حينما أبدأ بمشاهدة أيّ فيلم للمخرج الأمريكيّ وس أندرسن، يعاودني التساؤل الملحّ الدائم : من أين يأتي الرجل بأفكاره هذه؟ أيّ عبقريّ يوحي له بهذه الخيالات؟ وحين يشارف الفيلم على النهاية، يعاودني التساؤل الثاني : أين اختفى وس أندرس؟ لماذا ترك الفيلم وشرد بعيدا؟ في فيلمه الأخير : فندق بودابست الكبير، كان التساؤل الثاني غائبا.
الحقيقة أنّ مشكلة أندرسن مع مرحلة "التخلّص" القصصيّة، تثير دوما حنقي، من Rushmore إلى Moonrise Kingdom، كنت دوما أنهي الفيلم بشيء من الغيظ متسائلا ما كان سيحدث لو أنّه سطّر لكلّ شيء من البداية عوض أن يترك القصة ترسم نفسها لوحدها. أعتقد أن فندق بودابست الكبير The Grand Budapest Hotel إجابةٌ لا بأس بها لهذا التساؤل، حيث يبدو الجانب القصصيّ مخططا له بعناية وممنوعا من الاستطراد. ربّما يعود ذلك إلى طبيعة القصة التي ترتكز كثيرا على الجانب البوليسيّ الغامض فيها، إذ تفترض تلك القصص لغزا وحلاّ بعد تشويق، ودراما محكمة النسيج، وربّما يعود إلى تأثير الأسلوب السينمائيّ المستعمل على الأسلوب القصصيّ، لكنّ المؤكّد أن النتيجة ملفتة: فيلم ممتعٌ وجميل، جوائزُ أوسكار وترشيحات بالجملة لمختلف جوائز الأكاديمية والأهم كوميديا أنيقة يندر أن تجد مثلها في هذا الزمن الذي يفرّق بين الكوميديا والسينما الجادّة.
وسّ أندرسن Wes Anderson تجاوز سنّه الصغيرة نسبيا كمخرج منذ أعماله الأولى، وتجاوز كذلك ولاية تكساس مسقط رأسه، من خلال بصمة مميّزة لا يتمتّع بها إلا ندرة من المخرجين الأمريكيّين، في هذا الفيلم يتجاوز أندرسن أمريكا كلّها من خلال فيلم ينبش ببطء وثبات في كنز طمرته الحرب المميتة. كنز إسمه أوروبا الجميلة.
والحقيقة أنّه من خلال السينما التي يقدّمها، أقرب إلى أوروبا منه إلى تكساس. تلحظ ذلك من خلال جنوحه المفرط إلى تجاوز الإطار الواقعي، والتطلع إلى ما وراءه، من خلال تلك الواقعية السحريّة التي تكاد تقارب الانطباعية في ذاتيّتها. في هذا الفيلم، لا يحاول أندرسن أن يجرّب شيئا جديدا، بل هو يوغل في تلك الأشياء التي تميّزه وتجعل المرء يتعرّف عليه منذ المشهد الأول: التأطير المتناظر الذي يميّز ستانلي كيوبرك في ما مضى، والحركة البطيئة الأفقية التي تكسر التناظر، مستويات التصوير الثابتة، والحركة الكرتونية للصور التي تجعلنا نشاهد شيئا أشبه بالصور المتحركة، الكاميرا أيضا متحرّكة، في نسق سريع أحيانا، وتحوم بشكل أفقيّ ثابت، تقتفي أثر هذا أو ذاك. الحركة والصورة يشكلان هيكلا ميكانيكيّا سلسلا هو بصمة وس أندرسن المميّزة. لقد بنيت سينماتوغرافيا الفيلم بهذه السياسة تقريبا، ممّا أضفى عليه حيويّة مهذّبة وتحت السيطرة.
هل تبدو مصطنعة؟ أجل طبعا، والمخرج لا يبحث في أي لحظة من الفيلم أن يقنعنا بأن ما يحدث حقيقيّ ربما حتّى مشهد القطار الأخير، بل هو يحاول أن يفعل العكس تماما. اللّمحة الكرتونية الطاغية على المشاهد تشي بذلك، التشكيل اللونيّ الخالي من العيوب، يجعل الفضاء موغلا في الخيال، بل موغلا في الحلم. حين تشاهد فندق بودابست الكبير، فأنت لا تضحك فحسب، بل إنّك ترى عبر حركة المشاهد السلسلة، وصور الفيلم البديعة، ابتسامةَ وس أندرسن الخفيّة. موسيقى الخلفية أيضا تمارس اللّعبة ذاتها التي تمارسُها الحركة. في انسجام رهيب مع الصورة، تأتي الموسيقى خفيفة موقّعة سريعة، ثمّ كنائسيّة طاغية، ثمّ حالمة رقيقة، تحافظ كما الصورة تماما على ذات الطابع الميكانيكيّ السّلس، كأنّ وس أندرس نفسه من ألّفها. لا أحد يحتاج إلى مجهود كبير ليرشّح موسيقى الفيلم للأوسكار، وهو ما حصل بالفعل. لكن ربّما يحتاج الأمر إلى وقفة تأملية قصيرة، ليدرك هذا الانسجام الملفت بين الصوت والصورة… إنّ فندق بودابست الكبير بناء متكامل من الصوت إلى الصورة، إلى حركة الممثلين، إلى تتابع الأحداث، كأنّ الفندقَ فندقان : البناءُ الوردي الذي شكّله المخرج استلهاما من صور تعود إلى القرن التاسع عشر، وأحداثُ الفيلم نفسه.
المثير في هذا الفيلم، أنّ التجانس لم يكن على مستوى الشكل فحسب. سيشدّ انتباهك في البداية، مستويات الرواية الأربعة، فلكي نصل إلى زمن القصّة الحقيقيّ، يجب أن ننزل تدريجيا إلى قاع الزمن، نبدأ بفترة معاصرة، حيث تزورُ فتاةٌ ما، مقبرةً في أوروبا الشرقية، وتقف عند قبرِ كاتب شهير، وتبدأ بقراءة روايته "فندق بودابست الكبير". تنزل بنا هذه القراءة إلى مستوى الرواية الثاني، حيث الكاتبُ نفسه في منزله، في فترة الثمانينات، يحدّثنا عن قصته مع الفندق وصاحبه مصطفى، فينزل بنا درجة أخرى إلى المستوى الثالث، هذه المرة تطالعنا فترة الستينات، ويطالعنا لأول مرة بطل القصة السيد مصطفى صاحب الفندق، الّذي ينزل بنا إلى آخر مستوى من الرواية، أي فترة الثلاثينات، ويروي لنا وقائعَ مغامرته مع الرجل الاستثنائيّ موسيو غوستاف وكيف انتهى به الأمر إلى امتلاك الفندق بعدما كان صبيّا في بهوه. خلال هذا التدرّج، ينتقل إطار الصورة من 1.85 إلى ال1.37 ذات الطابع العموديّ، حيث يبدو أنه يعود بنا إلى الأطر المستعملة في الثلاثينات، وخصوصا أعمال المخرج الألمانيّ لوبيتش Lubitsch. ومن المؤكد أنّ الصدف بريئة من هذا الاختيار، إذ أنّ لوبيتش المعروف بأعماله الكوميديّة، كان حاضرا في الفيلم بكثافة لم ينكرها أندرسن. لقد استلهم الكثير من طرق التصوير من أعمال هذا الرجل، مثل تقنية مشهد السوسن (Iris shot)، لكنّه أيضا استلهم روح الكوميديا "اللوبيتشية".
لقطة السوسن التي اشتهر بها لوبتش |
يقول المخرج بيلي وايلدر معرّفا كوميديا لوبيتش: كيف تصوّر مشهد اكتشاف أمير لخيانة زوجته مع فارسه بطريقة "لوبيتشية"؟ الإجابة بسيطة: تصوّرُ الأمير مع زوجته في غرفة النوم، وكيف يغادر الأمير الغرفة، بينما يدخل الفارس من ورائه، يكتشف الأمير أنه نسيَ حزام سيفه، يعود إلى الغرفة، لا نرى ما حدث هناك، لكن الأمير يخرج كأنه لم يحدث شيء. قبل أن تتساءل، يهتف الأمير: هذا ليس حزامي!
سوف نجد دعابة مماثلة تماما في مشهد الهروب من السجن: يضع الهاربون خطّة متكاملة متناسقة للهرب، خريطة، تهريب لأدوات الحفر والتنقيب، أضواء خفية، وليال من السهر، في النهاية، تؤدّي الحفرة إلى مكان ما، يؤدّي بالهاربين إلى غرفة الحرّاس، يتسلل الهاربون وسط الحراس في مشهد مهلك بالضحك، ثم يفتحون مدخلا لدهليز يقود إلى الخارج، يجدون مجموعة من الجنود يلعبون الورق، ينزل أحدهم بكل هدوء ليطعن الجنود دون أن يصرخ أي منهم طلبا للعون، يموت السجين وقد قتل الجميع، وكان تعليق الختام من موسيو غوستاف خير معبّر: يمكن أن نعتبر النتيجة تعادلا!
هل كان أندرسن يبحث عن السينما القديمة، أم عن أوروبا القديمة؟ لماذا تطالعنا أسماء لمدن لا وجود لها؟ لماذا يوجد فندق بودابست في دولة زوبرفكا (يبدو أنه نوع من الفودكا البولونية الشهيرة)؟ ولماذا توجد عائلة دسغوفّه أوند تاكسيس (تاكسيس إسم لعائلة توسكانيّة من عصور النهضة) في مدينة لوتس التي لا وجود لها؟ لماذا اعتمد المخرج في تصوير الجنود النازيين على علم الجستابو SS عوضا عن الصليب المعقوف؟ لماذا يحاول أندرسن جاهدا أن يوحي لنا أنه يروي قصة خياليّة لم تقعد أحداثها أبدا، رغم سلسلة العنعنة التي تنتشل لنا القصة من أعماق القرن الماضي؟ هل يقع أندرسن بذلك في شرك التناقض؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في موسيو غوستاف، البطل الحقيقيّ لأحداث الرواية التي ينقلها لنا السيد مصطفى.
موسيو غوستاف، رجل فقير معدم، كما يبدو من غرفته الصغيرة بفندق بودابست، لكنّه خارج الغرفة يبدو شخصا آخر تماما : وسيم، أنيق، مثقف حاضر البديهة، يجعل الأرستقراطيين الذين يملؤون الفندق كحفنة همج أمامه. إن موسيو غوستاف "لمحة صغيرة من الحضارة التي بقيت وسط المجزرة البربريّة التي تسمّى إنسانية"، موسيو غوستاف هو تلك الشعلة الصغيرة التي بقيت من أوروبا الجميلة، التي تستعدّ لحفلة الخـراب القادمة. إن موسيو غوستاف هو تصوّر آخر لأوروبا في تلك الفترة الحالكة، هو محاولة من وس أندرسن لطمس معالم الحقيقة القاسية، بشيء لطيف وراق، بشيء يليق بأوروبا. هل هو هروب من الحقيقة؟ أجل هو كذلك، أو لعلّه انتصار للجمال.
ربما لم يكن هذا الفيلم ليحدث لولا ما تركه لنا لوبيتش، ولم تكن الكوميديا لتحظى بهذا الإتقان لولا قيادة أندرسن لأوركسترا من المبدعين، بدءا بمصمّمي المجسّمات (الفندق، البرج، الخ) إلى الموسيقيّ الذي رشح للأوسكار عن عملين مختلفين في نفس السنة، العبقريّ ألكسندر دبلات، وكذلك العمل المذهل لفرانسس حنون ومارك كوليه اللّذين استغرقا 5 ساعات لتحويل الممثلة تيلدا سوينسن إلى امرأة نبيلة عجوز تفوق الثمانين من العمر. وما دمنا نتحدث عن الممثلين، فنحن نتحدث عن عماد الكوميديا. بعض هؤلاء ظهروا في أدوار صغيرة في الفيلم لكنّها كانت ملفتة، مثل إدوارد نورتن، وتيلدا سوينسن، وأيضا بيل موراي الممثّل المفضّل لأندرسن. لكنّ الاستحقاق الأكبر كان حتما لـرالف فين Ralph Fiennes، وفيلام دفوي Willem Dafoe. هذان العدوّان اللّذين مثّـلا الخير والشرّ، كانا جوهر اللعبة الكوميدية، قدّما عرضا راقيا يختلف كثيـرا عمّا عوّدانا عليه. يجب التنويه هنا بحضور أندرسن الخفيّ وراء الممثّلين، لنلحظ الطرفة التي اعتمدها في اختياره لـرالف فين، وأدرين برودي Adrien Brody. فالأول الذي عرف خصوصا بدور المجرم النازي آمون غوث ( قائمة شندلر)، يلعب اليوم دور شخص نبيل يطارده النازيون، بينما ينقلب أدريان من عازف البيانو اليهودي الهارب من المحرقة في رائعة بولانسكي (عازف البيانو)، إلى ثريّ نازيّ يقتل أمه من أجل المال.
أجل إنها تيلدا سوينسن! |
لقد اعتبر كثيرون أنّ الفيلم أشبه بصندوق جميل لا شيء فيه. ربّما لأنهم أخذوا بجمال الصندوق فلم يفكّروا في فتحه. وربّما لأنّ الكوميديا كصناعة سينمائية تكاد تختفي ليحلّ محلّها ما يمكن وصفه بالمجون. من خلال هذا العمل، يعيد أندرسن حياكة المشهد الكوميديّ مستعينا بأحد عباقرتها الأقدمين، وأيضا مستعينا بالمأساة التي عرفتها أوروبا في تلك الفترة. لقد كان مشهد إطلاق النار العبثيّ داخل الفندق، خير تصوّر كوميديّ للحرب التي كادت تذهب بأوروبا، ورغم أن أندرسن حاول جاهدا الانتصار على التاريخ من خلال اِنهاء الحرب بالجلوس على الطاولة وقـراءة وصية العجوز، إلا أنّه قد انحنى في النهاية لمأساة الحقيقة، حين لم يقدر على تخليص بطله من براثن النازيين في مشهد القطار الثاني. إنّ الكوميديا تعرَّف أيضا بحدودها الرفيعة مع التـراجيديا، ويبدو أن أندرسن يجيد التعرف على هذه الحدود.
No comments:
Post a Comment