Wednesday, November 21, 2018

كفرناحوم: اِنتصارا لفنّيّةِ الفنِّ


حينما ابتسمَ زين لعدسةِ القُمرةِ في نهايةِ الفيلمِ، فوجئتُ بموجةِ تصفيق متحمّسةٍ في القاعةِ، كأنّما خرجَ الولدُ إلى الرّكحِ أمامَنا، وكأنّما وقفتْ بجانبهِ نادين لبكي تحيّي الحاضرين. أعتقدُ أنّني مع فيلم كفرناحوم أشهدُ لأوّل مرّةٍ موقفا كهذا في قاعة سينما فرنسيّة. فلماذا أفاجأ بالهجوم عليه وعلى صاحبته؟

تُوّج كفرناحوم بجائزتين في مهرجان كانّ لهذه السنة. الأولى جائزة لجنة التحكيم الّتي أقرّت بحرفيّةِ المنجَز، والثانية تصفيق الجمهور إثر العرض الأوّل لزمن قيل إنّه ربع ساعة تقريبا. وبعد غيابٍ طويلٍ، هاهي نادين لبكي تعيدُ لبنان إلى سجلِّ تتويجات المهرجان. مع ذلك، حظيَ الفيلمُ بسخط الكثيرين في لبنان، وربّما في باقي الوطن العربي، لأسبابٍ كثيرة ومتنوّعة. وكيلت لصاحبته تهمٌ كثيرةٌ قليلٌ منها يستحقُّ الانتباه والنقاش.


أكثر التّهمِ حظّا اقترنتْ بالجانب الدّراميِّ. فلئن أثّرت الدراما بشكل قويٍّ على أغلب المشاهدين، شعُر الآخرون بالكثير من التّكلّف فيها، واعتبروا أنّ نادين لبكي أعدّت قصّتها لتستدرَّ الدَّمع وتغتصبه من الأعين.

الحقيقةُ أنّني تفاجأت من هذه الفكرةِ لأنّني أعاني من حساسيّةٍ تُجاه التّكلّفِ في الحزن عادةً، وأكرهُ مشاهد العويل والنّديب. المشكل هنا، أنّ المشاهدَ من الاتقان، بحيث لا يكادُ النّاظر يلحظ شيئا من التّصنّع. إنّ كفرناحوم عبارةٌ تصفُ مكانا سيطر عليه الجحيمُ والخراب، أو هذا ما أرادتْ منهُ المخرجةُ. فكان الافتتاح لقطةً من علٍ لحيٍّ سكنيٍّ بيروتيٍّ فوضويٍّ، سرعانما راحتْ القُمرةُ تجوبُ أرجاءه، وترينا تفاصيله المتداعيةَ. خرابٌ ترافقُه الموسيقى، وموتٌ تشقُّ هيبتَه (أو تدعمها) مجموعةُ أطفالٍ يلعبون بدمى البنادق والمسدّسات. لقطاتٌ تتقاطع في الذّاكرة مع مشاهد مدينة الله Cidade de deus الشهير.

لكنّ بطلَنا زينْ ليس دزي بيكينيو Zé Pequeno، بل هو صبيٌّ لبنانيٌّ لم يتجاوز الثالثة عشر، ويعمل عند صاحبِ محلٍّ حتّى لا يطردَه وعائلتَه من البيت الّذي أجره لهم. أبوه لا يفعل شيئا سوى الاندهاش من حاله والسخط على حياته، وأمُّه تحاول عبثا السيطرةَ على كلِّ من خرج من رحمها، وتحاول بجهدٍ أقلَّ أن تمنع قدوم أشخاصٍ آخرين.


تنقلُ لنا نادين لبكي تفاصيلَ كثيرةً عن الحياةِ اليوميّةِ في هذا الجحيم. تنقلُ إلينا أفكارا عن غسيلهم، عن أكلهم، عن مشروباتهم، عن تحيّلهم على الصيدلية، عن تعوّدهم على السجون، عن بنادق صبيانهم الخشبية، عن نومهم، عن حياتهم الجنسية، عن علاقاتهم في ما بينهم، عن خضوعهم لمن يملكون المال، عن قذارة بيئتهم، وحدّة طباعهم. وفي لجّة الخراب، ترفع نادين لبكي أعمدة الدراما. فمن زواج أختِه الصغيرة القاصر، تبدأ مغامرةُ زين المثيرةُ، وتبلغُ ذروتَها مع يوناس الرضيع الاثيوبيِّ المتروك في أحضانه، هو الذي لا يجد لنفسه أكلاً. هل بكى زين؟ هل نظر إلينا عبر القُمرة صارخا متوسّلا؟ كلاّ، بل كان في كلّ مرة يبحث عن حيلة جديدةٍ ليعيش يوما إضافيّا، كان يضحكنا، ويثير شغفنا بالحياة إذ يذكّرنا بحلاوةِ الانتصار على سوءاتها. إن هي مرّتان أو ثلاث، بكى فيهما كما قد يبكي أي شخص آخر، بدون مبالغة ولا تكلّفٍ. فكيف استدرّ الدّموع؟

ثمّ إنّ التّكلّف يصبحُ صعبا مع ممثّلين مثل هؤلاء، لأنّ المخرجة أتت بهم من ذات البيئة الّتي تصوّرها في الفيلم. فمؤدّي شخصيةِ زين، هو زين الرّافعي، لاجئ سوريّ يمرّ بذات الظروف الصعبة. أمّا مؤدّية شخصيّةِ تاغست/راحيل فهي أيضا إثيوبيةٌ مهاجرة لا تملك أوراقا رسميّةً، ولسخريّة الأقدار، أوقفتْ في ذات الأيّام الّتي كان فيها تصوير مشاهد القبض على شخصيّتها، كأنّما يحاول الواقعُ أن يحاكيَ الخيالَ لا العكس. وكذلك الأمر لأبويْ زين في الفيلم، فكان آداء أمّه سعاد (كوثر حداد) شيئا لا يصدّق، شيئا حقيقيّا إلى درجة تكاد تتجاوز الواقع نفسه. كلّ شيء في تصرّفاتها يحكي قصّة حياة امرأةٍ مثل سعاد، ركام من الجهل واليأس والبراغماتية والحنوّ والحسرة وبقايا الحبّ. وحينما توجّهت بحديثها إلى نادين المحامية في المحكمة، كانت وكأنّها تقول كلامها، وتوجّهه إلى نادين المخرجة.


إن كفرناحوم انتصارٌ دراميٌّ للسينما اللبنانية والعربية، لما فيه من صنعةٍ ومتانة واهتمام بالتفاصيل. وهو أيضا انتصارٌ فنيٌّ، فعدسةُ نادين لبكي لم تقصّر هي الأخرى في إلمامها بالتفاصيل. ولقد كانتْ قُمرتُها الملتزمةُ بارتفاعٍ يحاكي قامةَ زين الصغيرة، تقتفي أثر الصبيِّ وتعكسُ ما تلتقطُه عيناهُ، وتجعلنا نرى الدنيا من حولهِ بهما. فماذا عن الجانب الأدبيّ؟

لا شكّ أنّ نادين لبكي حاولت بالفعل أن تصنع فيلما "يعالج الكثير من القضايا الاجتماعية"، وهو مقصد رديء يعودُ إلى سوء فهم عربيٍّ متواصل للفنّ. كأنّه لا يكون جدّيّا ومقبولا إلا بقدر ما "يطرح" من قضايا، وبقدر ما تكون هذه القضايا مسكوتا عنها. على أنّ ما أرادت به المخرجةُ اللبنانيّةُِ سوءا، كان ميزةً في الفيلمِ. ففي تصوير مثل هذا الحيِّ البيروتيِّ، لا يزيدُ المشهدَ بلاغةً إلّا تنوّعُ المصائب والإشكاليات: غياب التنظيم الأسريِّ، زواج القاصرات، كدح الأطفال، اِنتشار الأميّة، البناء الفوضويّ، فساد البنية التحتية، المخدرات، الانقطاع عن التّعليم، الاتجار بالبشر، اِستغلال العملة اللاشرعيّين… إنّ اجتماع كلّ هذا، هو ما صنع المشهد، وإنّ أغلبها قد مرّ عَرَضا، ولم يتجاوز الديكور الدراميَّ، لذلك أستحسنه وليس العكس. إنّ قيمة كفرناحوم تكمن أساسا في أنّه لم يتحوّل إلى برنامج وثائقيٍّ وظلَّ عملا فنّيّا. يُحمل المشاهِدُ على التّحمّس لصراع زين من أجل البقاءِ، وعلى اكتشافِ أطباع النّاس الذين يقابلهم. هذا يحنُّ عليه ويشتري له شطيرةً، وهذا يريدُ التّحرُّش به، هذه على فقرها تستضيفه في دارها، وتلكَ تحرمه من استعادةِ أغراضه. هذه تعلّمُه تقنيات الشحاذة، وهذا يعرضُ عليه بيعَ يوناس. هذه بانوراما إنسانيّةٌ ثريّةٌ ومهمّة، فلماذا نتجاوزُها نبشا في "القضايا"؟ لماذا نتجاوزُ فرادةَ زين لنزجَّ به في قالبٍ إحصائيٍّ؟ ألسنا بذلك نُعدمه مرّة ثانية بعدما أخرجته نادين لبكي إلى النّور؟

لقد ركّزت المخرجةُ على محاورَ معدودةٍ مثَّلَ الانتقالُ فيما بينها مغامرة البطل: زواج القاصرات، فالهجرة اللّاشرعية، فأطفال الشوارع. فصوّرت كلّا منها بما تأتّى، دون أن تنشغل بالمعالجة، أو طرح الحلول كما طالب البعضُ. كأنّما على السينما أن تطرح المشكل وتبحث عن العلل وتقترح الحلول. ربّما عليها أن تنفّذ أيضا وتترك السّياسيّين والمفكّرين ومنظمات المجتمع المدنيّ ينشغلون بمسائل أهمّ. أمّا أنا فحسبي من الفنِّ مهمّتُه الأساسيّةُ وهي تعبيريّتُه، ولقد عبّرتْ نادين لبكي بجدّية واحترامٍ عن أحد وجوه مجتمعها المغيّب عن الشّاشة. ورغم ذلك، فتعبيرُها لم يخلُ من نَفَسٍ برجوازيٍّ لا نستطيع إنكار وجوده.


تقول نادين لبكي إنّها حذفت الكثير من مشاهدِها في الفيلم، وأبقت فقط على النّزر القليل منه، ذلك أنّها تعتبرُ وجودها فيه، الكذبة الوحيدةَ. فهي لم تكن يوما محاميةً بينما لعب أغلب الممثّلين شخصيّاتِهم الحقيقيّة. ثمّ إنّ دورها عكس نظرةً فوقيّةً مشمئزّةً لا من بيئة زين الفقيرةِ، بل من أهله، من الفقراءِ. إنّها تلك المحامية الّتي هرعت إليه بالنّجدة، ثمّ أشارت بأصابع الاتّهام إلى هؤلاء الهمجِ الجهلة مسائلةً: لماذا تأتون بزين إلى الحياة؟ لماذا تصرّون على التّكاثر ونحن نبارك بِصَمْتنا كلَّ ما يحدثُ لانحساركم وانقراضكم؟ لماذا لا تُنهون الفقر في هذا البلدِ بإنهاء وجود الفقراء، وجودكم؟

لقد كانت واعيةً بوضعيّةِ شخصيّتها، لذلك اختزلته في لقطاتٍ عابرة، ولذلك منحت الوالديْن فرصةً للدّفاع عن نفسيهما، فكانت إجابةُ أمّ زين القاسية، أصيلةً نابعةً من خبرتها الشخصيّةِ. لقد بذلت نادين لبكي مجهودا واضحا لتُقلّص من ظهورها اتّقاء لهذه الصّورة، فأثبتت بذلك صدقا في محاولتها، لا يصحُّ ولو أخلاقيّا التّشكيك فيه.

ربّما اتّقى الفيلمُ الخوض في ما وراء الخراب، ربّما لم يشر بالأصابع إلى أولئك الّذين يملكون مفاتيح السجن، لكنّ المشهد من البلاغة، ما يُعفي المُشاهدَ فرط التّفكير. لماذا لا نعرفُ سنَّ زين؟ لأنّه لا يملك أوراقا رسمية، أبوه لا يملك أوراقا، ثمّ تتوجّه القُمرة إلى سيادة القاضي ـ وهو قاضٍ حقيقيٌّ بالمناسبة. لماذا تُركتْ فتاةُ الإحدى عشر ربيعا تتزوّج؟ لأنّ القانون يسمح بهذا. هكذا يقول الشاهدُ-المتّهم زوجُها السابق. ومرّة أخرى تعود القُمرةُ إلى حضرة القاضي. فهل يحتاج الأمرُ جهدا كثيرا لنفهم مقصد المخرجة؟


إنّ مشهدَ المحاكمةِ الأخير، حيث تجاوزت الأفكارُ الصّورةَ، وطفتْ على الحوار، يعكسُ ولا شكَّ تصوّرا سطحيا وساذجا للقضيّة، لكنّه تصوّرٌ نابعٌ من طفلٍ في نهاية الأمر، أوتيَ ما أوتيَ من ذكاءٍ وفرادةٍ، لا يكاد يعرفُ من الدّولةِ غير جهاز الشرطة، وحضرة القاضي الّذي يقف بين يديه. ولئن تتبنّى المخرجةُ هذا التصوّر على أنّه من طفلٍ استثنائيٍّ فهو لا يلغي سذاجته. وفي الآن ذاته، فالمشهدُ لا يمكن أن يلغيَ باقي الفيلم، ومختلف الصّورِ الكثيرةِ الّتي صوّرت ماهو أبعدُ من سؤال لماذا أنجبتموني؟

فهل سألت راحيل وهي تبكي داخل أسوار السّجن أن لماذا تركتموني أدخل؟ وهل أخفتْ عنّا لبكي مسؤوليّةَ طبقتِها وعنصريّتها حينما حاولت راحيل تغيير كفيلها في ذلك المشهدِ الكوميديِّ الأسود الرائع؟

كفرناحوم عملٌ فنيٌّ متميّزٌ إذ سار بنا في وريدٍ يشقُّ قلب الخراب. واستطاع أن يخرج بدراما إنسانيّةٍ جميلةٍ أفسدتها بشكل ما محاكمةٌ صرّحت بما قد عبّرت عنه المشاهد بشكلٍ أعمقَ. غير أنّ هذا الجانب لا يفسِّر الحملة الهوجاء الّتي تشنّها الأقلامُ العربيةُ على الفيلم. إنّني لا أفهم ماذا يريدون من السّينما العربية. كلّما منحهم فيلمٌ بعضَ خيالٍ قالوا إنّما نريدُ الواقعية. وإذا آتاهم الواقعيّةَ قالوا إنما تنقصُه القضايا. وإذا أمطرهم بها قرّروا أنّه سطحيٌّ إذا لم في العلل والأسباب. وإذا ما خاض فيها، طالبوا بالحلول، وأحالوا كلّ المفكّرين والمحلّلين والخبراء والإداريّين والسيّاسيّين وأهل القرارِ إلى التقاعدِ المبكّر. إذا صوّرَ لهم يوتوبيا قالوا بروباغندا امبريالية. وإذا صوّر الدّيستوبيا قالوا بورنوغرافيا البؤس. وإذا فاز فيلمٌ بجائزة قيّمة، قالوا أجاد إرضاء الغرب. وإذا لم يفز أي فيلمٍ قالوا ماتت السينما. في كلّ اتّجاه يرون النوايا السيّئة ويؤوّلون بقواعد مغروسة في رمال متحرّكة، لا تعرف معها ماذا يريدون. ماذا حقّا يريدون؟!

1 comment:

Anonymous said...

فيلم جعلني أتقصاه في كل ركن من الانترنت و أتقصى كل تفصيلة فيه و عنه.. مزعج ممتع مدهش هو و مقالك اعترضني في توقيت ملائم جدا.. شكرا

Translate