ستيفن سبيلبرغ لا يلعب بالنرد في أفلامه. كل الأمور التي يعرضها، حسب لها حسبتها، ودقق لها وجودها وصفاتها وعناصرها. لذلك فمن الطبيعي أن أتساءل عن سبب عودته إلى أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتيّ، في هذه الفترة الحرجة بالذات من القرن الحادي والعشرين.
يقدم لنا الإبن المدلّل لهوليود فيلما تاريخيا جديدا، بعد الروائع التاريخية الشهيرة التي قدّمها وعرف بها، خصوصا "قائمة شندلر" (1993) و "إنقاذ الضابط ريان" (1996). وكعادته في أفلامه التاريخية، يركز سبيلبرغ على الصورة كأداة توثيقية حادّة وبليغة فيحتفي بتفاصيلها ويعود بها إلى خمسينات القرن الماضي بدقة لا يجيدها غيره. لا نتحدث هنا عن صندوق التلفاز أو أشكال السيارات، أو ذلك المشهد العام للشوارع الذي تعتمد الأفلام لتوحي لنا بأننا في حقبة الخمسينات. بل نحن نتحدث عن دقة أكبر في اختار نوع ذلك التلفاز، وأنواع السيارات، وأسماء الماركات التجارية. نتحدث عن قدرة سبيلبرغ على استنطاق الخلفية، وشدّ الانتباه إلى ماوراء الحدث وماوراء البطل.
لقد رفع سبيلبرغ من خلال عمله الدقيق على التفاصيل من مستوى الواقعية في "جسر الجواسيس". لكنّه دعمه بآلية ثانية لعلّها تمثّل فتحا جديدا في سينما هذا الرجل. يعرض الفيلم لنا وقائع تاريخية حقيقية عن بدايات المحامي الأمريكي جيمس دونوفان (توم هانكس) مع عالم الجوسسة في فترة الحرب الباردة. حيث يروي كيف تحوّل من محام اختير عشوائيا لإنابة جاسوس سوفياتي أمام المحكمة، إلى ممثل غير رسمي للدولة، في صفقة تبادل أسرى مع الطرف السوفياتي في برلين المقسّمة. وخلال هذه الرحلة الرهيبة، نتابع بأنفاس لاهثة ما بدا أنه فيلم أكشن عن الجوسسة، غير أنه خال من الرصاص والقذائف والغبار (الحقيقة أن الرصاص لا يمكن أن يغيب عن مشهد برلين المزري لكنني أتحدث أساسا عن الخطّ الرئيسي للقصة، فالرصاص هنا جزء من الخلفية التي تحدثت عنها). كيف استطاع سبيلبرغ أن يقاوم هوايته المحببة في إغراق الشاشة بمشاهد الحركة التي صنعت منه مخرجا فذّا والاعتماد أساسا على الحوار كوحدة بناء للقصة؟ كيف استطاع أن يتجاوز فكرته الديناميكية في التصوير، إلى الاعتماد على الأطر الثابتة؟ يبدو أن تلك كانت بصمة كتاب السيناريو ومنهم الأخوان كوين الشهيران (فارغو، لا أرض للعجائز، ليبوفسكي الكبير…) إذ قدّما لسبيلبرغ نصّا واضح المعالم، متماسك البنية، سلسا، ينبني على الحوار، وهو ما يجعلنا نفكر بـ"جسر الجواسيس" كصورة جديدة لفترة الحرب الباردة.
تتميز أفلام الحرب الباردة بأنها أفلام تعتمد أساسا على الأكشن لإبراز التفوق الأمريكي على السوفيات، حيث كانت هوليود أبرز الأسلحة الأمريكية في وجه المدّ الأحمر. في فترة الخمسينات والستينات خصوصا، كان على البطل الأمريكيّ أن يخوض نزاله الأخير مع السوفيات، وكان على المقاتل الأمريكيّ أن يخرج من الجحيم الذي أعده السوفيات. وكان على الحكومة الأمريكية أن تنقذ العالم من الخطر النووي السوفياتيّ. لقد انتشرت حمّى الخوف من الحرب النووية إلى درجة أثارت حفيظة الكثير من السينمائيّين الأمريكيين الذين عارضوا هذا التوجه فقدموا أعمالا خالدة في نقد الخوف والهوس المرضيّ بالقنبلة النووية (المرشّح المنشوريّ لجون فرانكنهايمر، الدكتور سترانجلوف أو كيف تعلمت التوقف عن الخوف وحب القنبلة لستانلي كيوبرك). لقد رأت هذه الأعمال أن الخوف المفرط من الآخر، يخلق نوعا من التطرّف الذي قد يدفع إلى الجنون. وهذا هو المنحى الذي انتحاه سبيلبرغ في "جسر الجواسيس". ليس من العبث أن يعوّل الفيلم على الحوار كبنية سردية، وآلية لدفع الأحداث، ذلك أنه يحاول أن يبرز قيمة الحوار في تفادي الكوارث. يذكر سبيلبرغ الأمريكيين، بأنّ أحد أبطالهم الوطنيين (جيمس دونوفان) قدّم لوطنه نتائج مبهرة بفضل الحوار وقدراته المتميّزة في التفاوض والإقناع.
ولئن قدّم لنا سبيلبرغ الحوار كوسيلة لتجاوز الخوف، فقد قدّم لنا أيضا ومنذ بداية الفيلم مصدر هذا الخوف. يشي المشهد الأول بعبقرية المخرج وعبقرية من معه. يتلاشى الظلام على مشهد رجل مسنّ ملامحه أقرب إلى البؤس واللامبالاة. تقدّم الكاميرا صورة الرجل في المرآة المقابلة له، ثم تتحرّك مع التفاتته إلى يمينه، لترينا صورته الثانية المنعكسة على لوحة الرسم. من خلال هذا المشهد العبقريّ، يقدم لنا سبيلبرغ نسبية المفاهيم، فصورة الجاسوس على المرآة، تمثّل التصور الأمريكيّ له، تصوّر يقوم على الظاهر أساسا، وعلى ما فعله الرجل ضدّهم، بينما تمثّل اللوحة على اليمين، تصوّره الشخصيّ عن نفسه، وهو تصوّر يقوم على الباطن، وعلى ما يعلمه الإنسان عن نفسه. إنها صورة الآخر عن نفسه. أما الرجل نفسه صاحب الصورتين، فهو يمثل الحقيقة التي تعكس التصورين، وهذه الحقيقة تولينا ظهرها فلا يراها أحد!
وخلال القسم الأول من الفيلم، يركز سبيلبرغ على دعوة المحامي جيمس دونوفان (توم هانكس) مواطنيه إلى تجاوز صورة المرآة، والالتفات قليلا إلى اليمين. وهذه الدعوة برأيي جديرة بالانتباه، لأنها تتجاوز إطارها التاريخيّ. لقد أثبت دونوفان أن الجاسوس ليس خائنا، وإنما رجلا يخاطر بحياته من أجل وطنه الذي يؤمن به، وأفكاره التي يدافع عنها، ولئن كنا نختلف في أفكارنا معه، فهل هذا يعطينا حقا لاحتقاره؟ إن إصرار دونوفان كرجل قانون على احترام الدستور حتى مع ما اعتبر عدوّا للأمة، ليحتاج منا إلى وقفة لفهم أنفسنا، يقول دونوفان لرجل المخابرات "أنا إيرلنديّ الأصل، وأنت ألمانيّ. لكن ما الذي يجعل كلينا أمريكيا؟ إنه كتاب القوانين. ذلك الذي أسميناه دستورا، واتفقنا على بنوده. ذاك وحده لا غيره ما يجعل من كلينا أمريكيا".
لكن يبدو أن دعوة سبيلبرغ هذه لم تلق آذانا صاغية عند سبيلبرغ نفسه! فالرجل رغم تركيزه على أهمية التواصل وفهم الآخر، لم يبدِ ذات الاهتمام في تصويره للاتحاد السوفياتي، بل إنه اعتمد آليات كثيرة لإجراء تلك المقارنة الدعائية السخيفة بين احترام حقوق الانسان في المعسكر الغربيّ وانتهاكها في المعسكر الشرقيّ، وكأنّ الرجلَ لم يتخلّص من ذكريات طفولته العابقة بشيطنة الآخر والخوف منه. لقد تمادى سبيلبرغ في هذا الجانب إلى حدّ البروبغندا السخيفة والطفولية (مشهد ممثل ألمانيا الشرقية حين تجاهل الأمريكيُّ يده الممدودة)، ما يجعلنا نتساءل عن مصادر تمويل الفيلم. إن علاقة سبيلبرغ بدوائر السلطة والقرار أمر بديهيّ برأيي، وآراؤه ومواقفه شدّ ما تمثل السياسات الأمريكية العامة. حينما أنهيتُ الفيلم، تذكرت فيلمه السياسيّ السابق "مونيخ" في فترة اشتدّ تساؤل العالم فيها عن أصول الإرهاب، كما تذكرت فيلمه الأسطوريّ "قائمة شندلر" عن محرقة أوشفيتز وما أقحمه في الفيلم من تلميح لحق اليهود في وطن لهم، في السنة التي أمضي فيها اتفاق أوسلو الشهير… تذكرت كل ذلك وتساءلت في براءة: أهي مصادفة أن يعيدنا سبيلبرغ إلى الحرب الباردة في هذه الفترة؟
No comments:
Post a Comment