يعتبر الفيلم الروائيّ في تونس حدثا ثقافيا وطنيا لندرة مثل هذه الأعمال، وصعوبة تحقيقها. ويزداد الحدث أهمّية حينما يكون صاحب الفيلم مخرجا معروفا، أثارت أعماله السابقة مجادلات وخصوما ومؤيدين. في حالة فيلم "على حلّة عينيّ"، نجد أنّ صاحبة العمل ليلى بوزيد هي ابنة المخرج التونسي الشهير النوري بوزيد، وهو أول أعمالها الطويلة، وهو أيضا صاحب التانيت البرونزي وجوائز أخرى في أيام قرطاج الأخيرة، بل تجاوز سياقه المحلّيّ بالمشاركة في مهرجانات عالميّة كالبندقية، وحصوله على المهر الذهبيّ في مهرجان دبيّ. طبيعيٌّ إذا أن يملأ الفيلمُ المشهد السينمائيّ التونسيّ وطبيعيّ أن يرافقه ذلك التساؤل الحرج: هل يستحقّ كل ذلك؟
من الغريب أن أجيب عن السؤال منذ البداية: أجل، أي فيلم تونسيّ يستحقّ كلّ ضجة ممكنة، لا بسبب قيمته لذاته، ولكن بسبب قيمة أن يكون هناك عمل سينمائيّ في بلاد تكاد تخلو من قاعات السينما. وبقدر أهمّية أن يكون هناك أعمال سينمائيّة، من المهم أيضا التفاعل معها، بالسلب أو بالإيجاب. وهو الدافع الأساسيّ من وراء المقال. فالحقيقة أنّ الفيلم لم يثر في نفسي أيّ شيء تقريبا، ولولا أنه فيلم تونسيّ لما كتبت عنه.
أهو سيّء إلى هذا الحدّ؟ مطلقا. هو عمل على قدر لابأس به من الصنعة على مختلف المستويات. فلا تلمس خللا في الصورة، ولا في التصوير. وهو من الأفلام التونسية القليلة التي تشعرك بالعمل المضني على مستوى التركيب. ولأن الفيلم يتابع تجربة فرقة موسيقيّة، فقد كان العمل الصوتيّ من أجود ما أنتجته السينما التونسية، وقد يكون ذلك أيضا عائدا إلى تطوّر التقنيات المستعملة في الآونة الأخيرة. كما كان هناك عمل كبير على مستوى الموسيقى أشرف عليه الفنان خيام اللاميّ. أما السيناريو فهو كثيرا ما مثّل نقطة الضعف الأولى في الأعمال التونسية. لكنّه إحقاقا للحقّ، بدا في "على حلة عينيّ" واضحا متماسكا. ولو أن هناك ما يعاب على الفيلم على مستوى الإتقان والحرفيّة، فربّما بعض الهنّات في آداء الممثلين أحيانا، وفي الحوار الذي اعتمد كثيرا على الارتجال انطلاقا من نصّ أساسيّ. يجب التنويه بأنّ الفيلم يعتمد على وجوه كثيرة جديدة، لذلك فأنا أعتقد أن حضورها الأول كان إيجابيا. سأخصّ بالذكر بيّة المظفر بطلة الفيلم، فقد أثارت الدهشة والإعجاب وعبّرت عن شخصية فرح بتلقائيّة رائعة. ورغم الظهور الخجول لغالية بن عليّ (الأم) في بداية الفيلم حين استقبلت ابنتها، إلا أنها تداركت ذلك شيئا فشيئا وأقنعت في مشاهد عديدة، وكذلك الشأن بالنسبة لمنتصر عياري (برهان قائد الفرقة) وأيمن العمراني (علي). هو عمل على قدر لا بأس به من الحرفيّة، ويشي بعمل جبّار قامت به المخرجة لإنجاح فيلما الأول. لكن من قال إن الخلق الفنّيّ هو صنعة فحسب؟
تقدّم لنا ليلى بوزيد حكاية فتاة تونسية على مشارف الدخول إلى الجامعة، وكيف تحاول أن تبدأ مشوارا غنائيّا مع فرقة من الشباب الهاوي. وتدور أحداث الفيلم في صائفة 2010 والبلاد على بعد أشهر معدودات من الثورة. وعبر هذه القصة، لا يبدو أن ليلى بوزيد تناور كثيرا، فالوضوح سمة المشاهد، والأحداث، والشخصيات. لا شيء يحتمل تأويلات مربكة أو يجعل المشاهد في حيرة من مرام المخرجة. فالفرقة الموسيقيّة أنموذج لعموم الشباب التونسيّ المليء بالطاقة والإبداعات، وما حدث لهم من قمع وترهيب، هو ما يحدث لكلّ شاب تونسيّ يحاول أن يخلق شيئا جديدا، أو "يوقظ شعبه يريد صلاحه" كما قال أبو القاسم الشابي. كما أن إدانة جهاز البوليس كأداة أساسية للنظام القمعيّ لبن عليّ، مثلّت محورا أساسيّا في الفيلم، هذا عدا الكثير من الإشارات الأخرى مثل مسألة الحوض المنجميّ، والرشوة، والحرية الجنسية. نحن أمام فيلم إذا محكم الصنعة، مشبع بالقضايا "الجادّة". وهو كلّ ما يريده ويدعو إليه عموم المتكلمين في الشأن السينمائيّ والفنيّ عموما. للأسف، لا أستطيع أن ألغيَ عن الفنّ قيمته الجمالية والإبداعية وأختزله في كتلة من القضايا. لا أستطيع أن ألغي الفرق بين مشاهدة الأفلام ومشاهدة الأخبار.
أكتب هذا المقال وأنا أستمع ـ فيما أستمع ـ إلى أغنية الفيلم الرئيسية "على حلّة عيني". وهي أغنية تراوح بين اللطف والشراسة، وتشهد بعبقرية الموسيقيّ خيام اللاّمي وموهبة كاتب الكلمات غسان عمامي. للأسف لم تبد كل الأغاني التي قدّمتها الفرقة الموسيقيّة بذلك الجمال، وأحيانا شارفت على الابتذال، هذا عدا التوزيع الموسيقيّ الذي يجعلها أحيانا "تدور، تدور، تدور، تدوووور"! ولكنّني لستُ خبيرا في الموسيقى، ولا أملك حقّ إبداء رأيي في آداء بيّة المظفّر (بطلة الفيلم) الغنائيّ. أنا فقط لا أعتقد أنّ ما قُدّم خلال الفيلم يمكن أن يعبّر بدقة عن الأثر الذي تركته في النفوس آنذاك بعض أغاني بنديرمان، وفريد وغيرهما. كما لم يبدُ على أعضاء الفرقة في حياتهم اليوميّة أي تفصيل يوحي باهتمامهم بما يحدث في البلاد. هناك قصص الحبّ، وهناك البحث عن العروض، وهناك البحث عن مكان يصلح للتدريب، وهناك مشكلة إقناع الأهل بقيمة العمل الفنيّ، وهناك الجدل حول الصدام مع النظام، لكن لم يكن هناك أبدا أيّ تصوّر للنظام. لقد حمل عنوان الفيلم نفسه هذا التناقض دون أن يدري، فهو يفترض أن "فرح" كانت مغمضة العينين قبل أن يحدث لها ما حدث، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن مدى وعيها بالكلمات التي تترنّم بها (أجل أعرف أنها ليست كلماتها، وهذا لا ينفي تبنيها إياها). لقد حاولت ليلى بوزيد خلال الفيلم التأمّل في صائفة 2010 وهي صائفة شبابية بامتياز شهدت خلالها العاصمة تحركا شبابيا شهيرا عرف بإسم "نهار على عمّار" (22 أيّار)، لكن يبدو أن أعضاء الفرقة الذين ينقدون القمع لم يسمعوا بهذا النهار بعد. لقد بدا كأن المواضيع التي ينبغي أن تناقشها الفرقة، قد عوّضت جميعها بقصة حبّ تحيلنا إلى "قضيّة" أخرى.
اِشتهر النوري بوزيد بمواقفه الداعية إلى الحرية الجنسية، أو المندّدة بالقمع الجنسيّ والكبت الجنسي، وقد كان ذلك سببا في الجدل الكبير الذي يطرأ كلما أخرج فيلم. ويبدو أن ليلى بوزيد ساعية أن تقتفيَ أثر أبيها في هذا الجانب. ففكرة الفيلم أساسا تتعلق بالمشهد القمعي الطاغي على البلاد قبالة الثورة، وهو مشهد بطله الأساسيّ نظام بن عليّ، وضحيته الأساسية هي الشباب. ويأخذ القمع خلال الفيلم أشكالا أخرى غير مباشرة، كقمع الوالدين (إجباره على توجّه بعينه في الجامعة مثلا)، والقمع الطبقي (طرد الخادمة وإن كانت الرمزية عفويّة برأيي) والقمع الاجتماعيّ(عمال المناجم، النظرة الدونية للشباب الخ). على أنّ القمع الجنسيّ يبدو طاغيا في الفيلم، إلى حدّ الابتذال. إن الجنس هنا في كل مكان، وإنّ كل علاقة مختلطة هنا، تفوح منها رائحة الشهوة، فهناك علاقة البطلة وقائد الفرقة، وهناك ما حدث مع مدير أعمال الفرقة (عليّ) وهناك ما حدث مع مراقصها في الملهى، وهناك علاقة أمها بحبيب الماضي، وهناك طرق القمع الوحشية التي ينتهجها النظام، وهناك مشاهد كثيرة أخرى، لا تكاد تضيف شيئا للسيناريو، سوى أنها تثري هذا المشهد الإباحي الضخم الذي يطغى بحضوره حتّى وهو ليس المعنيّ الأساسيّ بالعمل. إنّ ما جعلني ألفت النظر إلى هذه المسألة، هو علاقة أم البطلة (غالية بن عليّ) بحبيبها السابق (يونس الفارحي). فوجود الرجل في القصة، لا تأثير له على الإطلاق، يمدّها بمعلومتين، كان يمكن أن يقوم بهما أي شخصين آخرين دون أن يغيّر ذلك من مجرى الأحداث. لكنّ ليلى بوزيد تخلق قصة كاملة من وراء ذلك، تنتهي بإقدام المرأة على إباحة نفسها من أجل ابنتها. ماذا يفترض من المشاهد أن يفهم من مشهد لا أهمية له كهذا؟ وهل من حقّنا أن نتساءل إن كانت رائحة الكبت الطاغية على الفيلم، منبعثة من المجتمع التونسيّ، بقدر ما هي منبعثة من صاحب العمل نفسه؟
إن تساؤلي ليس اتهاما، ولا أجد من المعيب أن يعانيَ المرءُ من الكبت، لكنّ العمل الفنّي يسمح باختلاجات لاواعية يجب الاستماع إليها والتأمل فيها لأنها جزء من الصورة الفنية، ولأنها أهم عناصر البناء الجماليّ. وقد يكون عدم استساغتي للعمل على صنعته، هو هذا العجز الذي لمسته من الفيلم، على خلق مشهد أكثر جمالا. أعترف أنها مسألة ذوقية بالأساس. لكن لنكن متّفقين على الجانب الواعي من العمل على الأقل. فالفيلم شأنه شأن كل عمل فنّي ذي خصائص أدبية، هو نوع من الخطاب. ولكلّ خطاب جمهور مخاطَب. ولا أعتقد أن ليلى بوزيد تجهل هذا الجمهور الذي تخاطبُه بفيلمها، ولا أعتقد أنها تجهل خصائصه الثقافية والحضارية. لذلك فقد قدّمت له صورة لطيفة عن الفنانين الشباب، والفرق الشبابية، يمكن أن يأنس إليها ويطمئن إلى أبنائه حين ينضمّون إليها. أتساءل كم شابّة سيمنعها أبواها من الغناء بعد مشاهدة العالم الذي تعيش فيه فرح؟
لأنّنا لا يمكن أن نخرج الفيلم عن سياقه، فهو فيلم جيد جدّا، ويمكن أن نهنّئ عليه أصحابه الذين يخوض أغلبهم تجربته السينمائية الأولى. ولكن لأننا نعتبر أنه من الضروريّ التطلع إلى ما نحتاج إليه، فالفيلم محبط، تذكرنا قصته بفيلم "ميكروفون" لخالد أبوالنجا، وتعيدنا أفكاره إلى ما نسمعه يوميا في وسائل الإعلام، ومشاهده أقرب إلى الوجبات السريعة التي تصلح للاستهلاك التلفزيّ لا للعمل السينمائيّ.