Wednesday, November 21, 2018

كفرناحوم: اِنتصارا لفنّيّةِ الفنِّ


حينما ابتسمَ زين لعدسةِ القُمرةِ في نهايةِ الفيلمِ، فوجئتُ بموجةِ تصفيق متحمّسةٍ في القاعةِ، كأنّما خرجَ الولدُ إلى الرّكحِ أمامَنا، وكأنّما وقفتْ بجانبهِ نادين لبكي تحيّي الحاضرين. أعتقدُ أنّني مع فيلم كفرناحوم أشهدُ لأوّل مرّةٍ موقفا كهذا في قاعة سينما فرنسيّة. فلماذا أفاجأ بالهجوم عليه وعلى صاحبته؟

تُوّج كفرناحوم بجائزتين في مهرجان كانّ لهذه السنة. الأولى جائزة لجنة التحكيم الّتي أقرّت بحرفيّةِ المنجَز، والثانية تصفيق الجمهور إثر العرض الأوّل لزمن قيل إنّه ربع ساعة تقريبا. وبعد غيابٍ طويلٍ، هاهي نادين لبكي تعيدُ لبنان إلى سجلِّ تتويجات المهرجان. مع ذلك، حظيَ الفيلمُ بسخط الكثيرين في لبنان، وربّما في باقي الوطن العربي، لأسبابٍ كثيرة ومتنوّعة. وكيلت لصاحبته تهمٌ كثيرةٌ قليلٌ منها يستحقُّ الانتباه والنقاش.


أكثر التّهمِ حظّا اقترنتْ بالجانب الدّراميِّ. فلئن أثّرت الدراما بشكل قويٍّ على أغلب المشاهدين، شعُر الآخرون بالكثير من التّكلّف فيها، واعتبروا أنّ نادين لبكي أعدّت قصّتها لتستدرَّ الدَّمع وتغتصبه من الأعين.

الحقيقةُ أنّني تفاجأت من هذه الفكرةِ لأنّني أعاني من حساسيّةٍ تُجاه التّكلّفِ في الحزن عادةً، وأكرهُ مشاهد العويل والنّديب. المشكل هنا، أنّ المشاهدَ من الاتقان، بحيث لا يكادُ النّاظر يلحظ شيئا من التّصنّع. إنّ كفرناحوم عبارةٌ تصفُ مكانا سيطر عليه الجحيمُ والخراب، أو هذا ما أرادتْ منهُ المخرجةُ. فكان الافتتاح لقطةً من علٍ لحيٍّ سكنيٍّ بيروتيٍّ فوضويٍّ، سرعانما راحتْ القُمرةُ تجوبُ أرجاءه، وترينا تفاصيله المتداعيةَ. خرابٌ ترافقُه الموسيقى، وموتٌ تشقُّ هيبتَه (أو تدعمها) مجموعةُ أطفالٍ يلعبون بدمى البنادق والمسدّسات. لقطاتٌ تتقاطع في الذّاكرة مع مشاهد مدينة الله Cidade de deus الشهير.

لكنّ بطلَنا زينْ ليس دزي بيكينيو Zé Pequeno، بل هو صبيٌّ لبنانيٌّ لم يتجاوز الثالثة عشر، ويعمل عند صاحبِ محلٍّ حتّى لا يطردَه وعائلتَه من البيت الّذي أجره لهم. أبوه لا يفعل شيئا سوى الاندهاش من حاله والسخط على حياته، وأمُّه تحاول عبثا السيطرةَ على كلِّ من خرج من رحمها، وتحاول بجهدٍ أقلَّ أن تمنع قدوم أشخاصٍ آخرين.


تنقلُ لنا نادين لبكي تفاصيلَ كثيرةً عن الحياةِ اليوميّةِ في هذا الجحيم. تنقلُ إلينا أفكارا عن غسيلهم، عن أكلهم، عن مشروباتهم، عن تحيّلهم على الصيدلية، عن تعوّدهم على السجون، عن بنادق صبيانهم الخشبية، عن نومهم، عن حياتهم الجنسية، عن علاقاتهم في ما بينهم، عن خضوعهم لمن يملكون المال، عن قذارة بيئتهم، وحدّة طباعهم. وفي لجّة الخراب، ترفع نادين لبكي أعمدة الدراما. فمن زواج أختِه الصغيرة القاصر، تبدأ مغامرةُ زين المثيرةُ، وتبلغُ ذروتَها مع يوناس الرضيع الاثيوبيِّ المتروك في أحضانه، هو الذي لا يجد لنفسه أكلاً. هل بكى زين؟ هل نظر إلينا عبر القُمرة صارخا متوسّلا؟ كلاّ، بل كان في كلّ مرة يبحث عن حيلة جديدةٍ ليعيش يوما إضافيّا، كان يضحكنا، ويثير شغفنا بالحياة إذ يذكّرنا بحلاوةِ الانتصار على سوءاتها. إن هي مرّتان أو ثلاث، بكى فيهما كما قد يبكي أي شخص آخر، بدون مبالغة ولا تكلّفٍ. فكيف استدرّ الدّموع؟

ثمّ إنّ التّكلّف يصبحُ صعبا مع ممثّلين مثل هؤلاء، لأنّ المخرجة أتت بهم من ذات البيئة الّتي تصوّرها في الفيلم. فمؤدّي شخصيةِ زين، هو زين الرّافعي، لاجئ سوريّ يمرّ بذات الظروف الصعبة. أمّا مؤدّية شخصيّةِ تاغست/راحيل فهي أيضا إثيوبيةٌ مهاجرة لا تملك أوراقا رسميّةً، ولسخريّة الأقدار، أوقفتْ في ذات الأيّام الّتي كان فيها تصوير مشاهد القبض على شخصيّتها، كأنّما يحاول الواقعُ أن يحاكيَ الخيالَ لا العكس. وكذلك الأمر لأبويْ زين في الفيلم، فكان آداء أمّه سعاد (كوثر حداد) شيئا لا يصدّق، شيئا حقيقيّا إلى درجة تكاد تتجاوز الواقع نفسه. كلّ شيء في تصرّفاتها يحكي قصّة حياة امرأةٍ مثل سعاد، ركام من الجهل واليأس والبراغماتية والحنوّ والحسرة وبقايا الحبّ. وحينما توجّهت بحديثها إلى نادين المحامية في المحكمة، كانت وكأنّها تقول كلامها، وتوجّهه إلى نادين المخرجة.


إن كفرناحوم انتصارٌ دراميٌّ للسينما اللبنانية والعربية، لما فيه من صنعةٍ ومتانة واهتمام بالتفاصيل. وهو أيضا انتصارٌ فنيٌّ، فعدسةُ نادين لبكي لم تقصّر هي الأخرى في إلمامها بالتفاصيل. ولقد كانتْ قُمرتُها الملتزمةُ بارتفاعٍ يحاكي قامةَ زين الصغيرة، تقتفي أثر الصبيِّ وتعكسُ ما تلتقطُه عيناهُ، وتجعلنا نرى الدنيا من حولهِ بهما. فماذا عن الجانب الأدبيّ؟

لا شكّ أنّ نادين لبكي حاولت بالفعل أن تصنع فيلما "يعالج الكثير من القضايا الاجتماعية"، وهو مقصد رديء يعودُ إلى سوء فهم عربيٍّ متواصل للفنّ. كأنّه لا يكون جدّيّا ومقبولا إلا بقدر ما "يطرح" من قضايا، وبقدر ما تكون هذه القضايا مسكوتا عنها. على أنّ ما أرادت به المخرجةُ اللبنانيّةُِ سوءا، كان ميزةً في الفيلمِ. ففي تصوير مثل هذا الحيِّ البيروتيِّ، لا يزيدُ المشهدَ بلاغةً إلّا تنوّعُ المصائب والإشكاليات: غياب التنظيم الأسريِّ، زواج القاصرات، كدح الأطفال، اِنتشار الأميّة، البناء الفوضويّ، فساد البنية التحتية، المخدرات، الانقطاع عن التّعليم، الاتجار بالبشر، اِستغلال العملة اللاشرعيّين… إنّ اجتماع كلّ هذا، هو ما صنع المشهد، وإنّ أغلبها قد مرّ عَرَضا، ولم يتجاوز الديكور الدراميَّ، لذلك أستحسنه وليس العكس. إنّ قيمة كفرناحوم تكمن أساسا في أنّه لم يتحوّل إلى برنامج وثائقيٍّ وظلَّ عملا فنّيّا. يُحمل المشاهِدُ على التّحمّس لصراع زين من أجل البقاءِ، وعلى اكتشافِ أطباع النّاس الذين يقابلهم. هذا يحنُّ عليه ويشتري له شطيرةً، وهذا يريدُ التّحرُّش به، هذه على فقرها تستضيفه في دارها، وتلكَ تحرمه من استعادةِ أغراضه. هذه تعلّمُه تقنيات الشحاذة، وهذا يعرضُ عليه بيعَ يوناس. هذه بانوراما إنسانيّةٌ ثريّةٌ ومهمّة، فلماذا نتجاوزُها نبشا في "القضايا"؟ لماذا نتجاوزُ فرادةَ زين لنزجَّ به في قالبٍ إحصائيٍّ؟ ألسنا بذلك نُعدمه مرّة ثانية بعدما أخرجته نادين لبكي إلى النّور؟

لقد ركّزت المخرجةُ على محاورَ معدودةٍ مثَّلَ الانتقالُ فيما بينها مغامرة البطل: زواج القاصرات، فالهجرة اللّاشرعية، فأطفال الشوارع. فصوّرت كلّا منها بما تأتّى، دون أن تنشغل بالمعالجة، أو طرح الحلول كما طالب البعضُ. كأنّما على السينما أن تطرح المشكل وتبحث عن العلل وتقترح الحلول. ربّما عليها أن تنفّذ أيضا وتترك السّياسيّين والمفكّرين ومنظمات المجتمع المدنيّ ينشغلون بمسائل أهمّ. أمّا أنا فحسبي من الفنِّ مهمّتُه الأساسيّةُ وهي تعبيريّتُه، ولقد عبّرتْ نادين لبكي بجدّية واحترامٍ عن أحد وجوه مجتمعها المغيّب عن الشّاشة. ورغم ذلك، فتعبيرُها لم يخلُ من نَفَسٍ برجوازيٍّ لا نستطيع إنكار وجوده.


تقول نادين لبكي إنّها حذفت الكثير من مشاهدِها في الفيلم، وأبقت فقط على النّزر القليل منه، ذلك أنّها تعتبرُ وجودها فيه، الكذبة الوحيدةَ. فهي لم تكن يوما محاميةً بينما لعب أغلب الممثّلين شخصيّاتِهم الحقيقيّة. ثمّ إنّ دورها عكس نظرةً فوقيّةً مشمئزّةً لا من بيئة زين الفقيرةِ، بل من أهله، من الفقراءِ. إنّها تلك المحامية الّتي هرعت إليه بالنّجدة، ثمّ أشارت بأصابع الاتّهام إلى هؤلاء الهمجِ الجهلة مسائلةً: لماذا تأتون بزين إلى الحياة؟ لماذا تصرّون على التّكاثر ونحن نبارك بِصَمْتنا كلَّ ما يحدثُ لانحساركم وانقراضكم؟ لماذا لا تُنهون الفقر في هذا البلدِ بإنهاء وجود الفقراء، وجودكم؟

لقد كانت واعيةً بوضعيّةِ شخصيّتها، لذلك اختزلته في لقطاتٍ عابرة، ولذلك منحت الوالديْن فرصةً للدّفاع عن نفسيهما، فكانت إجابةُ أمّ زين القاسية، أصيلةً نابعةً من خبرتها الشخصيّةِ. لقد بذلت نادين لبكي مجهودا واضحا لتُقلّص من ظهورها اتّقاء لهذه الصّورة، فأثبتت بذلك صدقا في محاولتها، لا يصحُّ ولو أخلاقيّا التّشكيك فيه.

ربّما اتّقى الفيلمُ الخوض في ما وراء الخراب، ربّما لم يشر بالأصابع إلى أولئك الّذين يملكون مفاتيح السجن، لكنّ المشهد من البلاغة، ما يُعفي المُشاهدَ فرط التّفكير. لماذا لا نعرفُ سنَّ زين؟ لأنّه لا يملك أوراقا رسمية، أبوه لا يملك أوراقا، ثمّ تتوجّه القُمرة إلى سيادة القاضي ـ وهو قاضٍ حقيقيٌّ بالمناسبة. لماذا تُركتْ فتاةُ الإحدى عشر ربيعا تتزوّج؟ لأنّ القانون يسمح بهذا. هكذا يقول الشاهدُ-المتّهم زوجُها السابق. ومرّة أخرى تعود القُمرةُ إلى حضرة القاضي. فهل يحتاج الأمرُ جهدا كثيرا لنفهم مقصد المخرجة؟


إنّ مشهدَ المحاكمةِ الأخير، حيث تجاوزت الأفكارُ الصّورةَ، وطفتْ على الحوار، يعكسُ ولا شكَّ تصوّرا سطحيا وساذجا للقضيّة، لكنّه تصوّرٌ نابعٌ من طفلٍ في نهاية الأمر، أوتيَ ما أوتيَ من ذكاءٍ وفرادةٍ، لا يكاد يعرفُ من الدّولةِ غير جهاز الشرطة، وحضرة القاضي الّذي يقف بين يديه. ولئن تتبنّى المخرجةُ هذا التصوّر على أنّه من طفلٍ استثنائيٍّ فهو لا يلغي سذاجته. وفي الآن ذاته، فالمشهدُ لا يمكن أن يلغيَ باقي الفيلم، ومختلف الصّورِ الكثيرةِ الّتي صوّرت ماهو أبعدُ من سؤال لماذا أنجبتموني؟

فهل سألت راحيل وهي تبكي داخل أسوار السّجن أن لماذا تركتموني أدخل؟ وهل أخفتْ عنّا لبكي مسؤوليّةَ طبقتِها وعنصريّتها حينما حاولت راحيل تغيير كفيلها في ذلك المشهدِ الكوميديِّ الأسود الرائع؟

كفرناحوم عملٌ فنيٌّ متميّزٌ إذ سار بنا في وريدٍ يشقُّ قلب الخراب. واستطاع أن يخرج بدراما إنسانيّةٍ جميلةٍ أفسدتها بشكل ما محاكمةٌ صرّحت بما قد عبّرت عنه المشاهد بشكلٍ أعمقَ. غير أنّ هذا الجانب لا يفسِّر الحملة الهوجاء الّتي تشنّها الأقلامُ العربيةُ على الفيلم. إنّني لا أفهم ماذا يريدون من السّينما العربية. كلّما منحهم فيلمٌ بعضَ خيالٍ قالوا إنّما نريدُ الواقعية. وإذا آتاهم الواقعيّةَ قالوا إنما تنقصُه القضايا. وإذا أمطرهم بها قرّروا أنّه سطحيٌّ إذا لم في العلل والأسباب. وإذا ما خاض فيها، طالبوا بالحلول، وأحالوا كلّ المفكّرين والمحلّلين والخبراء والإداريّين والسيّاسيّين وأهل القرارِ إلى التقاعدِ المبكّر. إذا صوّرَ لهم يوتوبيا قالوا بروباغندا امبريالية. وإذا صوّر الدّيستوبيا قالوا بورنوغرافيا البؤس. وإذا فاز فيلمٌ بجائزة قيّمة، قالوا أجاد إرضاء الغرب. وإذا لم يفز أي فيلمٍ قالوا ماتت السينما. في كلّ اتّجاه يرون النوايا السيّئة ويؤوّلون بقواعد مغروسة في رمال متحرّكة، لا تعرف معها ماذا يريدون. ماذا حقّا يريدون؟!

Friday, October 26, 2018

نداءُ القمر

في سنةِ 1999 وقبيلَ وفاتِه بلحظاتٍ، ظهر شريط فيديو للمخرجِ الأمريكيِّ الكبير ستانلي كيوبرك يشرحُ فيه كيفَ زوّر عمليّةَ هبوطِ الإنسان على سطح القمر، وكيف حقّق سنة 1969 أكبر خدعةٍ سينمائية في التاريخ. ورغمَ ثبوت زيف شريط الاعتراف هذا وعدم نسبته إلى كيوبرك، فإنّه لم يسمح إلاّ بتغذية فكرةِ المؤامرةِ. لقد سبقَ فيلمُه أوديسا الفضاء 2001، رحلةَ أبولو11 بسنةٍ، وطويلا ما اعتُبرَ الفيلمُ تحضيرًا أو "بروفةً" لإنجاز الخدعة الكبرى. وساهمَ فيلمُ البريق The Shining سنة 1980 بتفاصيلهِ الغامضةِ في إثراءِ الأسطورةِ (راجع الشريط الوثائقيَّ : الغرفة 237)، فاقترنَتْ أشهرُ مغامرةٍ للإنسانِ عبر التّاريخِ بعالمِ السينما. أليس غريبًا أنّ هوليود لم تُخلّدها في أيَّ فيلمٍ بعد؟


تفطَّن المخرجُ الأمريكيُّ (الفرنسيُّ) داميان شازال Damien Chazelle لهذا الفراغِ فبدأ التّفكيرَ في المشروعِ من قبلِ العملِ على غنائيّتِه العبقريّةِ لالالاند La La Land سنة 2016. يجب الحديث قليلاً عن شازال ربّما لأنّ نظرية المؤلّف Auteur Theory تنطبق على أعماله بشكلٍ كبير. لقد أنجز وهو بعدُ في الثالثة والثلاثين ثلاثةَ أفلامٍ روائية طويلةٍ، آخرها لالالاند المتوّجُ بستّ جوائزِ أوسكار، وأحدُها رائعةُ ويبلاش Whiplash أحد أهمِّ أفلامِ العشريّةِ الأخيرةِ.

ترتبطُ كلّ أعمالِ شازال وثيقًا بالموسيقى، لذلك كان إعلانُ فيلمِه الجديدِ مباغتا، كأنّ الرَّجلَ سيغامر بالعملِ خارجَ نطاقِه، لكنّ العنوانَ يكذّبُنا.

الإنسانُ الأوَّلُ First Man هي الصّفةُ الّتي ارتبطتْ إلى الأبدِ بالأمريكيِّ نيلْ أرمسترونغ Neil Armstrong منذ أن وضعَ قدمَه على سطح القمرِ. وهو إنجازُه الّذي به يُعرَفُ ويُعرَّفُ. وبه يبشِّرُ بدراميَّةِ العلاقةِ بين الإنسانِ ومنجَزه: هلْ كانت رحلتُه إلى غياهبِ الفضاءِ ممتعةً وثيرةً؟ هل كان الوصولُ خاليا من التضحيات؟ وإن وجدتْ فهل كان الإنجازُ من مقامِها، جديرًا بها؟

عبر هذه الأسئلةِ نستعيدُ من جديدٍ أفلامَ شازال السّابقةِ وندرُك الجامعَ الحقيقيَّ بينها. إنّنا تقريبا أمام فكرةٍ واحدةٍ، تدعو إلى التوقّف للحظاتٍ أمام هاجسِ الإنجازِ والتّأمّل فيهِ وفي عواقبه وفي فداحةِ الثّمنِ الّذي قد يدفعه المرءُ من أجله. وهي فكرةٌ تناسبُ بديهيًّا فيلما عن أرمسترونغ.

الحقيقةُ أنّ فكرتنا عن السّفر إلى الفضاءِ الكونيِّ موبوءَةٌ بالآمال المعقودةِ على المستقبلِ، بصورة الرُّوادِ النّائمين في سكينةٍ داخلَ قوقعةٍ صُلبةٍ ووثيرةٍ حتّى الوصولِ إلى الهدفِ. إنّ رائدَ الفضاءِ شخصٌ محظوظٌ غالبا، ولو أنَّ أفلاما كثيرةً تمحورت حول الحوادثِ الفضائيةِ (رجلُ المرّيخ The Martian، جاذبية Gravity، أبولو13) فإنّها حوادثٌ لا تُلغي فكرةَ التّشريفِ، وفكرةَ الحُظوةِ اللامبرَّرةِ الّتي يحصلُ عليها الرّائدُ منذ البدايةِ. ثمَّ إنّ رحلةَ أبولّو 11 التّاريخيّةَ كانت خاليةً من الحوادثِ (أو هكذا يخيَّلُ إلينا)، إنّها رحلةٌ مظفَّرةٌ يمرحُ خلالَها الإنسان/الرّائدُ فوق سطح القمرِ بلا أيّةِ هواجس.

وفي هذا المستوى، يُحقِّقُ "الإنسانُ الأوّلُ" أولى انتصاراتِه. فإن التزمَ الفيلمُ بفكرةٍ تجاهَ الحدث التّاريخيِّ، فهي ولا شكَّ إعادة تشكيل صورة الرّائدِ وصورة الرِّحلةِ الفضائيّةِ. في سنة 1962 لم يطرحْ بعدُ على نيل أرمسترونغ فكرةُ السفرِ إلى القمر. وحتّى سنة 1968 أي قبل سنة من الرحلةِ، لم يكن هو الخيارَ الأوّلَ للمغامرةِ. وكان عليه قبل أن يقودَ أبولو 11، أن يجتهدَ كثيرا، ويعانيَ طويلا، ويؤجّل موته مرارا. لا تسئ فهمي، فلسنا إزاء فيلمٍ عن المثابرة حتّى النّجاحِ. ولا يوجدُ أيُّ مشهدٍ احتفاليٍّ ملحميٍّ في نهايتِه. لقد كانت عذاباتُ رائد الفضاءِ فكرةً بعينها. صورةً أرادَ لها شازال أن تطفوَ وتكشفَ عن استحقاقٍ حرمت منه هذه الفئةُ طويلا.

لم تكنْ رحلةُ الإنسانِ إلى القمرِ مسلّيةً إلى الحدِّ الّذي قد نتخيّله. ولم تقدر عقولُ المهندسين والفيزيائيين أن تؤمّنَ كلَّ شيءٍ. لقد كان الموتُ مترصّدا بشكلٍ مدهشٍ. مختبئا بين أكمات الأخطاءِ الرّياضيّةِ البسيطة جدا، وخلف كلِّ غفلةٍ عن عاملٍ من عواملِ الطبيعةِ اللاّنهائيّةِ. حين التحقَ نيل بمشروع جيميني Gemini، فقد زميلهُ إليوت سي Elliot See الحياةَ رفقة آخرينَ في تدريبات جويّةٍ سنة 1966. ثمّ كانت كارثة أبولو 1 سنة 1967 إذ احترق ثلاثةٌ من خيرةِ الرّوادِ في قُمرةِ القيادةِ قبل الانطلاق. وكان من بينهم إد وايت Ed White جارُ نيل وأقربُ الزملاء إليه.



لم يقتصد شازال كثيرا في تصوير حضور الموتِ، فصوّرَ مشهد الاحتراق من خارج القمرة بطريقة مستفزّةٍ موجعةٍ. وتابعَ لحظاتٍ نجا فيها نيل بأعجوبةٍ خلال عمليّاتٍ تدريبيّةٍ أو مهامّ رسميّةٍ. اِنفجارات، جروح، حوادث، غيبوبة في الفضاء، وخروج عن سكّةِ الجاذبية. تنويعٌ يذكّرنا قليلا بأطباقِ الموتِ التّي قدّمها فيلم دنكرك منذ سنتين. هاهو يستنبطُ له وصفة جديدةً: فخلفَ السّكون الّذي قد توحي به صورةُ قُمرةِ القيادةِ، تتعالى ملحمةٌ صوتيّةٌ معدنيّةٌ رهيبةٌ تعكسُ هشاشةَ السُّفنِ الفضائيّةِ. وفي مشهدِ الافتتاحِ، كانت المركبةُ تعوي عواءً مخيفا، أشبه باستغاثات البشر، ونرى احمرار مقدّمتها وهي تجاهد لاختراق الغلاف الجويّ. وفي مشهدٍ آخر، يخيَّلُ إلينا سماعُ تطايرِ البراغي. هندسةٌ صوتيّةٌ تحبسُ الأنفاسَ، تبلّغُنا أنّ روّاد الفضاء الأوائلِ، كانوا يسافرون في علب سردين تقريبا، وكان الموتُ أقربَ إليهم من حبلِ الوريدِ.

جُعلت فكرةُ الموت محوريّةً في الفيلم. فلم تقتصر على عملِ أرمسترونغ في وكالة الفضاء، بل تواصلت في منزله. لقد كان شازال بحاجةٍ إلى بهاراتٍ دراميّةٍ وقد وجدها في وفاةِ كَارِنْ أرمسترونغ Karen، فحوّلَ عبرها اﻹنجاز العظيمَ إلى محنةٍ لازمت الرّائد طيلةَ ستّ سنين. وبدا كأنّه في رُنوّه للسماءِ يبحثُ عن ابنته، ويرغب أن يلتقيها مرّةً أخرى. لقد ساهم هذا الخيارُ في جعلِ انطوائيّتِه الّتي عُرفَ بها طبيعيّةً. ولا شكَّ أنّ اختيارَ ممثِّلٍ يجيدُ التعبيرَ الضّمنيَّ عن الحزنِ والغضبِ مثلَ ريان غوسلينغ Ryan Gosling لم يكنْ عشوائيّا. في المقابلِ، أدّت كلير فوي Claire Foy دورًا أكثر انفعاليّةً عبر شخصية جانِتْ أرمسترونغ Janet Armstrong. ونتيجةُ ذلك، دراما عائليّةٌ جيّدةٌ، تُوّجت بمشهدِ الوداعِ الّذي سيظلُّ محفورا في الأذهانِ.


هل بالغ شازال في استعمالِ موت كارن Karen لأغراضه الدّرامية؟ لا أظنّ ذلك، ولكنّنا نلمسُ تهافتا من أجل إفرازِ المعنى من سيرةِ البطلِ. ربّما كان موت البُنيّةِ مؤثّرا، وربّما كان حضورُ الموتِ في حياتِه طاغيا، لكن يصعبُ أن يمثِّل ذلك دافعا كافيا لرحلته. إنّ أرمسترونغ مجبولٌ على المضيِّ قدما، مع حضور الحوافزِ التاريخية والسياسيّة والمادية وغيرها. لقد كان أشبهَ بجنديٍّ في معركةٍ محمومةٍ لغزوِ الفضاءِ. بل إنّ هذا أبعدُ ما يكون عن المجازِ، وأبعدُ ما يكون عن العفويّةِ. فقد كانت أخبارُ الضحايا تأتي كأخبارِ الوفيّاتِ من الجنودِ، وكان التحضير للتأبين يحدثُ بذات السّياسةِ. ذلك ما خفيَ عن أعيننا وراءَ خطوات الإنسانِ المختالةِ على سطحِ القمرِ، وذلك ما حاول شازال أن يبرزَه.

يبقى "الإنسانُ الأولُ" مع ذلك فيلمًا عن الفضاءِ. لؤلؤة في عقدِ أفلامِ الميزانيّاتِ الضّخمةِ الّتي جادتْ بها هوليود عن غزو النجوم. لقد كان الفضاءُ في ما مضى حصرا على صنف الخيالِ العلميِّ، ولذلك يصنَّفُ فيلمٌ عجائبيٌّ (Fantastic) مثل حرب النجوم Star Wars على أنّه خيالٌ علميٌّ. وللسّبب نفسه وقفَ الكثيرُ حائرين بشأنِ تصنيفِ فيلمِ "جاذبية" Gravity. لكنّ "الإنسان الأوّل" يكسرُ بشكلٍ قاطعٍ احتكار الخيالِ العلميِّ على الفضاءِ الكونيِّ الشاسع، إذ يمنحُه إلى نقيضه : السينما التّاريخيّةِ.

تكشفُ مشاهدُ الفيلمِ عن إحاطةٍ مدهشةٍ بتفاصيلِ الحقبةِ الزمنيةِ. رائحةُ السّتيناتِ في الملابسِ، وأثاثِ المنزلِ، والتقنياتِ والموسيقى، والأحداثِ طبعا. وجرى تدقيقٌ تاريخيٌّ صارمٌ في أبسطِ آلات التدريبِ ومركباتِ الفضاءِ الأسطوريّةِ المشاركةِ في الرحلةِ. طبعا لا دخلَ لي في تأكيدِ هذه الدّقّةِ، فهناكَ مختصّون وخبراءٌ قد شهدوا به.

وعلاوةً على الدِّقّة، فقد اعتمدَ شازال على أموال يونفرسال Universal الطّائلةِ ليقدّمَ لنا صورةً مدهشةً للقمر. في مشهدٍ عظيمٍ ساحرٍ تتماهى عيون المتفرجين بعينيْ الإنسانِ الأوّلِ وهو يديرهُما على المكانِ المظلمِ المنير في آن. صخورٌ ملءَ الأفقِ، وصمتٌ تضيعُ فيه الجاذبيةُ، وعناقٌ بين الضّوء والعتمةِ، وتناقضٌ حادٌّ فاتنٌ كأفلامِ الجريمة السوداءِ Noir ولقطةٌ في ثلاثمائةٍ وستينَ درجةً تؤكّدُ على محدوديَّة تأثيرِ الكمبيوتر في هذا التنصيبِ التشكيليِّ المذهلِ.



تقنيّا، فقد تخلّى المخرجُ عن الصور المصمّمة بالكمبيوتر CGI واعتمد على الطّرق الهوليوديّةِ الكلاسيكيّةِ البديعةِ. فاستعملَ مركبات فعليّة محاطةٍ بشاشات عملاقةٍ تعكسُ الخلفيّةَ المطلوبة. فكان الممثِّلُ أثناءَ التصوير قادرًا على تأمُّل سطحِ القمرِ، دون حاجة إلى تخيّله. وهو عملٌ معقّدٌ أضفى على المشهدِ أصالةً عظيمة.

أمّا أسلوبيّا، فقد طغت لقطة القُمرة الذّاتيّة Point of View shot على أغلب مشاهدِ الحركة، ليعيش المشاهدُ لحظات الاقترابِ من الموتِ كما لو كان رائدَ فضاءٍ. وهذا ليس تشبيها بلاغيّا، فأغلب الظنِّ أنّ الفيلمَ معدٌّ خصّيصا لتقنية الواقع الافتراضيِّ Virtual Reality ولن ننتظر طويلا قبل أن نجد عروضا بهذا الشّكل. وعلى كلّ حالٍ فـ"الإنسان الأول" تجربةٌ بصريّةٌ يستحسنُ أن تتمَّ في أفضل الظروف، أمام شاشة IMAX لمن استطاع إليها سبيلا.

أعتقد أنّ شازال لم يُفلحْ كثيرا على المستوى الأدبيِّ، فالعملُ تكلّف النّبشَ في فكرةِ الموتِ، وعلاقتها بدفعِ الإنسانِ إلى القمّةِ، ولم يبلغ الأصالةَ إلاّ في تغييرِ فكرتِنا عن رائدِ الفضاءِ وطبيعةِ عملهِ. وعلى المستوى الدّراميِّ لستُ أشاطرُ انتقاد الكثيرين لغوسلنغ على فتورِ ملامِحه وعجزه عن تبليغِ انفعالاته، فالرَّجلُ في صمته كان قادرا على تبليغ أعقدها، وقد أثبت ذلك في أكثر من مشهدٍ. أما على المستوى التقنيِّ، فالفيلمُ تحفةٌ حقيقيّةٌ سيتردّد إسمه طويلا في ترشيحات الأوسكار لهذا الموسم.
 
الفيلم : الإنسانُ الأوّلُ First Man
المخرج : داميان شازال Damien Chazelle
الصنف : سيرة، تاريخ، حركة، فضاء
المدّة : 141 دقيقة
السنة : 2018
النجوم: ريان غوسلنغ Ryan Gosling، كلير فوي Claire Foy

Friday, October 19, 2018

نارُ الحقيقةِ الحارقة

منذ أن سرق بروميثيوس النّار من مجتمع الآلهة، وهي في حالة استعارة متبادلةٍ مع فكرة الإنسان عن الحقيقةِ. ذلك أنّ الأولى تشحذ حواسّ المرءِ وتستفزّها. وبلسعتها، ودخانها ووهجها و فحيحها، تُدْرَكُ حتّى الألمِ وحتّى يستحيل تجاهُلها. وكذلك الحقيقةُ.
 
ويبدو أنّ تشانغدونغ لي Chang-dong Lee كان مدركا لهذه الدّيناميكيّة حين أنجز فيلمه الأخير "حارق" Beoning، فمشى على حافّتها بمهارة محيّرةٍ.

لمن لا يعرفُ الرّجلَ، فـتشانغدونغ لي من أهمّ المخرجين الكوريّين، وسبق أن حصل على جوائز في كانّ Cannes وفي البندقيّة عن فيلمي الشِّعر Poetry وأشعّة الشمس السرّيّة Secret Sunshine، وهو الفيلم الكوريُّ الوحيد الّذي تقترحُه مجموعةُ كرايتيريون Criterion Collection المرموقةُ للأفلام الكلاسيكيّة والمعاصرة.

وفي فيلم "حارق" Beoning (والأصل هي الكلمة الإنكليزية Burning لكن هكذا ينطقها الإخوة الكوريّون)، يواصلُ لِي عملَه على سينما الواقعية السحريّة أو الواقعيّة الشِّعريّة، لكنَّه يضيفُ إليها بهارات الإثارة Thriller بحرفيّةٍ أدارت إليها الرّقاب في مهرجان كانّ Cannes الأخير. فسادَ الاعتقادُ في الكواليسِ بأنّه المرشّح الأول للسّعفة الذهبية، لكنّ اللجنة كانت قد فضّلت فيلم يابانيّا…



من الصّعب تقديم الفيلمِ بقصّته. فالأحداثُ فيها ملتبسةٌ تتسرّبُ من بين أصابعِ الإدراكِ. وهو ما سأطرحُه لاحقا… يصوّرُ ظاهرُ القصّةِ بعضًا من حياة جونغسو Jong-Su، ابن الفلاّح السّجينِ، الّذي يريد أن يصبحَ كاتبا. إذ يلتقي الفتى بصديقة الطّفولةِ هَايْمِي Hae-Mi فتتوطّدُ علاقتُهما قبيلَ سفرها المفاجئ إلى إفريقيا. لكنّها تعودُ رفقةَ بِينْ Ben الكوريِّ الثريِّ دون أن توضِّح علاقتهما، وتبدأ قصّةٌ ثلاثيةٌ مُرْبِكةٌ وضبابيّةٌ، يتأرجحُ فيها المشهدُ بين عالَمِ بِينْ المُترَفِ العجائبيّ وبين عالمِ جونغسو الرّيفيِّ البائس عند الحدودِ الكوريّة الشمالية. ثمّ، مع اختفاءِ إحدى الشّخصيّاتِ المفاجئ، يأخذُ (المشهد) طابعَ الغموض والإثارةِ، وينتهي بشكلٍ عنيفٍ ومباغتٍ لا أرغبُ في كشفِ تفاصيله. لكنّ ظاهر القصّةِ لا يشتركُ في الكثير مع باطنها، بل إنّ هذا الظاهرَ العالقَ بقشرةِ الأحداثِ لا يكفي لفهمها (القصّة)، وإنّما نحن بحاجةٍ إلى الكثير من المجازِ والتّأويلِ للعثورِ على الحقيقةِ.

يتأسّس الفيلمُ على ثنائيّاتٍ عديدةٍ متقابلةٍ ومتناقضةٍ. وأهمُّها ولا شكَّ، شخصيّتا بِينْ وجونغسو. فعدا التّقابل بين الاسم الانكليزيّ والاسم الكوريِّ، ينتمي الأوّلُ بكلِّ شكلٍ إلى ضواحي العاصمةِ الأكثر دَعةً، وينتمي الثّاني إلى إحدى القرى الحدوديّةِ التّابعة لمدينة باجو Paju، حيثُ لا تنقطعُ مكبّرات الصوتِ الكوريّة الشماليّة عن ترديد خطب البروباغندا الاستفزازيّةِ. يعيشُ الأوّلُ في منزلٍ أنيقٍ تنبعث فيه الموسيقى مداعبةً داعيةً إلى الحياة، ويعيشُ الثاني في منزل ريفيٍّ تتكدّس أغراضُه في مللٍ وقنوطٍ. يستعملُ هذا شاحنةَ أبيهِ الفلاحيّة الصدئة، ويتسلّى ذاك بسيّارة بورشه Porsche يتمنّى غيرُه أن يراها عن قرب لا أكثر. طبقتان اجتماعيّتان شديدتا التباينِ، تتقاسمان مساحة الوطن، ولا تتقاسمان الحياة فيه. لا يمكنُ اعتبار جونغسو من طبقة فقيرة، وإنّما من طبقة الّذين فشلوا أن يكونوا في الأعلى. يعاني من البطالة الّتي أصبحت مشكلا مخيفا في البلادِ، في حين غيّر غريمُه من مفهوم العملِ والمتعةِ فصار عاطلاً باختياره لا معطَّلاً. يمتدُّ التَّرفُ إلى رؤية العالمِ، وأسلوب الحياةِ. فلا يطبخُ لحاجةٍ "حقيقيّةٍ" له كما يفعلُ بطلُنا، وإنّما ليمنحَ ذاتَه المؤلّهةَ قربانًا يليق بالمقام. وفي إحدى الانتقالات العبقريّةِ من لقطة إلى أخرى Transition، قابل المخرجُ بين حفلات سيول الصّاخبة بيئةُ بِينْ الطبيعيّة، وبين حفلة الغناءِ الفرديِّ الّتي يمارسُها جونغسو أثناء الاعتناء ببقرته. وأخيرا، فإنّ هايمي تبدو عند بينْ تسليةً مؤقّتةً يسهلُ استبدالها بينما هيَ الحبُّ الكبيرُ عندَ جونغسو وهي البدايةُ والنهاية.

إنّها أيضا نقطةُ التقائهما، فقد تعارفا من خلالها، وما كان عالماهما ليجتمعا لولا طبيعةُ شخصيّتها الاستثنائيِّة. لقد سمحتْ لها أصولها الرّيفيّةُ بأن تعرفَ جونغسو منذ الطفولة، وسمح لها سفرُها المُكلفُ أن تختلط بأثرياءٍ من أمثال بين. تمشي هايمي بين العالمين بمنتهى الغموضِ والتّلاعبِ. تدعو هذا لاستقبالها في المطار، وتطلب من ذاك مرافقتها إلى المنزل. لا تحدّدُ طبيعة علاقاتها، ولا تجزم القول في شيء تقريبا. هل قال لها في صباه أنّها دميمة؟ وهل سقطتْ في طفولتِها في البئرِ فأنقذها؟ لقد حاول جونغسو أن يتبيّنَ فخابَ وظلَّ الأمرُ يحتملُ الأمرَ ونقيضه. لا يمكن تصديق كلامها، ولا يمكن تجاهلهُ. ولقد تعاظم الغموض حتّى بلغ ذروته مع الاختفاء المفاجئ. إلى الحدِّ الّذي يجعل المرءَ يتساءل إن كان الاختفاءُ نفسه حقيقيّا...

إذا كان الشّابّانِ يمثّلان رؤيتين متناقضتين لكوريا، فإنَّ هايمي تمثِّل رؤيةً أكثر تعقيدا وضبابيّةً. إنّها تمثّلُ طبيعةَ الحقيقةِ المُتَمنّعةِ. ومن المدهشِ أنّها في الآنِ ذاتِه الشخصيّةُ الوحيدةُ الّتي تعلنُ البحثَ عن الحقيقةِ هدفًا صريحا. بل لعلّه الشيءُ الثابتُ الوحيدُ بخصوصها. تسافرُ إلى مجاهل الصحراءِ الإفريقيةِ بحثا عن الامتلاءِ، أو بحثا عن الانتماء إلى مجازٍ يعبّر عن جوعها. فهناك في عالمِ قبائل البُوشْمِنْ Bushmen بين بوتسوانا وجنوب إفريقيا، يسمّى الجوعُ إلى الطّعامِ الجوعَ الصّغيرَ ويخصّصُ الجوعُ الكبير Great Hunger للحاجةِ المضنيةِ للحقيقةِ. إنّ هايمي بشكل ما، تشبهنا نحن المتفرّجين. فبسيرِها على حدودِ العالميْنِ، تعبِّر عن جوعِها الكبيرِ لمعرفةِ حقيقتِها وحقيقةِ انتمائها. ونحنُ أيضا نحاول تبيُّن الحقيقةِ الموضوعيّةِ لأحداثِ القصَّةِ من بين ركامِ الذّاتيّةِ الّتي تفرِضُها أو تفترضُها غرابةُ ما يحصلُ (هل تملكُ قطّا؟ ماذا يفعلُ حوضُ القططِ عندها؟ وماذا تفعلُ فيه فضلاتُ القطط؟). عَكْسَ كلِّ شيءٍ متراقصٍ في حياتها، يسبّب الجوعُ إلى الحقيقةِ ألمًا عميقا في صدرها، فتعبّر عنه برقصاتها البديعةِ، ومنها ذلك المشهد الأيقونيُّ الّذي رقصت فيه على أنغام مايلز دايفس Miles Davis بشكلٍ لن يفارق ذاكرتي. من المدهش أنّ هذه هي التجربة التّمثيلية الأولى لـجونغسيو دجون Jong-seo Jeon لأنّ حضورها يملأ الصّورةَ، وعيناها تعبّران عن راحةٍ تامّة في التّعامل مع البيئة التصويريّةِ.



تملكُ شين هايمي ميزةً ثالثةً كشخصيّةٍ محوريّةٍِ بين طرفيْ نقيضٍ. فلا تكتفي بأن تمثِّل غموضَ الحقيقةِ ورحلةَ البحثِ عنها، بل تمنحُ أيضا مفتاحَ العثورِ عليها.
ينبغي العودةُ إلى السّهرة الأولى الّتي جمعتها بـجونغسو. إذ نراها تقطف الهواء بيدها، وتحاكي تقشير اليوسفيّ (المندلينة) ثمّ تعبُّ الهواء كأنّها تأكل منها. تقولُ للشّاب المندهشِ أمامها، تلك الحكمةَ الّتي سوف تظلُّ تتردّدُ طوال الفيلم: لكيْ ترى الثّمرة، يجبُ أن تنسى أنّها غيرُ موجودةٍ.
وكان على جونغسو أن يستعمل ذات المنطقِ كي يتعاملَ مع قطِّها الّذي كُلِّفَ بالعنايةِ به طوال غيابها في صحراء كالاهاري والّذي يذكِّرنا وجودُه وعدم وجودِه بحقيقةِ شرودنغر Schrödinger المربكةِ. ومع حادثةِ الاختفاءِ، كان ضروريًّا أن نسترجِعَ هذه الحكمةَ. هل يجب أن ننسى عدم وجودها حتّى نراها؟ لكنّنا لا نراها بالفعل، فهل كنّا نراها لأنّنا نسينا لوهلةٍ أنّها غير موجودةٍ؟ لم يفكّر جونغسو في هذا الاحتمالِ المخيفِ الّذي قد يعني جنونه، وهو مع ذلك قد تعاملَ مع شيء مماثلٍ حين كان يحاولُ الإمساك بالقطِّ الهاربِ من شقّةِ بين. كيف فكّرَ أنّه يحملُ اسمَ قطِّ هايمي الوهميِّ؟ هل نسيَ أخيرا عدمَ وجودهِ؟

يربكنا المنطقُ، ويربكُنا أكثر إصرارُ المخرجِ لي على تقنية التّذكير المستعملة عادةً في الأعمال التشكيليّةِ التّجريديّة. تؤوَّلُ فكرةُ التّذكير بعنصر أو تفصيل في سياقات مختلفةٍ، على أنّ هناك معنًى خفيّا يسوَّقُ. لكنّها في متاهة البحثِ عن الحقيقةِ قد تتحوَّل إلى مجرَّد حركات استيطيقيّة لا غير، أو عمليّةُ تمويهٍ للتأكيد على طبيعةِ الحقيقةِ الغامضةِ. إلى ما يرمزُ شعاعُ الشّمسِ الّذي في لحظاتِ النّشوةِ القصيرةِ؟ ولماذا اقترنَ ببحث جونغسو عن الانتشاءِ بمفردِه (في غيابِ حبيبته)؟ وإلى ما يرمزُ غيابُ القطِّ في شقّةِ هايمي وحضورُه قربَ منزل بين بُعَيْدَ الاختفاءِ؟ وماذا عن تكرّر فكرة الاحتراقِ؟ ما الجامعُ بين حرقِ ملابسِ أمِّه الغائبةِ بلا رجعةٍ، وبين حرقِ البيوتِ المكيَّفةِ الّتي يمارسُها بين على سبيل تزجية الوقتِ؟ هل من حقيقةٍ وسط كلِّ هذا؟

لا أعتقدُ ذلكَ واسمحوا لي بحرق الأحداثِ (أو لكم أن تنتقلوا إلى الخاتمةِ). يقولُ ظاهرُ الأمرِ بحدوثِ الجريمةِ. فالتّطابق بين اختفاءِ هايمي وإقدامِ بين على حرقِ بيت مكيّفةٍ يشجّع على هكذا استنتاجٍ. أضف إلى ذلك عبارته المستفزَّة عن تبخُّرها، واستبداله إيّاها بفتاة أخرى، وحديثه المخيفَ عن تعاليه عن ثنائيّةِ الخير والشرّ، لتسيطرَ علينا القراءةُ المباشرةُ.
لكنَّها قراءةٌ تتجاهلُ عناصرَ كثيرةٍ أخرى، أطنبَ المخرجُ في زرعها في المَشاهدِ. إنّ الوضعَ قابلٌ لتأويلاتٍ ربّما أشدُّها منطقيّةً أشدُّها غرابةً.

لو أخذنا بحكمةِ هايمي، فهي لم تعُد تُرى لأنّ جونغسو تذكّر أنّها غير موجودةٍ. حين استفاق من غفوته، وبدأ رحلة البحثِ عنها، اكتشفَ أنّ كلَّ أولئك الّذين يعرفونها لم يروها منذ مدّة، كأنَّ ما عاشه جونغسو معها، أضغاثُ أحلامٍ، وألعابُ لاوعيٍ. في سهرةِ العودةِ من إفريقيا، وصفتْ هايمي ما سيحدثُ بدقّة بالغة. تحدّثت عن مشهدِ الغروب ورغبتها العارمة في الاختفاء كأنّما لم تكن. ثمَّ كان اختفاؤها بعدَ مشهد رقصتها عند الغروب.

تتزامنُ عودةُ هايمي إلى حياتهِ، بعودةِ أمّه أيضا. أوّلا عبر الاتّصالات الهاتفيّة المجهولةِ، ثمَّ بالتّصريح، فاللّقاءِ الّذي لا يحدثُ إلاّ باختفائها. لا يمكن تجاهل العلاقةِ بين حياةِ البطلِ العائليّةِ وقصته مع هايمي وبين. لقد أرغمه أبوه في صباه على حرق أغراضِ أمّه الهاربة، تلك الأغراض الّتي تمثّل كلَّ ما بقي له منها. واليومَ يلتقي بشخصٍ مولعٍ بحرق البيوت المكيّفةِ وقد يكونُ وراءَ اختفاءِ حبيبتهِ. إنّ العلاقة الأوديبيّة واضحةٌ، وهو ما يعطي لفعل الحرقِ منطقا مناسبا.



هل كانت هايمي حقيقيّةً؟ هل اختفت بإرادتها أم قتلها بين؟ لا تبدو الحقيقةُ حاسمةً في هذه المسائلِ، ولكنَّ جونغسو يعرفُ ماهو حقيقيٌّ. إنّها المشاعرُ الحارقةُ الّتي تتولّدُ داخله، إما بفضل الحبِّ، وإما بسبب الغيرةِ، أو الغضب والرغبة في الانتقامِ، أو ربّما الحقدِ الطبقيِّ، أو الجوعِ الكبيرِ لمعرفةِ الحقيقةِ. إنّ ماهو حقيقيٌّ هو ذلك المسار الطويلُ نحو الاختفاء، وهو ألمُ احتمالها، وهو النسيانُ الحارقُ لعدم وجودها.

يمنحنا لي بفيلمِ "حارق" Beoning لحظاتٍ مربكة وبسيطةً، قد لا نظفر منها بمعنًى وقد نظفر منها بالكثير من المعاني، وفي الحالتين، سنظفر بالكثير من المشاعرِ والكثير من الجمال "الحارقِ"...

 
الفيلم: حارق Beoning
المخرج : تشانغ دونغ لي Chang-dong LEE
السنة : 2018
المدّة: 148 دقيقة
الصنف: دراما، غموض

Saturday, March 3, 2018

أفلامٌ خسرتْها جوائزُ الأوسكار!

نشهد هذا الأحد، النسخة التسعين من حفل الأوسكار. وهي وإن لم تكن أهمّ الجوائز السينمائيّة من الناحية الفنّية فهي حتما أهمّها إعلاميّا. تعدّل الساعات عليها وينتظرها الجميع حتّى وإن عبّروا عن رفضهم مسبّقا لترشيحاتها ولطرق التتويج بها.

لن يخرج هذا العام عن غيره من الأعوام التي شهدت جدلا حول اختيار أوسكار الفيلم الأفضل، أهمّ جوائز الحفلة. فلا بدّ للاختيار أن يثير سخط فئة ما. ولقد سجّل لنا التاريخ سجالات كثيرة، لعلّ أشهرَها، حفل سنة 1995 حين كان على لجنة التحكيم التقرير بين "فورست غمب" Forrest Gump، و"قصة من الصنف الرخيص" Pulp Fiction الحائز آنذاك على السعفة الذهبية، والخلاص من شاوشنك The Shawshank Redemption. أو سنة 1976 حين كان عليها تفضيل "أحدهم طار فوق عش الوقواق" على باري ليندن Barry Lyndon والفكّ المفترس Jaws وعصر يوم قائظ Dog Day Afternoon.

على أنّ هناك سنوات أخرى، لا تحتاج نتائجها إلى سجال أو جدل. بل قد تحتاج إلى خبراء نفسيّين واجتماعيين ومؤرّخين لفهم العناصر التي أدّت إليها. إنّها تلك السنوات التي أجمع الكلُّ فيها، على مرور الأكاديميّة (المانحة للجوائز) بجانب التاريخ، فعوض أن تقرن إسمها بإسم فيلم أيقونيّ، خسرتْ كثيرا بتتويج غيره.

في هذه القائمة، نتحدث عن أهمّ الأفلام الهوليوديّة (أو الناطقة بالانكليزية على الأقل) التي خسرها سجّلُّ الأكاديميّة حين لم يتوّجها بجائزته الكبرى. فهي أفلامٌ تتوّج جوائزَها لا العكس.



10 - سنة 2000
في حفل الأكاديمية الثاني والثمانين، تفوّق فيلم "جمال أمريكيّ" American Beauty عن جدراة، على منافسيه الأربعة، وأبرزهم الميل الأخضر The Green Mile والحاسّة السادسة The Sixth Sense، وفاز بالجائزة الكبرى. ولم يتطرّق أحدهم إلى غرابة خلوّ الترشيحات من فيلميْ نادي القتال Fight Club لدايفد فينشر والمصفوفة The Matrix للأخوين (الأختين فيما بعد) ويشوسكي. ربّما لأنّ الثاني فيلم خيال علميّ ثقيل Hard Sci-Fi، وربما لأنّ الأوّل ذو نزعة أناركيّة أو ذو طابع عنيف قد لا يعجب أكثر ناخبي الأكاديميّة. ولكنّ المؤكّد أنّهما بتقادم الزمن، تحوّلا إلى جزء من الثقافة الشعبية العالميّة. على عكس "جمال أمريكيّ"، لا يحتاج المرءُ إلى مشاهدة المصفوفة، لينسب إليها تلك الشفرات الخضراء المتساقطة بلا نهاية في شاشة سوداء، ولا يحتاج إلى مشاهدة نادي القتال ليدرك طبيعة العلاقة الملتبسة التي تجمع الممثّلين إدوارد نورتن Edward Norton وبراد بتّ Brad Pitt، أو ليعرف القاعدة الأولى للدخول إلى نادي القتال.

لكن لو سرنا إلى ما وراء مجتمعات الإنترنت، وصور الـ 9GAG وجداريّات المدن ووسائط الفنّ الحضريّ، سوف يتراءى لنا سياق تاريخيٌّ مهمّ ولد في لجّته هذان العملان. إنّ المرحلة الانتقالية إلى القرن الجديد، تنعكس بشكل بالغ على هذين العملين. لقد غيّر فيلم ماتركس صورة التكنولوجيا في السينما، واستطاع إحداث مقاربة بين شكلها المعاصر ووظائفها المستقبليّة. وطرحَ مثلَه مثل نادي القتال، صورة استشرافيّة للقرن الجديد : ثورة اتّصالية، مجتمع استهلاكيّ، حكّام خلف أنظمة معقّدة يديرها الضحايا، ويدافع عنها الضحايا، ويبنيها الضحايا.

حصل الماتركس على أربعة جوائز أوسكار بفضل المؤثرات البصرية المدهشة، ولم يقدر أن يتجاوز ذلك رغم ثقله وثرائه، أمّا نادي القتال فقد رشّح لأوسكار تقنيّ لم يفز به. والغالب أنّ أهل السينما لم يدركوا قيمة هذا العمل إلا بعد سنوات من صدورهما، لذلك مرّ الأوسكار بجانبهما دون أن يظفر بإسميْهما في سجلاّته.



9 - سنة 1977
فاز في هذه السنة فيلم رياضيّ Sport Movie لأوّل مرة في تاريخ الأوسكار. والحقيقة أنّ قصّة إنجاز "روكي" Rocky تضاهي قصّة الفيلم نفسه. هل كافأت الأكاديميّةُ كفاحَ سيلفستر ستالوني من أجل إنجاز فيلمه بالأوسكار؟ لا أستبعد ذلك. على أنّنا نعرف يقينا أنّ جودة الفيلم السينمائيّة لا يمكن أن تُقارن بتحفة مثل سائق التاكسي Taxi Driver.

يعتبر سائق التاكسي، مدخل مارتن سكورسيزي Martin Scorsese لعالم المخرجين الكبار، وهو أهمّ أعماله تقريبا مع فيلم آخر نتحدث عنه لاحقا. وكما عبّر الماتركس ونادي القتال بدقّة فنيّة عالية عن هوس الدخول إلى القرن الجديد، كان سائق التاكسي صورة دقيقة للتغيّرات الاجتماعية التي جاءت بها موجة السبعينات إلى نيويورك. لقد كان آداء روبرت دينيرو Robert De Niro أسطوريّا، لحدّ جعل من ترافيس Travis أحد أشهر الأوغاد، أو نقيضي البطل في تاريخ السينما.
كما شهد الفيلمُ انطلاقة الممثلة الشهيرة جودي فوستر، إذ أدّت دورا أثار جدلا كبيرا لسنوات عمرها التي لم تتجاوز الاثنتي عشر. كانت إيريس ملهمة ترافيس وطريقه نحو الخلاص. كلمة القدر التي أضفت لحياته معنى، ولو وهميّا. هل كان ترافيس بطلا أم وغدا؟ هل كان عنفه ردّة فعل متطرّفة لانحطاط المجتمع، أم هو نتاج مرَضيٌّ لتغيّرات العصر، مجرّد أضرار جانبية؟
منح مهرجانُ كانّ الفرنسيّ Cannes Film Festival سعفته الذهبية لفيلم مارتن سكورسيزي، وخلّده في سجّله، أما الأكاديميّة، فعجزت عن تقييمه كما يجب، ومنحت الجائزة لبطل أكثر نمطيّة، إسمه روكي بالبوا.



8 - سنة 1999
بعد فيلميْ قائمة شندلر والحديقة الجوراسيّة، كان العالم ينتظر تحفة ستيفن سبيلبرغ الجديدة. لا يتميّز هذا الرجل بنفسٍ إبداعيّ عظيم، لكنّ له قدرة عظيمة على إدارة أعقد المشاريع السينمائيّة واستخراج كنوز مبدعيه الصغار في شتّى عناصر الصورة، كما ترتكز صورته على كتابة سينمائيّة دراميّة الطابع حتّى لو كانت قصة الفيلم بسيطة قليلة الأحداث. لذلك كلّه، كان حدثُ إنزال النورماندي (دخول الأمريكيين إلى فرنسا لتحريرها من النازيين) كلّ ما يحتاجُ إليه سبيلبرغ ليصنع تحفة على كلّ المستويات.

فيلم إنقاذ الجنديِّ ريان Saving Private Ryan هو أحد أهمّ الملاحم في تاريخ السينما، وأحد أهمّ أفلام الحروب، وبعضُ مشاهده تملّصت من سياقها الدرامي لتصبح أيقونات سينمائية شهيرة.
لم يكن هناك من شكّ سنة 1999 أنّ جائزة الأوسكار في طريقها إلى سبيلبرغ مرّة أخرى. ربما بشيء من المنافسة مع تحفة روبرتو بينيني Roberto Benigni الحياةُ جميلة La vita è bella. لكنّ الأكاديميّة فاجأت الجميع بتتويج فيلم آخر بالجائزة هو شكسبير عاشقا Shakespeare in love.

ليس من عادة الأكاديمية الاهتمام بالكوميديا الرومانسية، لكن شكسبير العاشق حرّك بعض الأقلام المؤثرة مثل الناقد الكبير روجر إيبرت الذي منحه اربعة نجوم (من اربعة). وراج أنّ وراء الأكمة المنتج المهاب هارفي واينستاين Harvey Weinstein، إذ ضغط لتحويل وجهة التصويت. وكتب أحدهم واصفا السجال: الاختيار هنا بين الانتصار للحرب أو الانتصار للحب! هكذا انتصرت الأكاديمية للـ"حبّ" ولكنّ ذاكرة الناس احتفظت بالحرب، ونُسيَ "شكسبير عاشقا" كأنّه لم يكن.




7 - سنة 1974
اِرتبط إسم جورج لوكاس George Lucas بأفلام حرب النجوم حتّى يخيَّل أنّه لم ينجز غيرها. بالنسبة لي، أنجز خيرا منها سنة 1973، وتوّجت تحفته آنذاك بخمس جوائز أوسكار لم تكن جائزة أفضل فيلم من بينها.

كلّ شيء متميّز في فيلم جداريّة أمريكيّة American Graffiti. حقبة الخمسينات (وبداية الستينات) التي استعادها بدقة بالغة، عناية اختيار الألوان، لتمنح المشهد لُدونة (Plasticity) بطاقات المعايدة العتيقة، وتحوّل قصص اليافعين (Teenagers) المتقاطعة في شوارع كاليفورنيا إلى ذكريات صيف عابر. انسيابيّة اللقطات المنسجمة مع حركة السيّارات المتنوّعة. لا تشبه ميكانيكا السيارات في الجدارية الأمريكيّة، تلك التي نراها في أفلام هذا العصر، بل تأخذ سمة رومانسية مضحكة، وبدائيّة حميميّة، كأنّها تعود بنا إلى زمن ما قبل الصورة الباردة القاتلة للسيارة، أو كأنّها تستعيد بدايات علاقة الشغف التي تربط اليافعين بها.
لكنّه أيضا يستعيد الكثير من تفاصيل الصّبا الأمريكيّ، ومرحلة الاستعداد للانتقال إلى عالم الشباب. لذلك تجري أحداثه كلّها في ليلة واحدة لها دلالاتها، فهي ليلة حفل التخرج. تلك الليلة الصيفيّة الأخيرة، التي يتفارق فيها الزملاء، ويمضي كلٌّ إلى جامعته، وعالمه الجديد. ولقد عبّر لوكاس عن كلّ ذلك، بقالب جماليّ مدهشٍ لا يمكن أن يقارن أصلا بفيلم اللدغة The Sting، الذي يروي تفاصيل عملية احتيال جميلة على كلّ حال. هل أثّرت مبيعات هذا الفيلم على أصوات الأكاديميّة؟ ربّما، لكن من المؤكّد أنّها اختارت الفيلم الخطأ، وخسرت أحد أهم الأفلام في تاريخ هوليود (الثاني والستون في ترتيب معهد الفيلم الأمريكيّ لأفضل الأفلام في تاريخ هوليود).



6 - سنة 1952
لنتخيّل الآتي: مسرحيّة من تأليف الكاتب الكبير تينيسي ويليامز، يحوّلها إلى السينما مخرجٌ أمريكيٌّ بقيمة إيليا كازان Elia Kazan، ويلعب دور البطولة فيها ممثلان بحجم مارلون براندو Marlon Brando (العرّاب) وفيفيان لي Vivien Leigh (في مهبّ الريح). هل يمكن أن يكون هذا حقيقيّا؟ أجل، في عربة إسمُها الرغبة A Streetcar named desire، أحد كلاسيكيّات السينما الأمريكيّة، وأحد أفلامي المفضّلة. ما لا يمكن أن يكون حقيقيّا، هو عدم حصول هذه التحفة على الأوسكار، وخسارته لصالح غنائيّة جين كيلي Gene Kelly الراقصة : أمريكيٌّ في باريس An american in Paris.

من المؤكد أن فيلم جين كيلي، أحد كلاسيكيّات السينما الأمريكية أيضا، وهو أحد أفضل الأفلام الغنائية أيضا، ولكنّه عدا لوحاته الجميلة، لا يخرج قيد أنملة عن الصورة النمطيّة لباريس، وهو في أحسن أحواله لوحة إعلانية بديعة للسياحة في فرنسا.

كيف لهذا الفيلم أن يتفوّق على الدراما الثلاثية التي جمعت الشقراء ستيلا وزوجها ستانلي (براندو) بأختها بلانش دوبوا Blanche Debois؟ يقدّر الكثيرون أنّ الفيلم قدّم لنا أفضل آداء أنثويّ في تاريخ هوليود (فيفيان لي)، بالنسبة لي، قدم لنا أيضا آداء رجاليا مضاهيا في شخص براندو. ورغم الطابع المسرحيّ الطاغي على العمل، لا تزال بعض مشاهده احتفالا سينمائيّا ودراميّا خالدا. هاي! ستيلاّ! تخترق تلك الصرخة العاتية شاشة العرض، مثلما يخترق خيالُ الآنسة دوبوا واقعها الأليم، فيصوّر لها أنها سيدة مجتمع راقية، تستحق مكانة أرفع بكثير من حجرة حقيرة عند أختها. ويصوّر لها عنف زوجها، عنفوانَ فارس الأحلام الجدير بها… 


5 - سنة 1961
حين ظهرت نظريّة المؤلّف Auteur Theory، كان المخرجُ البريطانيُّ ألفرد هيتشكوك عنوانها الأبرز. فقد اعتبر الناقد الفرنسيّ أندري بازان André Bazin مؤسّس مجلة كرّاس السينما، أنّ هيتشكوك هو النموذج الأكمل للمخرج المؤلف. وتوالت الأطروحات لتتعمّق في هذا الطرح، وتبرز وحدة الصّورة السينمائيّة التي يقدّمها البريطانيُّ في كلّ أعماله.

وإن كان الجدل قائما حول أفضل أعمال هيتشكوك، فما من شكّ أن فيلم سايكو Psycho هو أشهرُها. يحتوي الفيلمُ على كلِّ تلك العناصر التي جعلت من هتشكوك إسما خالدا في تاريخ السينما. الجريمة، الغموض، الإثارة، الرعب النفسي والتوتّر المتواصل… يقال إنّ هتشكوك اشترى كلّ نسخ رواية روبرت بلوخ الأصليّة، حتّى لا يحرق أحدٌ مفاجأة النهاية. ولكن حتّى على معرفتنا بها، ظلّ الفيلمُ نموذجا للإثارة، وأصبح مشهد الحمّام وموسيقاه المرعبة مادّة لا تنضب للمحاكاة والاقتباس.

لا يكتفي هتشكوك بإبراز الإثارة في الأحداث، وفي غموضها. بل ينزع إلى عمليّة إسقاط لنفسيّة الشخصيّة البطلة على الرعب الخارجيّ الذي يتهدّدها، فيعيد تفكيك علاقاتها مع الآخر ويغوص في خفاياها من خلال الخطر المستحوذ على ظاهر الأحداث. وكان سايكو أحد أهمّ الأفلام التي أنجز فيها هتشكوك هذا النموذج. فأصبح من بعده سنّة سينمائية متواترة.

المضحك أنّ سايكو لم يكن أصلا مرشّحا للأوسكار سنة 1961، وفازت به كوميديا رومنسية بعنوان الشّقّة The Appartment. فيلم طريف وممتعٌ، ولكنّه لم يحدث أي تأثير حقيقيّ في السينما، ولا يمكن أصلا مقارنته بسايكو. بل إنّ هتشكوك لم يفز يوما بأوسكار أفضل إخراج رغم ترشيحه للجائزة خمس مرّات، ولم يحصل له فيلمٌ على أوسكار سوى ريبيكا Rebecca سنة 1941 وكان أول ترشيح له.

لم تكن الأكاديمية في ذلك الوقت تأخذ أفلام الإثارة بشكلٍ جدّيّ، وكانت تمنحها بعض الجوائز التقنية لا أكثر. واحتاج العالم إلى نظرية المؤلّف للاعتراف بقيمة المخرج البريطانيّ، قبل أن تأتي نظريّات أخرى مثل النظريّة النسوية Feminist film theory لتتوغّل أكثر في أعماله. هكذا تمكّنت أفلامٌ من نفس النوع مثل "صمت الحملان" على حصد الجوائز الكبرى فيما بعد.



4 - سنة 1972
إذا كانت الأكاديميّةُ قد فهمت أخيرا قيمة سينما الرعب النفسي والإثارة Thriller، فإنّها لم تفهم بعدُ قيمة الخيال العلميّ. وفي واحدة من أكثر لحظاتها تهوّرا، منحت الأكاديمية كلَّ الأوسكارات الأربعة التي ترشح لها "برتقالة ميكانيكيّة" A Clockwork Orange لفيلم فيليب دانطوني : الطرف الفرنسيّ The french connection. يُعتبر فيلم دانطوني نُقلة نوعيّةً في سينما الأكشن، من خلال واقعيّة مشاهده وواقعيّة موضوعه أيضا (شبكة تهريب الهيروين إلى أمريكا عبر أوروبا كانت موجودة بالفعل)، وساهم في خلق هذه الواقعيّة أداءٌ متميّز من جين هاكمان Gene Hackman.

هل كان هذا كافيا للتغلّب على تحفة ستانلي كيوبرك؟ لا أعتقد، فالأكاديمية مثلما ذكرتُ، تستخفُّ بأفلام الخيال العلميّ، ولا تعتبرها على قدر كافٍ من الجديّة. قد أضيف إلى ذلك علاقات كيوبرك السيّئة بهوليود، ما دفعه إلى إنجاز فيلمه في بريطانيا.

لم يحمه هروبه من هوليود، من المشاكل، فقد استُقبل برتقالة ميكانيكيّة بانتقادات لاذعة بخصوص العنف المفرط فيه، واعتبرهُ الناقد روجر إيبرت فيلما يحتفي بالعنف والرذيلة والسقوط الأخلاقي، واضطرّ كيوبرك إلى إيقاف عرض الفيلم في بريطانيا لمدّة طويلة.
لذلك ربّما، اِكتفت الأكاديميةُ بترشيحه لجوائز الأوسكار دون أن تتوّجه بشيء. ولقد كانت الطرف الخاسر في هذه الصفقة. فإذا كان "الطرف الفرنسيُّ" إيذانا ببدء تملُّص هوليود من قانون هايس Hayes Code (الذي يلزم المنتجين بلوائح أخلاقية تجاه مشاهد الأفلام)، فإنّ فيلم برتقالة ميكانيكيّة تهديم تامٌّ لمعبدها، تجاهلٌ تامّ لها كأنّها لم تكن. وإذا كان فيلم دانطوني شاهدًا قيّما على تلك الفترة الانتقاليّة، فإنّ فيلم كيوبرك لا يزال إلى اليوم فيلما مدهشا ومثيرا!
إنّه أحد الأعمال المرئيّة النادرة التي تتفوّق على مصدرها الروائيِّ على كلّ المستويات، وهو آية نادرة لحجم المعاني والأفكار التي يمكن أن تنقُلها الصورةُ وحدها.



3 - سنة 1981
أحيانا يصبح عدم التتويج بالأوسكار تتويجا في حدّ ذاته. مَن مِن المخرجين لا يتمنّى أن يوضع إسمُه في قائمة فيها ستانلي كيوبرك وألفرد هيتشكوك؟ لقد كان مارتن سكورسيزي Martin Scorsese قاب قوسين أو أدنى من هذا الإنجاز لولا فيلم الرّاحل The Departed سنة 2006.

ليس الرّاحلُ أفضل أفلام سكورسيزي، بل هو في رتبة متدنّية من قائمته الزاخرة بأعمال جليلة. ما يجعله أكثر المخرجين حضورا في قائمة الظلم هذه. لقد ذكرنا فيلم سائق التاكسي، ولم أذكر مثلا الأصحاب Goodfellas الذي خسر الجائزة لصالح الرّاقص مع الذئاب Dances with Wolves لقيمة الفيلم الثاني، لكنّه جدير بالقائمة.
لكنّ أكثر أفلام سكورسيزي تعرّضا للظلم، كان فيلم الثور الهائج Raging Bull سنة 1981، فقد خسر الجائزة لصالح دراما اجتماعيّة لا يكاد يذكرها أحد. من منكم يعرف فيلم أناس عاديون Ordinary People؟ أنا أيضا لا أعرفُه. وحين حاولت معرفته لم أجد شيئا يستحقّ الانتباه، أو على الأقلّ لم أجد شيئا يمكن أن يضاهي الإبداع الكبير الذي حقّقه الثنائي "سكورسيزي - دي نيرو" في الثور الهائج. قد يكون الفيلمُ أفضلَ عملٍ ثنائيٍّ لهما، وقد يكون مثلما تشهدُ بذلك قائمة معهد الفيلم الأمريكيِّ، أعظم فيلم لسكورسيزي على الإطلاق، وأحد أهم الأفلام في تاريخ هوليود (تضعه القائمة في المرتبة الرابعة (بعد المواطن كين، العرّاب والدار البيضاء). لكنّ الأكاديمية سنة 1981 لم ترَ هذا كلّه واكتفت بتتويج دي نيرو بجائزة الأداء، وتلما شونمايكر بجائزة التركيب.

يصوّر لنا الثور الهائجُ، قطعة من حياة الملاكم جايك لاموتّا Jake LaMotta المسمّى بالثور الهائج لعنفه المبالغ، وانفعاله الكبير، حيث يبرز سكورسيزي علاقة حضوره القويّ في حلبة الملاكمة، بحضوره العنيف في حياة زوجته. لقد تعامل سكورسيزي برهافة حسّ بالغة في تصوير شخصية لاموتّا داخل الحلبة وخارجها، قرب زوجته وبعيدا عنها، في لحظات تعبيره عن حبّه الكبير، وفي لحظات انتقامه المخيفة…
كيف لعمل عبقريٍّ كهذا أن يخسر أمام أول فيلم أخرجه نجمُ الشبّاك روبرت ردفورد؟ يقول أحدهم، لأنّ شعر ردفورد أجمل!



2 - سنة 1969
يقول روجر إيبرت حين خرج من العرض الأول لفيلم أوديسا الفضاء : كنتُ أرى بعض المتفرجين المغادرين بعد العرض، وهم واثقون بأنّهم كانوا أمام أجمل شيء شاهدوه في حياتهم.

يتّفق نقادٌ كثرٌ وسينمائيون كبار مع هذا الرأي، لعلّ أبرزهم مارتن سكورسيزي الذي تحدّثت عنه. حيث يعتبرون أوديسا الفضاء ( 2001 A Space Odyssey) آيةً سينمائيّة مكتملة الأركان. أوبيرا بصريّة خالصة الجمال، تحدّثنا عن الإنسان في مراحل نموّه المتعدّدة، وتطرح علينا في قالب سينمائيّ خالص، أهمّ القضايا التي تواجه إنسانَ هذا العصر، وتضع أمامه آفاقا عدّة.

لقد أعاد ستانلي كيوبرك من خلاله إعادة الاعتبار لجنس الخيال العلميِّ، وجعله صنفا سينمائيّا مثيرا، واسع الآفاق، وحاملةً لأبرز القضايا الإنسانيّة وأعقدها. ورغمَ اعتماد هذا الجنس على التقنيةِ لإحداث الخدع البصريّة اللازمة، فإنّه استطاع أن يظلَّ مدهشا ومثيرا للبصر بعد خمسين سنة من صدوره! ولو قارنّاه مثلا بفيلم كوكب القرود The planet of the apes الذي أنجز في نفس السنة (1968) وصار يعدُّ كلاسيكيّا، لأدهشتنا المقارنة.
رغم كلّ ذلك، لم ترَ الأكاديمية سنة 1969 أيّ شيء استثنائيٍّ فيه، وخيّرت عليه غنائيّة عائليّة بعنوان أوليفر! مقتبسة  من مسرحيّة غنائية مستوحاة بدورها من رواية تشارلز ديكنز الشهيرة… هكذا في لحظة مهمّة من تاريخ الصراع الفضائيّ الأمريكيّ السوفياتيّ، وقبل أشهر فحسب من نجاح الرحلة الأولى إلى القمر، بدا لهؤلاء أنّ تغليب قصة طفل بريطانيّ من القرن 19، أهمُّ وأعمق معنى من تتويج فيلم بعنوان أوديسا الفضاء!
وليكون الأمر عبارة عن ملهاة متكاملة، لم يُرشَّح الفيلم أصلا لأوسكار أفضل صورة، وفاز بتتويج وحيد عن الخدع البصريّة، كانت الجائزة الوحيدة التي حصل عليها كيوبرك من الأكاديمية طيلة مسيرته الكبيرة. هل هناك زلّة للأكاديمية أكبر من هذه؟



1 - سنة 1941
أجل، في هذه السنة حدثت خطيئة الأكاديمية التي سوف تجعل من جوائز الأوسكار ماهي عليه اليوم : جوائز اعتراف بجودة الأعمال، لكنّها أبعد ما تكون تتويجا للأفضل. ليس لأنّ الأفضل مسألةٌ نسبيّة (فهي كذلك طبعا) ولكنّ لأنّ الأفضل ليس دائما ما يثير اهتمامها.
“كم كان الوادي أخضر!" How green was my valley هو فيلمٌ للمخرج الكبير جون فورد، لا يكادُ المرء يعرفُ عنه سوى أمرٍ وحيد : فوزُه بالأوسكار أمام فيلم المواطن كاين Citizen Kane.

يبدو الأمر لوهلة أولى متناقضا، فمن الطبيعيِّ أن يفوز مخرجٌ معروف مثل جون فورد بالأوسكار، وهو الذي كان قد فاز بها في مناسبتين : في السنة التي قبلها عن عناقيد الغضب The Grapes of Wrath، وسنة 1936 عن المخبر The Informer (ثمّ فاز بها مرة رابعة سنة 1953 عن الرّجل الصامت The quiet man). أمّا أورسن ويليس Orson Welles، فكان آنذاك شابّا عمره 27 سنة تقريبا، وكان فيلم المواطن كاين، ثاني فيلم روائيّ طويل له كمخرج. المسألة محسومة إذا.

ربّما بالنسبة للأكاديميّة آنذاك، أمّا السينمائيون في ما بعد، فقد أوفوا "المواطن كاين" حقّ قدره، وعدّه أغلبهم أهم عملٍ سينمائيٍّ تمَّ إنجازه على الإطلاق. لذلك يحتلُّ دون منازع رأس قائمة معهد الفيلم الأمريكيّ لأفضل أفلام هوليود، حتّى بعد مراجعة القائمة بعد عشر سنين من إنجازها.

قد لا تبدو قصّة المواطن كاين بهذه العظمة. إنها حكاية الفقير اليتيم الذي فعل كلّ شيء ليتسلّق سلم المجتمع ويستوي عند هرمه ليدرك أنّه رغم كلّ نجاحاته لم يحقق سعادته. لكنّ أسلوب قصّها كان غير مألوف على السينما الأمريكيّة آنذاك. لقد أدخل أورسن ويليس على المشهد السينمائيّ أدوات ملهمة أصبحت بعد ذلك أساسيّة يتعلّمُها كلُّ طالب في معاهد السينما.
من الرّواة الكاذبين كأسلوب للسرد، إلى اللقطة العميقة Deep Focus كأسلوب عرض، إلى تقنيات الراديو كأسلوب صوت، إلى تفكيك كلّ الأعراف الهوليودية في التصوير والإنتاج وإعادة بنائها، مثّل المواطن كاين ثورة سينمائية شاملة لم تدركها هوليود في وقتها، بل أهمل الفيلمُ بشكل كبير، ولم يحقق نجاحا تجاريّا معتبرا، ولم يتمّ الاعتراف به إلا بعد إعادة عرضه في الخمسينات ورواجه في شاشات التلفاز.
ويمكن القول إنّ الأكاديمية لم تكن مخطئة في تجاهلها للمواطن كاين، بل كان ناخبوها كغيرهم من معاصري الفيلم، عاجزين عن إدراك قيمته الحقيقيّة، فخيّروا الفيلم الأكثر التزاما بما تعلّموه في أستوديوهات التصوير. إنّ عجزهم هذا هو بالفعل ما جعل المواطن كاين فيلما عظيما!



إنّ أغلب الأفلام المتوجة بالأوسكار هي أفلام على جودة عالية، وهي وإن كثر الجدل حول أحقّيتها، لا خلاف حول قيمتها. يضفي الجدال أحيانا قيمة أكبر لبعض الأفلام، ويزيد من حماسنا تجاه هذا الفيلم أو ذاك ويغذّي غرامنا بالشاشة الفضيّة الساحرة وهو ـ وإن زلّت الأكاديميّة زلات مضحكة ـ أجمل ما تقدّمه لنا حفلة الأوسكار.

Friday, January 19, 2018

فيلم أمّ والتأويليّة

لا شكّ أنّ علاقة المخرج الأمريكيّ دارن أرنوفسكي Darren Aronofsky باليهوديّة أكبر من الانتماء الثقافيّ الذي أكّده. فالحضور اليهوديّ في أعماله كان دوما هناك، إلى أن تحوّل في فيلم "نوح" إلى تجربة هرمنوطيقيّة. ولئن بدا فيلم "أمّ" mother امتدادا لهذه التجربة، فإنّه برأيي أقرب إلى مقولة فريدرش نيشه الشهيرة : لا توجد حقائق، فقط تأويلات. لقد ضاعت الحقيقة وسط التهافت التأويليّ الذي أبهر البعض، وأزعج الآخرين، فلم نخرج بالنهاية إلا بمشاعر متضاربة لعلّها أهمّ ما قدّم أكثر الأفلام جدلا في السنة المنقضية.


لا يمكن الحديث عن فيلم أم! mother! دون التّورّط في حرقه، فالامتناع عن الإخبار عن أحداثه لا ينقذ القارئ، لأنّ جزءا من فهمها توفّره أداة التأويل. والخيار الأسلم هو أن يُشاهَد الفيلمُ قبل القراءة عنه.
تجربتي الأولى معه كانت مربكة، محيّرة وممتعة أيضا. لم أستطع الخروج بصورة كاملة، فالمشهد أشبه بشظايا لعناصرَ هجينة. لم يكن معقّدا أن أرى بعض المشاهد التوراتيّة الواضحة. فمع دخول الأخوين إلى المنزل واقتتالهما حتّى موت أحدهما، كان واضحا أنّنا أمام تمثّل لقصّة قابيل وهابيل، ما يعني أنّ أباهما ليس سوى النبيّ آدم وزوجته الشقراء (ميشال فايفر Michelle Pfeifer) الفضوليّة المندفعة ليست سواء حوّاء.

ومن هنا، يتحوّل الأمر إلى تمرين تأويليّ. قلبٌ للمشاهد والعناصر إلى رموز واستعارات. لقد جاء الرجل العجوز (إد هاريس Ed Harris) إلى منزل الشاعر (خبيير بارذم Javier Bardem) ليعبّر عن عشقه لكلماته، ولقدرته الفريدة على الخلق. نستنتج من ذلك ما ترمز إليه شخصيّة الشاعر، الذي لا يُعرفُ له إسم، ويشارُ إليه بـ"هو" Him بهاء كبيرة. وتظهر الإشارة إلى حوّاء (ميشال فايفر) في البداية مع تلك الندبة التي برزت عند ظهر العجوز ليلة قدومها، كأنّ ضلعا من ضلوعه قد اختفى! ويُمعن أرونفسكي في توضيح العلاقة بين الزوجينِ والشاعر، حينما دفعت الزوجةُ/حواء زوجَها إلى الدخول إلى الغرفة الممنوعة، فكسرا قطعة الكريستال، فطردهما الشاعر من الغرفة بإشارة بليغة بيده.
وبعد جريمة القتل، تواصلت المقاربة مع مشاهد سفر التكوين. فقد خلّفت الجريمة بقعة من الدم حفرت عميقا في أرضيّة المنزل ولم تضمحلّ، كإشارة إلى تأثيرها في مستقبل الإنسانية. ومن الحفرة، تسرّبت الدماء إلى باطن المنزل، وفتحت بابا في الجدار، فخرجت من خلفه ضفدعة هي رمزٌ للشرور في الكتاب المقدس.

وجاءت الشرور مع الناس الذين تهافتوا على المنزل ليعبّروا عن عشقهم لكلماته وإبداعه، فإذا هم يعيثون في بيته فسادا، ولم ينتهوا عن ذلك إلا عندما كسروا حوض المطبخ وتسببوا في ما يشبه طوفان نوح. وبالفعل، كان الطوفان سببا في إجلائهم عن المنزل. ثمّ إنّ أرنوفسكي انتقل إلى العهد الجديد، فهاهو يحدّثنا عن هذا الطفل المنتظر الذي بمجيئه، جاء الوحيُ مرّة أخرى، وولدَ الكتاب/الانجيل. فعاد الناس، وعاد الفساد إلى حدّ مروّع، وتحوّل المنزل إلى ساحة حرب حقيقيّة، وجنَّ الناسُ والتهموا ابنَ شاعرهم حيّا واقتسموا لحمه ودمه، في إشارة إلى ضلوع البشر في قتل المسيح ـ حسب الرواية المسيحية.


لم يكن تأويل المشاهد انطلاقا من المدوّنة التوراتيّة معقّدا، خصوصا مع مخرج مثل أرونفسكي. مع ذلك، فنحن لم نظفر أكثر من ذلك سوى بحيرة مطلقة. ماذا يريد أرونوفسكي من هذه المقاربات؟ أين تصبّ هذه الرموز؟ والأهمّ من ذلك، إلى ماذا ترمزُ الأمّ التي جسّدت دورها جنفر لورانس Jennifer Lawrence؟
تبدو "هي" عصيّةً على التأويل من داخل المدوّنة التوراتية، فـ"هو" لا زوج له، وحتّى رمزيّا لا يبدو أن الأمر يستقيم كثيرا، ربّما عدا فكرة أن ترمز إلى "الطبيعة الأمّ" Mother nature الدارجة في الثقافة الغربية. لكن سرعان ما يتداخل ذلك مع الأمّ كوالدة لما يبدو أنّه المسيح، فينهار البناء التأويليُّ مرّة أخرى.
إنّ طبيعة الأمّ ليست أمرا عارضا وسط البناء، بل هي محور المشهد، ومنطلَقه. فنحن نرى الأحداث من وجهة نظرها، ونتفاعل بشكل مشابه تقريبا لانفعالاتها. ربّما نستغرب غالبا طيبتها وصبرها المفرط، لكنّنا لا نستطيع أن نفهم تقريبا ردود فعل الشخصيات الأخرى. إنّها شخصيات غريبة ومثيرة لكلّ شيء سيّئ تقريبا. ولقد عمد المخرجُ إلى أن تتحرّك القُمرةُ مع تحرّك الأمِّ فتجعلنا نكتشف ما تكتشفه، ونرى ما تراه، وهو ما منح الفيلم طابع الإثارة والفزع.

ولأن الأمّ هي الشخصيّةُ المحوريّة فلم يكن هذا التناقض التأويليّ بين العهد القديم والجديد منطقيّا. كان لا بدّ من البحث عن فكرة جديدة خارج المدوّنة الدّينيّة، ولقد منح بناءُ الفيلمِ فضاءً خصبا للبحث وإعادة التركيب.
لا يجب أن نغفل عن الحقيقة البديهيّة، التي مفادها أنّ الفيلم ليس عن آدم أو حوّاء أو عن هذا الزخم من البشر الوحشيّين. لقد اختارت القُمرة رفيقها منذ البداية، فصاحبت الأمّ طيلة الرحلة الرهيبة منذ استيقاظها وحتّى احتراقها، وعدا نقل مشاعرها تجاه المعتدين عليها، كانت أيضا تنقل مشاعرها تجاه زوجها الذي كان أكثر ساديّة تجاهها بنرجسيّته المفرطة. لا شكّ أنّ علاقة الزوجين، تأخذ في هذا الفيلم بُعدا أكبر بكثير من مقاربة سخيفة بين الله والطبيعة.


قد لا نشكّك في مشاعر الحبّ التي تجمع الزوجين، فـ"هو" يجد دائما الكلمة المناسبة ليعبّر عن ذلك، وفي أسوإ الأوضاع، كان دوما يجد طريقا لإيجادها وإنقاذها، ثمّ إنّه لم يمسّها بسوء حتّى النهاية (بشكل مباشر على الأقل). أما "هي" فكان دوما مصدر ثقتها الوحيد، تعود إليه كلّما تقوّض العالم من حولها. على أنّ العلاقة اتّخذت لونا لا يشبه كثيرا لون الحبّ، إذ غلبت عليها صفة عموديّة مبطنةٌ، أضمرتها طبيعةُ الزوج النرجسيّة، وطبيعة زوجته المُؤْثِرَة. لا يشغل الرجلَ سوى إشكاليّة الخلقِ، سواء خلال أزمة الوحي الّتي استبدّت به في الجزء الأوّل، أو خلال حفلة التمجيد وهستيريا الإجلال التي تقرب للعبادة في الجزء الثاني. تبلغ نرجسيّة الرجلِ حدّا لا يطاق، حدّا تتزامن به قدرتُه على الكتابة مع قدرته على الإنجاب، لذلك وهبهم في النهاية ولده، كأنّما يهبهم شِعرَه.
وفي المقابل، تتصرّف زوجته كامرأة معياريّة، نموذجيّة طبقا للصورة النمطيّة. أنوثتها طاغية، ولقد ركّز المخرج كثيرا على هذا الجانب، فرأينا جينفر لورانس كما لم نرها من قبل، خصوصا في المشهد الأول حينما وقفت بثوب النوم الرقيق الذي تخلّلته أشعة شمس خجولة، أمام المنزل. إيمانُها بمؤسسة الزواج يقينيّ، حتّى بدت كأنّها جاهزة سلفا لاستقبال جنين، ورغبتها في الإنجاب كانت عارمة إلى حدّ لم يخفَ على ضيفتها الثقيلة. وينعكس اهتمامها بالعائلة، على اهتمامها بالمنزل، وإشرافها المباشر على تهيئته. إذ لا تنفكُّ تشكّل معالمه وألوانه في إصرار وحبّ جديرين بربّة بيت نموذجيّة.
نحن إذا أمام صورة نمطيّة للزوجين، ربّما كاريكاتوريّة أيضا، وهي صورة لا تلقي بألوانها خجلا على هامش المشهد، بل هي محوره، لذلك كان لزاما أن نعيد النّظر في مسألة التأويل القصصيّ المسيحيّ.

نشعر إزاء ما حدث في المنزل بانزعاج حقيقيّ، كما لو أننا الزوجة. لا نفهم سببا للتخريب الذي يمارسه أناس تستضيفهم وتمنحهم كلّ شيء. لكنّنا لا نفهم أشياء أخرى كثيرة. ربّما كان هؤلاء أغرابا، أمّا الزوج فلا، ومع ذلك فهو يتصرّف بشكل مزعج، ربّما لا يوجد أمر أكثر إزعاجا في الفيلم من نظراته البريئة الخاوية. أحيانا ننفصم عن الزوجة، فنشعر حيالها بذات الانزعاج، لأنّها تحافظ على قدرتها على الخضوع والعطاء، في ظرف مستحيل. لقد بدت لي هذه العلاقة المرَضيّة بين الزوجين أكثر إثارة من الغزو البربريّ للمنزل، حتّى كأنّ الغزوَ تجسيد كابوسيّ لهذه العلاقة. هل كنتُ مخطئا؟

أجل، بحسب أرنوفسكي ليس الأمر سوى إعادة تشكيل لقصة الإنسان على الأرض من وجهة نظر الطبيعة الأمّ، واستنادا إلى القصص التوراتي وعناصر مسيحيّة أخرى. يتلخّص الفيلم إذا بحسب المخرج في تلك المقاربة التي تجعل الطبيعة امرأةً تمنح الناس كلّ شيء، فيواجهون عطاءها بجحودٍ ساديّ، وبوحشيّة مخيفة. وهو تفسير محبط كثيرا، كان على أرونوفسكي تجنّب البوح به على الأقلّ، إذ أجدُه ينتقص من العمل أكثر بكثير ممّا يضيف إليه.


يجعلني هذا التفسير أتساءل عن وظيفة القصص الدينيّ في هذه المقاربة. حكاية الطبيعة مع الإنسان بدأت مع الإنسان الأوّل، وربّما وجد أرنوفسكي الملحدُ أنّ قصة آدم استعارةٌ لطيفة لتلك اللحظة، وبالمثل، كانت الجريمة الأولى التي حدثت بسبب الميراث، استعارةً أخرى لفكرة بدء الصراع البشريّ/البشريّ لامتلاك الأرض، وهو الصراع الذي كان وراء كلّ المصائب التي تعرّضت لها الطبيعة. لكنّنا مع مرور هذه الشذرات البلاغيّة، نوغل أكثر في ضباب عقيم، فما دلالة الطوفان مثلا؟ لقد كان انفجار أنبوب المياه في المطبخ كارثيّا على الأم، لكن من قال إنّ الطوفان كان ضارّا بالطبيعة؟ وتنتهي لعبة الاستعارة مع الوليد، ذلك أنّ الأمّ نفسها تكفّ عن كونها تجسيدا للطبيعة، وتتحول إلى شخصيّة دينيّة أخرى هي مريم. فما علاقة هذا التحوّل بالطبيعة؟ ولماذا بدا وكأنّ ميلاد المسيح، أشبه شيء بقيامته؟
لقد كانت مشاهد الحروب المروّعة أقرب إلى عصرنا الحالي، وهو عصر خالِ من الوحي والنبوّة والمعجزات، بل ومن الإنجيل نفسه تقريبا، فلماذا كان ميلاد الرضيع شارة بداية لهذا الخراب؟

عدم استقامة المقاربة بين الزوجة والطبيعة، لا يقف عند تأويليّة القصص الدينيّ، ويجعله بلا فائدة تقريبا، بل يحدث شروخا في رمزية العلاقة الزوجيّة أيضا. ألا يفترض من الطبيعة أن تكون إحدى إبداعات الشاعر أيضا؟ ربما كان ذلك ما حاول الشاعر تجسيده من خلال قطعة الكريستال، لكن ما دلالة هذا التزاوج بين الإلهي والطبيعيّ فيما يخصّ انتهاك البيئة؟ ربّما هو اتّهام ضمنيّ لتواطؤ الدين وسلبيّته تجاه ما وقع للطبيعة. ولكنّه تأويل متكلّف، لا يحتملُ محوريّة شخصيّة الزوج، واهتمام المخرجِ المفرط بهِ.


وأخيرا، هناك علاقة الزوجة بالمنزل. وهي أقل العلاقات تطوّرا، رغم كونها الأكثر قيمة في المقاربة. فإذا كانت الزوجة تمثّلُ الطبيعة، فالمنزل حتما يمثل كوكب الأرض، أو على الأقل، هو امتداد مكانيُّ لذات الطبيعة التي جُسّدت. لقد حاول أرنوفسكي تبيين هذه العلاقة العضويّة في لقطتين، كانت فيهما الأمُّ تسمعُ نبض المنزل، وتشعر بالحياة تدبُّ فيها. وفي اللقطتين، تواصل الأمُّ عملها الدؤوب الأبديّ لتأثيثه وتطوير الحياة فيه. وتُبدي كلّما سنحت الفرصةُ فخرها بإنجازها. على أنّ الإنجاز الذي نقلته عينا الأمّ بدا متواضعا، باهت الألوان، هشّا، خاليا من كلّ زخرفة، وخاليا من كلّ شكل تكنولوجيّ متطوّر. يهمسُ أحدهم أنّ في ذلك إحالة إلى أبديّة الفضاء وعدم ارتباطه بزمن ما، ولكنّ الأمر ليس كذلك فعلا! تذكّروا الهاتف في المطبخ، والعناصر المعاصرة في الصالون وفي الحمّام. وفي تلك اللحظة التي خرجت فيها الأمّ وواجهت الخضرة الممتدّة حول منزلها، بدا الفارق عظيما حتّى التناقض بين المحيطين. وهي لحظة، أراد منها أرونوفسكي أن يخلق تواصلا، فإذا هو يحدث قطيعة بصريّة. لقد ولدت الطبيعةُ عظيمة، مشبعة الألوان، بهيجة، حيّة، أو هكذا عرفها الإنسان الأوّل على الأقل، لذلك، أعتقد أن أرنوفسكي فشل في أهمّ استعارات الفيلم.

منزل/أرض لا يغري كثيرا بالحياة، وقصص دينيّ جانبيّ لا يخدم فكرة الفيلم التي يروّج لها المخرج، وتأويل لا يرقى كثيرا إلى الهرمنوطيقا (كممارسة تأويليّة على النصّ المقدّس واستخراج معانيه العميقة). كلّ ذلك يدفعنا إلى تجاهل ما يقول المخرجُ، والعودة مرّة أخرى إلى ما تقوله صورتُه. نرى مرّة أخرى علاقة زوجيّة متقلّبة. نراها بمنظور الزوجة، فهي النعيمُ كلّما كانا وحيديْن ولا شيءَ يحول بينها وبينه، وهي الجحيمُ كلّما اقتحم هذه الخلوة شخصٌ أو أشخاصٌ. ولئن كنّا لا نرى الأشياء من منظور الزوج، إلا أنّنا نستطيعُ أن نخمّنه. فخلال الخلوة، لم يبدِ الزوجُ حضورا نفسيّا حقيقيّا، وغالبا ما كان حانقا لغياب الوحي، ولم يعاوده الحماسُ إلا حين انقطاع الخلوة. يُنشدُ الرجلُ سعادته خارج محيط الزوجيّة، وهو المكان الذي تبحث فيه الزوجة عن سعادتها. ثنائيّةٌ قديمة ومستهلكةٌ بالفعل، وجزء من صورة نمطيّة للرجل والمرأة: الرجلُ الكاتب، الخالق، سليل الحضارة، والمرأةُ/الطبيعية الخصبة، عماد العائلة، ربّة البيت، القلقةُ دوما، الخائفة أبدا… إنّ استعارة الرجل الشاعر وربّة البيت للدلالة عن الله والطبيعة، ليست في الحقيقة سواء تقيّة عن عدم وجود استعارة! فالله الذي ـ بحسب المخرج ـ لا يؤمن بوجوده، لا يبدو متّهمًا بالجرائم البيئيّة، ولو كان متّهما، فالرسالة الموجّهة لنا كبشر، تفقد كلّ معنى. وجودُه في المقاربة إذا أقلّ قيمةًَ بكثير من حضوره الطاغي في الفيلم، والسبّب أنّ الفيلم الذي يصوّرُ ظاهريّا جرائم الناس في حقّ الطبيعة، يصوّر في باطنه، جرائم هذا الكائن المبدعِ الخالق النرجسيِّ تجاه زوجته المخلصةِ الوفيّةِ. أتُرانا نتحدثُ عن أرنوفسكي نفسه؟

شهد زمن إنجاز الفيلمِ علاقةً بين المخرج أرنوفسكي والبطلة جنفر لورنس، وامتدّت إلى ما بعدَ العرض بشهور قليلة. وكشفت لورنس للصحافة عن هوسِ صديقها المفرط بفنّه، فحالما انتهت جولتهما الترويجيّة، ظلّ الفيلم موضوعه المفضّل، أما هي فكان كلّ همّها آنذاك أن تنسى عملها وتفكّر في أمر آخر مع صديقها. لقد تميّز الشاعرُ بنرجسية قوية، ولكنّها نرجسية أصيلة، جديرة بفنّان، ولا شكّ عندي أنّ أرونفسكي لم يشكّل هذه الشخصيّة بعين الخيال. ومن ذات المصدرِ، جاء بشخصيّة الأمّ. لقد انتهت علاقتُه بجينفر لورنس التي أبدعت في فيلم mother! ومنحته كلّ ما عندها بالفعل، لتبدأ ربما علاقة لا نعرف عنها شيئا، بدقّة شبيهة بتلك التي وصفها في نهاية الفيلم.
إننا حيال بورتريه ذاتيّ كابوسيّ مقنّع للمخرجِ، ومحاولة ربما للاعترافِ بفضل المرأة في عمليّة الخلقِ، بل تراهُ ينسبُ إليها عمليّة الخلق الأجلِّ والأعظم وهي خلق الحياةِ، فيوازي بين الوليد وبين القصيدِ.

فيلم أمّ! ليس كما يبدو في "باطنه" المقنّع، بل هو أقربُ شيء لظاهره الساذج، ولم تكن محاولات التقيّة والإلهاء بالقصص الدينيِّ والأفكار البيئيّة سوى مقاربات منقوصة وتفتقر للدقّة، وأحيانا للعلّة (لا يوجد سبب مقنع لاستعمال القصص الدينيّ في مقاربة عن الطبيعة). لقد كان واضحا أنّ الفيلم نتاج كتابة سريعة غير متأنّية مثلما أكّد المخرجُ نفسه (قال إنّه كتب النص في ثلاثة أيام)، فمع التأنّي لا نكسبُ الدقّة والمتانة فحسب، وإنّما نخسر الكثير من ذلك الرابط الخفيّ الذي يجعلُ العمل الفنيّ شخصيّا يكاد يحمل وجه صاحبه.
ولا يتميّز الفيلمُ بأفكارٍ جديدة، أو تساؤلات عميقة حقيقيّة، ولا يجعلنا متردّدين أمام موقفين، إنّما يكتفي بالوصف بعيونِ شخصيّاته ونفسيّاتهم، ولكنّه يمنحنا الكثير من الحيرة اللطيفة، ويجعل تجربة مشاهدته فريدة حقّا.
أمّ ليس تحفة فنيّة عظيمة كما حاول إيهامنا الكثير من المتحمّسين، وليس أيضا فيلم سيئا كما أكّد أغلب من لم يفهموه. ولكنّه على قدر كبير من الإبداع، وعلى قدر أكبر من الإنسانيّة.

Translate