Friday, September 26, 2014

حديث الجميلة و الوحش

حديث الجميلة و الوحش سهل قصير، كلما شددتَه و ضغطت عليه، انكمش أكثر و غاص في نفسه حتى لا يبدر منه غير وجه الجميلة و زمجرة الوحش، و كلاهما كافيان لتبيّن كل ما في الحكاية من نفاق توارثه الأوّلون. لكنّك لو تمعّنت فيه و أخذت تلوك عناصره لاتسعت رقعة الكلام، و لعلمتَ منه ما لم تعلم. ففي القراءة فنّ يقارب في إبداعه فنّ الكتابة، حتّى إنني لا أملك أن أحدّد طبيعة هذا القول، إن كان قراءة أم كتابة، لكنّه في كلّ حال، لا يحترم قواعد الكتابة و لا يكترث لمنطق القراءة، فلا تنشغلوا ببنية القول و لا تبحثوا عن خصائصه، و كفاكم التّفكّر، فبعضُ البناء أثمنُ و أنفسُ إن تقوّضَ، و بعض الـ...
"هدوءا يا سادة!"
أطلق ديزني Disney هتافه المرح، و راح يتأمّل كتّابه البارعين في رضا و حماس. هؤلاء هم من صنعوا بأفكارهم و عرقهم اِمبراطوريته التي لا تغيب عنها ضحكة الأطفال، هؤلاء هم كنزه الذي جعل منه أيقونة سيحفظها التاريخ. فتل شاربه الرفيع و قال بوداعته الأسطورية : لا أريد بداية أدبية عميقة أو باردة. لا أريد بداية مخيفة كتلك التي قدمتها الكونتيسة دي بومون De Beaumont. أريد شيئا يدخل البهجة على قلوب الصغار. أريد ألوانا زاهية كثيرة، و موسيقى. أجل! أريد موسيقى! ما رأيكم بغنائية نقدّم بها سياق القصة؟


و الحقيقة أن الحياة التي تحياها الجميلة في قريتها الصغيرة لا تليق أبدا بغنائية كتلك التي في مخيلة الرجل. إنّنا نتحدث عن قرية نائية في منطقة الروشيل La Rochelle في القرن الثامن عشر، حينها باتت الثورة التي غيّرت وجه العالم على مشارف سنوات قليلة. فهل لكم أن تتخيّلوا حجم عذابات فتاة جميلة وسط عالم كهذا؟ لا تفعلوا، اُتركوني أرسم لكم ذلك.

حسنٌ، لنبدأ بوالدها. لم يكن الرجل سيئا جدا معها. ربما كان يفضل ولدا يساعده في ورشة النجارة، لكنّه قنع بتكفّلها بتلك المهام الثانوية البسيطة التي ترفع عنه الحرج و تمكّنه من شيء من الوقت. و بينما تشرف الفتاة الصغيرة على الطبخ و الكنس و الغسيل و البستنة و قتل الفئران و الأفاعي و صيانة الأبواب و التزويق و طرد المتسوّلين، ينشغل الأب بالمهمة الأكثر صعوبة : مزاولة مهنته في ورشته و الحصول على المال. لكنّه مع ذلك صابر و تجلّد و اكتفى بما تقوم به الفتاة ريثما يحين وقت المهمّة الأعظم : الزواج.
و لأنه امرؤ يقدّر المقادير فيصيب، فلقد عرف أن ابنته ليست بطنا وجب التخلّص منه عند أقرب خاطب، و إنما هي بذرة تبشّر بصفقة قد تغيّر حياته. و قرّر الرجل لذلك عدم التفريط في ابنته إلا لو طرق بابه ثريّ حقيقيّ. إن هذا الجمال الذي يتشكل أمامه كنز ثمين، و إنه سيغامر بالانتظار و لو لسنوات من أجل حلمه. الناس يتكلّمون؟ ومتى لم يفعلوا ذلك؟

الناسُ ثانيَ عذابات الجميلة. تمنحهم ابتساماتها العذبة، و تحيتها الطفولية الخجول، و طيفها الرشيق كنطّ الغزال، تسحب ستائر الليل عن طرقات القرية و ترسم في أركانها نسائم الصباح الأولى، فيسارع الرجال في الخروج إلى أعمالهم طمعا في صوتها، أو صورتها، أو ريحتها التي تشي بمرورها. يمتنّون للحياة التي منحتهم كلّ ذلك سرّا في قلوبهم، و تمطّ نساؤهم شفاههنّ في حنق و حقد. و ما إن يذوب آخر عبق للفتاة في المكان، حتّى تحلّ الشياطين محلّها، و تشرع في عملها في قلوب البشر. إشاعات، أقاويل، حكايات تتنافس أيها الأكثر هولا.. كلّ رجل من هؤلاء يتمنّى لنفسه الجميلة، و يعلم علم اليقين أنه لن يظفر بها إلا في أحلام اليقظة، (ففي الليل زوجة قد تكشف أمره)، و كلّ رجل من هؤلاء يعلن أنه لا يرغب في الجميلة و أن ما خفي وراء مظهرها الجميل ما يروّع المؤمن من أمثالهم. إنها القصة نفسها التي تتكرّر منذ عصر هيلانة.
تتسابق النساء في احصاء عيوب جسمها، و يتسابق الشباب في حفظ تضاريسه. بينما راح الرجال يتراهنون حول ذلك الذي سيظفر بها. كانت المراهنات ترجّح كفّة "غاستون" Gaston زينة شباب القرية. و كان "غاستون" ثالث عذابات الجميلة.

"من هو غاستون يا سيّدي؟"
تلقّى ديزني السؤال من أحد عباقرته فلم يفهمه، نظر إليه مستفسرا فأضاف موضّحا :
"لا أجد غاستون هذا في القصة الأصلية، من تراه يكون؟"
"غاستون هو فكرتي عن شرير هذه القصة. تعرفون أن الوحش هنا هو البطل، لذلك يجب أن نقدّم نقيضا للبطل، يحاربه و ينتصر عليه." 
"لكنّ البطل هو الجميلة هنا يا سيدي"
"البطل هو من يقرّره دافع راتبك يا فتى، الجميلة هي الشخصية التي ستتماهى معها الفتيات الصغيرات، الوحش و غاستون هما الآخر الذي سيتعلّمن كيف يحكمن عليه. هذا هو الدرس الخالد. لا يجب الحكم على المظاهر. إذا غاستون سيكون نقيض الوحش حتى نقدّم المثال المعاكس."
كان ديزني بليغا، و دقيقا شأن كلّ الأمريكيين، و حينما رسم غاستون، لم يبدُ بين وسامته فرق كبير مع هرقل سليل الآلهة، كان وسيما، قويّا، فارع الطول، نافر العضلات، في عينيه ذكاء و غرور لا ينطفئان، و في قلبه تعلّق شديد بالجميلة لا يجهله إلا غريب عن القرية. الجميلة هبة غاستون. هكذا كان الجميع يعتقد. كلاهما جدير بالآخر، كلاهما يليق به. و صار القران مسألة وقت فحسب. و لأنّ العمر أخذ يتقدّم بالجميلة، فلقد كثر الهمس، و اختلفت التأويلات. كانوا يلحظون حيل الفتى للتقرّب منها. حيل خائبة، لكنّها صادقة تفضح رغبته القويّة. و لم يشكَّ أحدهم أن أمرا ما غريبا يدور بعقل الفتاة. في الحقيقة، كان ما يدور بعقلها آخر عذاباتها و أشدّها وطأة على نفسها.
تقول ابنة النجّار لنفسها إن غاستون على ذكائه جاهل لا يكاد يجيد قراءة اسمه، و إن شغفه بالكتب مثل شغفها هي بلعبة البايسبول. هي لا تعرف لعبة البايسبول لأنه لا وجود لها في تلك الفترة، و لكن من قال إن غاستون يشعر بوجود شيء اسمه الكتب؟ لسائل أن يسأل عن قيمة أن يكون العريس مثقّفا حين تكون العروس فتاة ريفيّة مغلوبة على أمرها. و لكن لو أنّه اطّلع على مكامن قلبها لأدرك أنّ الكتاب حجة واهية، و أنه صورة معقلنة تقنع بها نفسها ليس إلاّ. فللنساء غريزة أكثر عمقا و أكثر تجرّدا تتجاوز سطحية العقل و حِجاجه الساذج. 
هكذا بحدس نقيّ تعرف أن غاستون ليس الرجل الذي يريده جسدها. اُنظري يا جميلةُ لهذا الصيّاد الوسيم. أيبدو شرسا؟ أيبدو فحلا حقيقيا؟ أليس فيه شيء من رقّة النساء و رهافتهنّ؟ أهذان الذراعان خشنان بما يكفي ليسريَ خدر الحب في جسدك الغضّ؟ كلاّ إنه غير كاف.. كانت كلّما تخيّلت نفسها بين ذراعيه، أحست بنقص لا يمكن إشباعه، و لا يمكن تفسيره، لكنّ الكتب تقول : حدس النساء لا يخيب!

كذلك حاولت الجميلةُ أن تتجنّب الصياد العاشق ما استطاعت، و كذلك حاولت أن تقنع والدها بأن غاستون لا يليق بها، و من حسن حظّها أن والدها يشاطرها الرأي و إن اختلفت الأسباب.
لكنّ حياة المرء في جماعة صغيرة كحياة الولد الصغير في عائلته. ترف الحريّة فيها ضيق و عسير، و الجميع له عندك حقٌّ. يقول بن خَلدون : كلّما قلَّ أفرادُ المجموعة، كلّما اشتدّت لحمتهم و تقاربت نفوسهم و سرت كلمة الغلبة فيهم سريان الحكم الذي لا يُرجع فيه. رأيتُ القولة على صفحات الفايسبوك، لذلك فهي حتما صحيحةٌ..
أما أهل القرية فما كان همسهم ليتجاوز حدوده، و الوشاةُ كثرٌ يتسابقون لنيلِ رضا الصيّاد المتجبّرِ، و كذلك الوشاةُ في كلّ زمن. لكن ما كان ذلك ليخفى على الأب كليمان Clément و الاعترافات تأتيه من كل ركن من القرية. يقوم الأبُ في ذلك الزمن، بوظيفة المشرف العام على قاعدة بيانات فايسبوك في عالمنا الحاضر، حيث تتجمّع عنده أسرار الخلق و فضائحهم، و يكتفي هو بالربط المحكم بين شظايا الكلام و التنسيق بينها ليجد أمامه قصة العالم بأدق تفاصيلها.. هو الآن ـ أعني الأب لا المشرف ـ يعرف أن الموضوع قد زاد عن حدّه و أن عائلات هنا و هناك قد تتفكّكُ بسبب تهافت الناس على الفتاة و انشغالهم بها. إن من شاهد فيلم "مالينا" الشهير، يعرف عمّ أتحدث جيدا.

"يجب أن تتزوّج الجميلة"
قال ذلك لوالدها في لهجة تقريريّة لا تدعو إلى النقاش. هل إنّ الأب كليمان هو من يسطّر قيم القرية؟ أم إنّه واجهة بشريّة للقيم التي سطّرتها القرية لنفسها؟ يبدو السؤال مربكا، لكنّ ارتباك والد الجميلة كان لسبب آخر تماما. في النهاية قرّر أن يصارح الأب برؤيته الطموح.
"إنّ العيب يا أبانا، أن نلقيَ بهبة الربّ على قارعة الطريق. لقد تعبتُ في تربية الفتاة و ها أنت ترى كيف أينعت، أفلا أجازى بخير من الصياد؟ و هل أرض الربّ إلا هذه القرية الفقيرة؟"
كلماته الماكرة وجدت لها طريقا سهلا إلى قلب القسّ، من قال إنّ التلاعب بالكلمات لا يحدث إلا في الاتجاه المعاكس؟ فكّر الأب كليمان قليلا، قبل أن يقول في تردّد :
"يقال إنّ في تخوم الغابة قصرا عظيما لا تعرف نهايته، فيه مخلوق رهيب، لا يبرح مكانه قطّ، لكنّ ماله كثير و الأهمّ من ذلك أنه لا يلقي لكثرة ماله بالا. قد يدفع بسخاء من أجل أن لا يظلّ وحيدا."
فكر والد الجميلة طويلا، إن القسّ يعرض عليه نفي ابنته تماما، ربما هو يقترح عليه إعدامها مقابل المال.
"إنّه قدرُها يا بنيّ، و عليها أن تواجه أقدارها."
لا يعرف الكثيرون دور الأب كليمان في لقاء الجميلة و الوحش، ربما لأنّ مقصّ الرقابة قام بهمّته في زمن لايزال للكنيسة فيها بعض هيبة، أما في نسخ القرن العشرين..
"لحظة يا سادة! اسمحوا لي أن أذكّركم أنني أقدّم قصة أطفال بهيجة. "أوكاي" شيطنة رجال الدين أمر جميل و لكن لا داعيَ له هنا. فكرة أن يبيع الأبُ ابنتَه ستجعل الأطفال مروّعين من آبائهم و ستسبّب لهم عقدا نفسيّة، أنا هنا للتسلية فحسب."
"ماذا نفعل إذا؟"
"أنتم خبراء في تصوير لعبة الحظ، تفعلون ذلك دائما مع توم و جيري، 'كومووون'! اجلبوا ليَ الجميلة إلى منزل الوحش!"

و قبل أن يبدأ الرجالُ عملهم الدقيق، استطرد ديزني قائلا :"لحظة واحدة، ربما كان عليّ أن أبديَ هذا منذ البداية، لكنّني تردّدت طويلا قبل أن أحسم أمري. شكل الجميلة لا يروق لي كثيرا يا سادة. أوكاي، للفرنسيّين فكرتهم الغريبة عن الجمال، خصوصا في القرن الثامن عشر، ربما يعود ذلك للأجبان الكثيرة التي يقبلون عليها، لكنّنا سنجري تعديلات بسيطة، لا داعي لأن يكون جسمها ممتلئا بهذا الشكل المبتذل، ثم إنّ فيه مفاتنا لا تليق بقصص الأطفال. أريدها أكثر نحافة، و طولا."
والت ديزني ذكيٌّ و يعرف نواميس متعة الإستهلاك المرئيّ. و معه، تتحول الريفيّة الفرنسية الجميلة، إلى فتاة أنيقة أقرب إلى إليزابيث تايلور، ملهمة هوليود التاريخية. فكّر أن يسحب منها كتابها الذي تصرّ على اصطحابه دائما لكنّه لاقى معارضة كبيرة من فريقه. مشكلة الكتب أنها تنافسه في تقديم المتعة للأطفال، و من العيب أن يقدم لها إشهارا مجانيا، بل هي الرذالة بعينها من منطق رأسماليّ. لكنّه كليبراليّ عريق، يحترم الديمقراطية مثلما يحترم الرأسمالية.

تبدو الجميلة الآن أكثر تألّقا و اندفاعا و تحرّرا. و بدا من الصعب إخضاعها لنواميس القرية، لذلك تلعب الصدفة لعبتها الخالدة، ليجدَ والدُها نفسه سجين الوحش، بينما يلوذ حصانه بالفرار حتّى إذا بلغ منزل سيده، كان دالّة الجميلة إلى قصر الوحش المهيب. و تدخل الفتاة في شجاعة نادرة إلى القصر الذي بدا مهجورا، و مسحورا، حتى تنتهيَ بها المغامرة إلى الالتقاء بأبيها و من ورائه سيد القصر المخيف. و ما يهمّنا من هذا القسم من الحكاية إلا تلك المقايضة الشنيعة و الغريبة التي قدّمها ديزني ببرودة القتلة. و إذا بالأب المنكسر الحزين يترك ابنته الجميلة الغضّة بين يديْ الوحش و يلوذ بالفرار. هل رأى أحدكم بربريّة مثل هذه؟ إنّ فكرة بيع الفتاة لتبدو فكرة طبيعية أمام هذا المشهد المقزّز، بل إن فكرة بيع الفتاة للوحش كانت أساس القصة الأصلية التي قدمتها دو فيلنوف De Villeneuve. و منذ أن كنّا أمام صرخة امرأة في وجه رجال يقرّرون عنها مصائرها، إذا بنا أمام صورة لا إنسانية للحبّ تعشّش في قلوب أطفالنا، صورة يتشبّث فيها الهرِمُ بالحياة مقابل أن يكون الشابُ فيها قربانا. هل تذكّركم هذه المقابلة بمكان ما من الأرض عزيز؟ ليس ذلك موضوعنا على أية حال..
ميزة الثقافة الأمريكية أنها تتجاوز الصورة الفجّة البدائية التي تجزع لها النفوس البسيطة، ذلك أنها تحتاج إلى خيال مفرط لتبيّن هولها. مشهد رأس مقطوعة مثلا، هو مشهد مرعب و لا يحتاج المرء أمامه إلى الكثير من الشعيرات العصبية ليتبيّن ذلك. أما رئيس شركة أدوية عالمية، فهو ببدلته الأنيقة و كلامه المنمّق الرقيق، و كومة شهائده المعترف بها في كل شبر من الأرض، يحجب عن أذهان البسطاء قائمة الأوبئة التي أطلق عقالها لتحصد آلاف الأرواح في بلاد الجهل و الفقر. إننا سنظهر تقديرا كبيرا لقائد مقاتلة لا نعرف كم أطلقت من قنبلة عنقودية أو فسفورية على الأرض و البشر، ربما يعتبره بعضنا رمزا لتقدّم الإنسان و تفوّقه، بينما نتخلع قلوبنا لرؤية ذلك الذي يمارس بأيديه ما يمارسه الطيّار بضغطة زرّ، و إن كان الثاني أكثر دقّة و أقل فتكا بالأرض و الطبيعة..
هكذا يتخلّى الوالد المحبّ المسكين بقلب محترق عن ابنته من أجل أن يعيش هو، و هكذا تبدأ حياة الجميلة في قصر الوحش..

خصّص المخرج الفذّ قاعة مكتبة ضخمة في قصر الوحش، كلّفت المنتج ثروة صغيرة، و رغم تذمّر ديزني في البداية من تعلّق الجميلة بالكتب، فلقد وجد في النهاية أنها طريقة مناسبة لإثارة اهتمام الجميلة بشخصية الوحش. إنه على عكس "غاستون" مثقّف و يقرأ الكتب. هل يعني ذلك أنها تمضي الوقت في الحديث عن كلام الأولين و مناقشة مقالة المنهج؟ كلاّ، و لكنّ أغلب النساء يحبّذن حَملة الكتب مثلما يحبّذن الزمرّد أو حقائب اليد شانيل Chanel. هل شعُر أحدكم أن الوحش يملك شيئا من الحكمة أو الثقافة؟ كان دوما منفعلا، متوثّبا، حانقا، صارخا، ساخطا، لم تعلّمه مكتبته الضخمة فنّ التعامل مع النساء و لا علّمته الزهد فيهنّ، بينما الجميلة العميقة الفهم، تلك التي لا تنظر قط إلى ظواهر الأمور، لا تلحظ ذلك. يكفي أن يملك الرجل مكتبة ضخمة حتى تؤمن أنه يهتمّ للقراءة و يمارسها. لا توجد مظاهر هنا أبدا!


لكنّ المتمعّن في حقائق الأمور و بواطنها يعرف أن مشاعر الجميلة أعقد مما يبدو بكثير. من الطبيعيّ أن الخوفَ كان مسيطرا على الفتاة المسكينة، بالأمس كانت تفكر بأمر كعكة التوت البريّ التي تحاول تعلّم طبخها، و اليوم هي بين يدي وحش رهيب يملك أن يجعل من جسدها كعكة التوت البريّ إياها. كانت خائفة و إن لم تبدِ جزعا، و كان خوفها يعود إلى جهلها لما ينتظرها. إن المجهول هو كلّ ما يخاف منه الإنسان في النهاية، الليل البهيمُ، الحشرات التي لا نقدر على تبيّن ملامحها أو التنبؤ بسلوكاتها، ذواتُنا..
و مع بداية تغيّر سلوك الوحش، و محاولاته الفاشلة أن يبدوَ على شيء من التحضّر، بدأت الجميلة تألف فكرة وجودها في ضيافته الإجبارية، و بدأت تكتشف في نفسها أشياء ما كانت لتعرفها من قبل. فالرجفة الخفيفة التي تهزّ جسدها حينما تسمع زمجرته، لم تكن رجفة خوف، و ذلك التموّج الصاخب بداخلها كلما تخيلت قدرات الوحش الكامنة وراء هدوئه المصطنع، ليس نتاج التهيب من الخطر. و لمّا جاءت اللحظة التي تلقفها فيها و هي تسقط من سلّم المكتبة، أدركت أن الحرارة المنبعثة من جسدها لها علاقة وطيدة بهرموناتها. إن مارد الحبّ فيها يتكاسل مستعدا للنشاط، و هي لا تزال مصدومة، فلتلذ بغرفتها!
أمضت الفتاة فترة عصيبة تحاول فيها تجنّب الوحش قدر الإمكان، فازداد هو حنقا و يأسا. أنتم تعرفون أن الجميلة كانت فرصته الأخيرة ليعود بشريّا. هذه هي الضيفة الأولى التي لا تبدي ذعرا حقيقيا لرؤيته، و كان أمله في اقناعها يتعاظم في كل يوم جديد، قبل أن تقرّر تجنّبه. هل يحبها؟ سؤال خبيث جدا تحاشاه جميع الرواة، فالمقصد من حجز الجميلة عنده، هو أن يعود بشريّا من جديد. فهو يحتفظ بذاكرته، و وعيه كبني آدم، و ذكائه و كل قدراته، بل لقد ازداد قوة و صلابة و شراسة. فما ذلك الذي يبحث عنه في بشريّته؟ صورته الجميلة مثلا؟ لاحظوا أن الرجل لا يزال يحتفظ بذائقته الجمالية الانسانية.. لا، لا تظنّوا بالرجل الظنون، فلقد تعلّم الدرس بعد كل هذه السنين، و بفضل عقوبة الساحرة العجوز، فَهِم أن المظاهر لا تعني شيئا أبدا!

لكنّ سيد القصر كان حقا عديم الفهم بأمر النساء، و ما كان ليفهم سرّ نفور الفتاة و قد بدا أنها تألفه و تهتمّ لأمره. لقد اقتحم الحب قلب الجميلة كأسوإ ما يكون الاقتحام، و فرض عليها من الأسماء أعجبها و أغربها. و إذا بها في شراك هوى مسخ يجزع المرء لمجرّد التطلع إلى سحنته. ماذا دهاها؟ و ماذا ولّد الحب فيها؟ هي التي رفضت أعزّ الرجال مكانة و أحسنهم خَلقا، ماذا وجدت في هذا الرجل مما لم تجده في الرجال؟ أهي عقوبة من الربّ على غطرستها؟ و هل كان لها الخيار؟ ما كان ذنبها إذا وجدت في الصياد رقة لا تليق بالرجال؟ و هل أعجبتك هيئة الوحش الشرسة يا جميلة؟ فوجئت بارتفاع حرارتها و هي تفكر في ذلك السؤال. تلك الزمجرة الخافتة التي تخفي قوة رهيبة، و تلك اليدان اللتان انتشلتاها كأنها لعبة صغيرة.. ابتلعت ريقها و هي تحسّ بشيء ينهش داخل جسدِها. إنها تذوب عشقا في مخلوق لا يشبه البشر، فمن عرف شذوذا مثل شذوذها؟

كانت لا تزال تحاول تجنب الوحش لأنها لا تزال مصدومة من مشاعرها، و تخشى أن تسيء التصرّف فتندم بعد ذلك كثيرا، لكنّ عينيها لا تنفكان تراقبان في هيام و اهتمام حبيبها الغريب. لاحظت أنه يعتزل في غرفة قصيّة من القصر، فأخذها فضول الأنثى القاتل إلى معرفة سرّ الوحش. ها هي القصة المعتادة التي تتكرّر في كل مرة. افعلي كلّ شيء ما عدا هذا. حسنٌ، ما أنا فاعلة شيئا غير هذا! و في غرفة الوحش المحرّمة، وجدت سرّه الرهيب، و عرفت أنه أمير وسيم، مُسخ عقوبة له. و لأن لا أحد يفهم منطق الأنثى العاشقة، فلقد كان انكسارُها عظيما أمام الحقيقة. و قد تتحمل المرأة سجنها أو أسرها، و قد تتحمل طبائع الرجال الأكثر شذوذا، لكنّها تكره أن تُخدع أو أن يتلاعب أحدهم بمشاعرها.
وقف الوحش في أسى و قد عرف أنه جاء متأخرا، رأى وجه فتاة من المحال أن يفوز بقلبها. فقال لها في خيبة و قنوط : اذهبي فأنت طليقة.

لم يكن همّ الجميلة أن يظل الوحش وحشا للأبد، بل ربما فضلت في قرارة نفسها أن يظل كذلك. أليس ذلك هو شكله الذي أحبته عليه؟ لكنها حينما سمعت بحملة الصياد غاستون، للظفر بحبيبها، عادت أدراجَها لتحذيره. و هذه طبعا من لزومات الدراما. غاستون الشرير الآتي لقنص الوحش البريء، هذا الوحش الذي أسرها لأيام طوال بات بفعل الحبِّ، أو بفعل البطولة الدراميّة، ضحية مسكينة.
ديزني ككلّ الأمريكيين بارع في توصيف المعارك لذلك ما من داع لفعل ذلك، إنما هي متعة للناظرين، تسلية لا بدّ منها، حتى يبدوَ مشهد النهاية أكثر "ملحميّة" و إثارة. إن أكثر الروايات ذهبت إلى أن القبلة التاريخية التي حدثت في الوقت بدل الضائع بلغة أهل كرة القدم، هي التي أعادت من فورها الوحشَ إلى شكله الأول. لكنّ النسخة الأولى أكثر دقة و ترويّا في هذا الأمر، ربما لأنها لم تكن للأطفال، أو ربما لأن فكرتها كما أشرتُ سابقا، تتجاوز المغزى التي دعت إليها النسخ المزيّفة الأخرى في ما بعدُ.
لقد عرفتُ قصصا شعبية كثيرة تدعو إلى فضيلة عدم التطلع إلى المظهر، و الاهتمام بجمال الروح و العقل و الخُلق، لكنّ قصة الجميلة و الوحش كما أعيدت صياغتُها، هي الأكثر نفاقا و زورا. بل ربما هي الدليل الأكبر على نفاق البشر حين الحديث عن الجمال. فكان لزاما على الوحش أن يتعلـّم أن المظهر لا يعني شيئا حتى يستعيد مظهره الجميل، و لأن المظهر لا يعني شيئا، فلقد ظل الرجل يقاتل سنين طويلة من أجل استعادته كأنه لم يكن يملك غير ذلك. و في غمرة احتفاء القصة بتبليغ المعنى، تعيد النهاية صورة الوحش الأولى، إذ لا يجب أن يبقى البطلُ قبيحا بشعا، حتى حينما نريد أن نثبت أن البطولة ليست بالمظهر.

أما السيدة دو فيلنوف، فلقد كانت تبحث عن غير ذلك في قصة الجميلة، و لقد حاولت عبر ليالي الجميلة التي قضّتها مع حبيبها الوحش، ما حاولت فعله شهرزادُ مع زوجها شهريار منذ مئات السنين، إعادة الحضارة إلى قلبه. و لأن الجميلة التي وضعها ديزني غير الجميلة التي صاغتها الكاتبة الفرنسية، فإني أرى بعين الخيال نهاية أكثر تعسا و شذوذا مما تتخيله الأولون، لكنّها ـ ربما ـ أقل تعاسة مما قدّمته السينما الأمريكية لملايين الأطفال في العالم، كما فسرتُ.
لقد خرج ديزني من الأستوديو حاملا شريطه، راضيا عن نفسه و عن العالم، تاركا بقية قصة الجميلة تنسج نفسها بنفسها. و مازالت الجميلة تنعم في كل ليلة بوحشها الشرس، الذي يحتوي كل هياجها و اندفاعها و عطشها، و مازالت ملامحه تتدرج في كل ليلة إلى هيئة أقرب لهيئة البشر، حتى إذا بات الرجل أقرب للبشر منه إلى الوحوش، صار عجزه عن متابعة نسق زوجته أكبر و أكثر وضوحا. في داخل هذه المرأة وحش يرسم جمالها ليغري به الرجال، وحش يطلب وحشا مماثلا لينازله، و هو ما عاد وحشا.

لاحظ الوسيم أن زوجته باتت أكثر تبرّما، و أكثر عزوفا عنه، كأنها تواجه ظمأها بالصوم الطويل. و أقرّ لنفسه أنه ربما أخطأ باستعادة هيئته القديمة، فما قيمة الجمال إذا كان الآخر لا يقدّره، بل ربما يبخسه. و كانت الجميلة في ذلك القصر المعزول عن العالم، هي "الآخر" كلّه. سمع تهامس الخدم، و حاول الاطلاع على التفاصيل من دون جدوى، هناك أمر يحدث عنه خفية، و الجميلة باتت أكثر انشراحا و شرودا. ما كانت تقبل عليه كثيرا، لكنّ الحال غير الحال. سرت فيه رعشة الأنفة و الغضب، بحث عن الرجل الخفيّ فلم يجده، طال به التفكير و كاد يضيق ذرعا و يصارح زوجته بشكوكه حولها، لكنّه لم يفعل، لا يهمّه أن يكون لها عشيق بقدر ما يهمّه أن لا يكون مغفلا، فعلى أية حال، لن يكون الزوج المخدوع الأول في عالم الأدب الفرنسيّ. هذا عالم يتزوّج فيه الناس ليداروا علاقاتهم الأخرى. 
لكنّ الجميلة أخفت عنه الحقيقة رحمة به و بها. لقد كانت المرأة صادقة مع نفسها و واجهت حقيقتها بشيء من التجرّد و الصلابة. سألت نفسها السؤال البديهيّ، لماذا تحبّ امراة وحشا؟ و ما فيه ما يميّزه عن البشر غير كونه لم يعد بشريّا؟ إن القراءة فنّ يقرب للكتابة، و ما اخترعتُ شذوذ الجميلة و إنما قرأتُه كما كتبه الأولون. هذه فتاة تميل لغير البشر، و لو كانت غير ذلك لقنعت بغاستون الصياد الوسيم القويّ، لكنّ ما أيقظ مكامن نفسها كان وحشا لا يشبه البشر، و كذلك ظلت، لكنّها رفقا بزوجها، أخفت عنه احتفاظها بالحصان القويّ الثائر الذي بلّغها القصر المهيب، و أخفت عنه زياراتها الخفية إلى الاسطبل، و تجاهلت تهامس القوم، لأنها تعلم أن الحقيقة أغرب من الخيال أحيانا.



فاروق الفرشيشي
انتهت في 26 ايلول 2014

5 comments:

Anonymous said...

الأسلوب يعمل الكيف يا وحش

أميجو صاندو said...

قد تكون الحقيقة أغرب من الخيال، لكن أينشتاين قال - و العهدة على الصورة التي اعترضتني في الفايسبوك الأزرق - أن 3 أشياء لا حدود لهم، الكوْن، و الخيال، و عدد المقولات المنسوبة له زورا و بهتانا.

لنعد إلى جميلتنا و نسقط عليها بعض الخيال المنقوع في ثاني أكسيد الواقع :
أكاد أجزم أن الحصان المستمتع في الإسطبل هو حصان أدهم أسود سواد الليل. قد تصدم كلمة "أسود" هنا بعض النفوس الرقيقة لعنصريتها، فلنقل أنه "افرو أمريكي". كراعه الثالثة قد جعلت الجميلة تكرع كرعا - لعبة كلمات مبتذلة.
لكن هناك نوع من التماهي مع الواقع المرير هنا، فقوة الحصان
horse power
و فحولته أيام الثورة الفرنسية، تحولت في القرن الحادي و العشرين ألى قوة الأحصنة في الفراري الحمراء، حيث ترتمي الفتيات في أحضان سائقها الوسيم لهفة لسماع همهمة محركها الثائر و الزمجرة المثيرة عند يضغط سائقنا الوسيم دواسة الوقود لترتفع حرارة المحرك و حرارة محرك الفتاة و يدق قلبها على نمط المكابس
pistons
في سمفونية موسيقية متناغمة.
ربما لم يتفطن باحثو علم الاجتماع الأفذاذ في ربوعنا الخضراء لمثل هذا التطور المجتمعي و التحليل المنطقي لانجذاب الفتيات لأصحاب السيارات الفاخرة، بينما يعاني أصحاب الكليو و البونتو من ال"شنقال" في أنهج العاصمة المكتظة. لربما كان علماء الاجتماع لدينا مهتمين بمواضيع أخرى ذات أولوية قصوى من نوع كيفية تمرير دروس صيغت في التسعينات دون أي يدرك مدير القسم - و كأنه يهتم لذلك - هذا الأمر الخطير.

و يبقى "في القراءة فنّ يقارب في إبداعه فنّ الكتابة، حتّى إنني لا أملك أن أحدّد طبيعة هذا القول".

Anonymous said...

تدوينة جميلة جدآا

Iori Yagami said...

من الطبيعي أن تسمع مديح "الأدهم" من "أميجو صاندو" ههه
قراءتك بالفعل ضرب من الكتابة، أو ربما العكس أصحّ، لا أملك أيضا أن أحدّد طبيعة القول :)

شكرا يا باعث السبيطار و يا مجهول الهوية :)

Anonymous said...

http://www.goodreads.com/book/show/10691701#_=_

Translate