بعبقرية ألمانية أصيلة عبر مشهد العامل الروماني الفقير. جاء الأب (وابنته) ليستعمل مرحاضه (وما قد يرمز إليه ذلك) فأهداه العاملُ كيسٍا من التفاح وابتسامة بسيطة ساذجة. اِختصر إيغدمان تناقض الكوميدي والمأساوي في الفيلم بوصيته التي تركها للروماني الذي لا يعلم بعد أنه سيطرد آجلاً بسبب استشارة إيناس المنتظرة "حافظ على ابتسامتك دائمًا!".
لا يبدو العام بهذا السوء في نهاية الأمر. ربما لا توجد أعمال مرشّحة لأن تكون كلاسيكية في ما بعد، وربما يحتاج الأمر إلى شيء من الوقت لتكسب الأعمال قيمة إضافية. لكنّ الحصيلة ليست بهذا السوء. يمكن أن نضيف أعمالا كثيرة في القائمة تستحقّ المشاهدة، فهناك عمل جيم جارموش Jim Jarmush المسمّى Paterson والذي أثار ضجّة في إيران بسبب البطلة الإيرانية (گلشیفته فراهانی)، كما يمكن ترشيح الفيلم الإيرانيّ فروشنده (البائع) لأصغر فرهادي والفيلم الانكليزي أنا، دانييل بلايك (I, Daniel Blake) الفائز بالسعفة الذهبية، والفيلم الإيطالي نار في البحر (Fuoccomare) الفائز بدبّ برلين الذهبي، وخولييتا (Julieta) للإسباني المتألق بيدرو ألمودوفار، وآخر أعمال الكوريّ "تشان ووك بارك" المعينة Ag-ah-ssi وغيرهم.