"لقد رأيتُ أشياءً،
ماكان لإنسٍ أن يصدّقها.
سفن الحربِ المحترقة،
عند كتف الجوزاءِ.
رأيتُ،
حزم السيزيُم
المتألّقة في الظلام، حذو بوّابة تانهوزر…
والآن أخسر كلّ هذه اللحظات،
كدمع ضاع في الأنواءِ…"
مرّت خمس وثلاثون سنة على ارتجال روتجر هاور Rutger Hauer هذه الكلمات الغريبة في مشهد موته في فيلم بْلاَيْد رَنَرْ Blade Runner. لكنّها على غرابتها، تبدو شيئا أصيلا إذ ينبع من آلة حيّة، وتعكس ضربا من الحزن الرقميّ المؤلمِ كالثلج، إن كان للحزن الرقميّ إمكانٌ ما. إنها خاتمة مشهد الذّروة، وهي في آنٍ واحدٍ، تُخلّص البطلَ وغريمَه من همَّيْهما، وتلخّص أثرَ بْلايد رَنَرْ في عالم السينما : مَانِيفسْتُو السَّايبربنك.
هل بدأت سينما السايبربنك Cyberpunk مع رائعة ريدلي سكوتّ Ridley Scott؟ يمكن العودة إلى فيلم متروبوليس (سنة 1926) لاقتفاء الآثار الأولى لهذا الصنف من الخيال العلميّ، لكن تحتّم على الشاشة الكبيرة انتظار التحوّلات الثقافية الكبيرة التي أتت بها نهاية الستينات، وظهور الموجة الجديدة لأدب الخيال العلمي، وانتشار البانك Punk في الثقافة الشعبية Pop culture بشكل عامّ. وعندما حلّت رياح الثمانينات، باتت ألعاب الفيديو ثقافة رائجة، وبات الملأ يسمعون أخبارا غريبة عن "قراصنة الكمبيوتر". لقد استوعب عالم Blade Runner كلّ ذلك بشكل مذهل، وعكست تفاصيلُه ومشاهدُه كلّ تلك التحوّلات، فاكتملت فيه أغلب ملامح هذا الصنف السينمائيّ حتّى بات مرجعا انبثقت أعظمُ أعمال السايبربانك من رحمه.
في نهاية السبعينات، حقّق الشاب ريدلي سكوتّ Ridley Scott نجاحا معتبرا خصوصا من خلال رائعة فضائيّ Alien، ومع تزايد الاهتمام بسينما الخيال العلميّ، أُوكلَ له إخراجُ Blade Runner، فبدأ العمل على مراجعة السيناريو الذي كُتب على مراحل عديدة، انطلاقا من القصّة الأصلية (هل تحلم الأندرويدات بخرفان كهربائية؟) فخضع لسجال مرهق بين كاتب الرواية فيليب دك Philip Dick، وكاتبي الفيلم فانشر وبيبلز Fancher & Peoples، وردلي سكوتّ نفسه، ما يجعل قصّة الفيلم لا تنتمي حقّا لأيّ من أربعتهم كما سآتي لذكره لاحقا. لكنّ العمل المرهق، والأموال الطائلة التي خُصّصت لإنتاج Blade Runner أفضت إلى فشل تجاريّ كبير، وكان على سكوتّ انتظار بعض السنوات حتّى تروج تجارة أشرطة الVHS ويتسلّل العالم الرقميّ بشكل أعمق للحياة العامّة ليستوعب الناسُ قيمة هذا الفيلم، ويرفعونه إلى مرتبة الأعمال الأيقونية.
لقد ساعد على ذلك إصدارُ بلايد رنر في نسخ سبعة مختلفة، منذ النسخة التجارية لسنة 1982 إلى النسخة النهائيّة لسنة 2007 التي تُعتبر رؤية المخرجِ الكاملة والفعليّة للفيلم، الخالية من أيّ إملاء من الأستوديو. على أنّ نسخة سنة 1992 المعروفة بنسخة المخرج Director's cut هي النسخة الأشهر حتما، وهي التي راجت وروّجت للفيلم وجعلت منه عملا كلاسيكيّا. من المدهش أنّ هذه النسخة هي النسخة السادسة، تماما كما انتظر تايرل Tyrell النسخة السادسة من المستنسخين Replicants ليحصل على كائن أكثر بشريّةً من البشر!
لا أتحدّث هنا عن تايرل لانستر، وإنّما عن رجل خطير آخر يدعى إلدون تايرل، يدير شركة ضخمة مقرُّها لوس أنجلس، وهدفُها استنساخ آليّين عضويين يُعرفون بالـرّبليكنت Replicants أو المستنسخين، يشبهون البشر في هيئاتهم ويتجاوزونهم في المهارات والعمل، ويصلحون لخدمتهم في المستعمرات الفضائيّة الجديدة.
نحن طبعا في عالم دستوبيّ سنةَ 2019 كما تخيّلها سكوتّ في الثمانينات، وهو عالم كئيب، فظّ، عنيف، مزدحم وفوضويّ. لا نشعر فيه بوجود اللدولة، بقدر ما نشعر بسلطة الشركات العملاقة التي تغزو علاماتُها التجاريّةُ كلّ شبر من فضاء المدينة (بانام، أتاري، كوكا كولا..). لا نعلمُ علاقة هذه الشركات ـ وعلى رأسها شركة تايرل العملاقة ـ بأجهزة الأمن، لكنّها تبدو مستقلّة عنها وإن كانت تخدمُها. إحدى هذه الأجهزة، تدير رجالا يطلق على الفرد منهم بلايد رنر، أو "مُجري الشفرة" وهي ترجمة ركيكة كما ترون. المهمّ أنّ لهؤلاء الرجال قدرةً على كشف المستنسخين Replicants بفضل جهاز أشبه بجهاز كشف الكذب، ولهم صلاحيّة التخلّص منهم وهو إجراء يُعرف عندهم بـالإحالة على التقاعد.
يروي الفيلمُ قصّة دِكَرْد Dickard أحد هؤلاء من ذوي الشّفرة، إذ يتولّى مهمّة البحث عن بعض المستنسخين الذين فرّوا من مستعمرة فضائيّة وعادوا إلى الأرض وتمرّدوا. يقود المتمرّدين مستنسخ من الجيل السادس، يدعى روي باتي Roy Batty، يفوقهم سنّا وقدرة، وحماسا لإطالة عمره القصير المحدّد بأربع سنوات. أما دكرد فكانت رحلة بحثه عن المستنسخين رحلة بحث عن الذات أولا.
تحيلنا ثنائيّةُ البحث هذه على سينما الفيلم الأسود Film noir التي راجت في الأربعينات والخمسينات مع همفري بوغارت Humphrey Bogart خصوصا. ولقد كانت شخصيّة دكرد استعادةً فريدة لشخصية مارلو Marlowe المتحرّي الخاصّ، ولكن في عالم سايبيريّ مستقبليّ. ورغم أنّ هارِسُن فورد Harrison Ford مؤدّي شخصيّة دكرد، رفض لبس قبّعة، فقد استلهم من مارلو هيئته الخارجية، وسحنته العدميّة nihilist المستهترة. كان دكرد رَاويةً في النسخة الأولى من الفيلم، قبل أن يتمّ التخلّي عن ذلك لأنّ تعليقاته لم تضف شيئا للمتفرّج. فالمَشاهد تنقلُ الأحداث من زاوية رؤية البطل بالفعل، وبشكل بليغ يغني عن التعليق. وهذه أيضا من خصائص الفيلم الأسود.
ويمضي ردلي سكوتّ أبعدَ من ذلك في طلب الفيلم النوار. فإلى جانب البطل/المتحرّي، نجدُ المرأة الفاتنة الغامضة التي يقع البطلُ في هواها (ريتشل)، ونجد المدينة/الشخصية، التي تخبِّئ في كلّ ثناياها رائحة الجرائم، ونجد لعبة الضوء والظلال، والتقابل الحادَّ بين الجلاء والقَتَمة في اللقطة الواحدة Chiaroscuro، كأنّ ريدلي سكوتّ يحيلنا إلى تعبيريّة فريتز لانغ Fritz Lang وروبرت فينه Robert Wiene، وهي إحالة بليغة لأنّ لوس أنجلس سكوتّ، امتدادٌ شرعيٌّ لمتروبوليس فريتز لانغ. تلحظ ذلك منذ المشهد الأوّل المهيب، إذ تطالعك ناطحات السحاب وهي تنفث النار في سماء كالحة، كأنّها لوحة ترحيب/نذير للمُشاهد : مرحبا بك في لوس أنجلس عاصمة الظلام، مرحبا بك في المستقبل الكئيب! إنّ هذه المباني العملاقة المضيئة ليست إلا مئات من التصاميم الورقية المصغّرة، التي أبدع فنّان المستقبليّات سيد ميد Syd Mead في إخراجها، تذكّر بشكل لحظيٍّ في مشاهد متروبوليس المهيبة.
لا ينكُر ريدلي سكوتّ استعاراته الكثيرة من المدوّنة السينمائية، وخصوصا من سجلّ ستانلي كيوبرك المخرج الأمريكيّ الفذّ، حتّى إنّه استعار افتتاح فيلم البريق Shining كخاتمة للنسخة التجارية الأولى للفيلم (بسبب إصرار المنتجين أن تكون النهاية سعيدة وصريحة!) كما استلهم الكثير من أوديسا الفضاء (المحادثات المرئية مثلا وتصميم غرفة نوم تايرل) ومن باري ليندن Barry Lyndon. لكنّ الأكيد، أنّه استطاع عبر هذه الاستعارات المكثّفة أن يخلق عالما بصريّا فريدا من نوعه، لم يستطع أيّ فيلم خيال علميّ آخر مجاراته إلاّ وكان محاكيا له.
لقد اعتمد سيد ميد وسكوتّ على مبدإ بسيط ومدهش في تصميم المدينة، وهو مبدأ التراكم. فصمّمت الأدوات والأغراض المستعملة والمنتشرة في الشوارع بشكل يوحي أنّها تعرّضت لتعديلات كثيرة على مرّ الزمن، ممّا يعطي شعورا أكبر بالوجود البشريّ، والتعقيد الديمغرافيّ الذي بلغه العالم، وكثرة الخيارات، وتقديم المستعمَل والمعدَّل والمرتجَل على الحديث الأنيق، ربّما لضيق ذات اليد، خصوصا في القاعدة السفلى لهرم المدينة. والملاحَظُ أنّه كلما ارتفعنا أكثر، كلّما قلّ الازدحام، وغيض التراكمُ، وأسفرَ الفضاءُ. ففي مقرّ الأمن، يبدو العالمُ أكثر تجانسا، وإن ظهرت بعض الأشياء المبعثرة هنا وهناك، وبدا وكأنّنا في زمن حاضر لا أكثر، أما حين نبلغ عنان السماء، حيث يعيشُ سيّدُ العصر، الدكتور تايرل، يصبح العالمُ تحفة مستقبلية بديعة، تتسلّل إليها الشمس في خجل، فتضيع في اتّساع المكان.
وبعيدا عن هذه الإشارة الويلزيّة (راجع رواية آلة الزمن) الواضحة لطبقية المجتمع، فقد استطاع سكوتّ وميد أن يجمعا في تصميمهما بين الرؤية المستقبلية البعيدة للوس أنجلس (حتما أبعد من سنة 2019 التي تدور فيها الأحداث) وبين الحفاظ على الإحساس بواقعيتها. إنها لاتزال هي كما يعرفُها أهلها، ولكن بعبق مستقبليّ مخيف، أمّن الرسالة المنذرة التي جاء بها سكوتّ. وهي رسالة بيئيّة بامتياز، تدين ارتفاع نسق الاستهلاك (تهافت العلامات التجاريّة الرهيب)، وعدم الالتفات إلى مسألة الرسكلة التفاتا جدّيا (تراكم الخردة بقدر تراكم التعديلات على الأدوات). المثير هنا أنّ قصّة الفيلم لا تتعلّق من قريب أو بعيد بهذه الفكرة الخطيرة، وهو ما يؤكّد على قيمة الصورة في فيلم بلايد رنر، كحاملة رئيسية للمعنى.
تخبرنا الصورةُ أيضا عن تركيبة هذا العالم الديمغرافيّ. فنجد حضورا آسيويّا طاغيا في العالم السفليّ، مع حضور للعرب واللاتينيّين والهيبيز والمهمّشين. في المقابل تقتصر قمّة الهرم على البيض الغربيّين. هذا الانقسام الطبقيّ لا يخلو من حلقات وصل أمّنها عالمان : الآسيويُّ حنّبعل تشو Hannibal Chew مهندس عيون المستنسخين، حيث يقبع مخبره في العالم السفليّ رغم قيمة المهمّة، لكنّه على تواصل مع سيباستين Sebastian المهندس الجينيّ الرئيسيّ لتايرل، وهو أبيض من درجة أدنى بما أنّه يعاني من متلازمة متوشلخ Methuselah Syndrome (متلازمة خياليّة تفترض أن المريض يشيخ بسرعة).
ولو عنّ لنا البحثُ أكثر في المسألة الإثنية، سنجد أفكارا واحتمالات أخرى. ولا ريب أنّ بلايد رنر رغم العشوائية التي توحي بها مَشاهدُه، دقيقُ التفاصيل إلى حدّ مبهر. إنّ العالم الثريّ الذي نقلته مشاهد الفيلم، لا يمكن أن تستوعبه مشاهدةٌ بسيطة، خصوصا وأنّه عالم يقبع بين مستوى جبهة الأحداث، وبين الخلفية المظلمة أو الضبابية التي يقتضيها فنّ الفيلم نوار. وعلى ذات الهامش أيضا تقع اللغة المتواترة في هذا العالم، وهي خليط من الانكليزية والروسية والصينية والاسبانية والفنلندية على ما يبدو، لغة تعبّر بأصالة مدهشة عن عدم تجانس عالم ما بعد العولمة، وربّما تحذّر منها أيضا. تنوّع الأعراق واللغات المنتشرة عند قاعد البناء الهرميّ الذي ينتهي بمقرّ تايرل، يحيلنا بلا شكّ إلى برج قصة بابل الشهيرة في الكتاب المقدّس، حيث بلبل الربُّ ألسنة القوم ففقدوا القدرة على التواصل، وانهار البناءُ وانهارت الحضارة. وهكذا تخبرنا اللغة من موقعها الهامشيّ في الفيلم، عن خراب العالم وتدهور الحضارة.
في زمن بلايد رنر سنة 1982، لم يحدث أن شُحن فيلم خيال علميّ بكلّ هذه الأفكار على المستوى البصري، ولم يحدث أن نقلت صورة سينمائية قبله تصوّرا عن المستقبل بهذا الثراء، وهو ما ألزم كلّ عمل دستوبيّ من بعده على تقليده أو النّهل منه (برازيل 1985، المبيد The terminator 1984، شبح داخل القشرة Ghost in the shell 1995، أكيرا Akira 1988، المدينة المظلمة 1998، الماتركس 1999، غاتاكا Gattaca 1997 الخ). فهل كانت الدراما التي تدور داخل هذا العالم بمثل مستوى سياقها؟
لقد مثّل الفيلمُ الكلمات السينمائيّة الأولى لطفل السايبربانك، هذا الصنفُ الذي راح ينمو بسرعة في الثمانينات واكتمل نضجه مع أعمال أكثر سوداوية، وأعمق وأعنف في التسعينات (شبح داخل القشرة وماتركس). لذلك يُعتبر طرحُه ثوريّا بالفعل، فهو يتجاوز ذلك التلميح الأوديسيّ (نسبة إلى أوديسا الفضاء) لنسبية المشاعر الإنسانية وإمكانية رقمنتها، إلى اعتبار المسألة تحصيل حاصل في المستقبل القريب. حينما نفكّر أنّ علاقة دكرد البطل بريتشل Rachael المستنسخة الجميلة تسبق علاقة ثيدور بسامنتا في فيلم Her بأكثر من ثلاثين عاما، تعترينا الدهشة. وحين نفكّر أنّ القصّة تقوم على فكرة العبث الجينيّ، قبل أكثر من خمس عشرة سنة على ظهور الاستنساخ، وقبل نحو عشرين سنة من الإعلان عن الانتهاء من الخارطة الجينيّة للإنسان، ندرك قيمة بلايد رنر في مدوّنة الخيال العلميّ.
لم تخل هذه الاختلاجات الأولى من الالتباس... نحن نعرف أنّ المستنسخين صناعةٌ بيولوجيّة بالأساس. أي أنها كائنات عضويّة، صُنعت بتحويرات جينيّة للخلايا البشرية بحيث تكون أكثر قوّة وقدرة على الكدح والتفكير أحيانا. ولكنّ هذه الخلايا مبرمجة لتعيش أربع سنوات على الأكثر، حتّى لا تكوّن مشاعر التعاطف التي تمثّل فارقا بينها وبين الإنسان. يتمثّل سؤال الفيلم المحوريّ في: ما مدى بشريّة المستنسخين؟ ومن خلال ذلك يحاول أن يبحث في معنى أن يكون الإنسانُ إنسانا. على أنّ تعامل الفيلم مع المستنسخين، كان دوما يوحي بأننا إزاء آليّين. وهو أمر يعود إلى الرواية الأصلية (هل تحلم الاندرويدات بخرفان كهربائية؟) حيث أن طبيعة المستنسخين فيها آليّة وليست عضويّة. نلمسُ هذا الالتباس في تقديم مشاعر المستنسخين على أنّها استثناء، ومعجزة، والحال أنّهم يملكون جهازا عصبيّا يتفوّق على الجهاز البشريّ العاديّ (بما أنّهم يفوقونهم ذكاء أحيانا). لقد اعتبر الفيلمُ لسبب ما، أنّ من البديهيّ التفكير بأن المستنسخين ـ ككائنات محوّرة جينيّا وقوّة عاملة ـ هم مثل الأندرويدات لا يُفترض أن يملكوا مشاعر بشرية ثمّ عمل على دحض هذه الأطروحة على مستويات عدة.
أكثر هذه المستويات بداهة، تُلحظ من خلال الصورة. فالمستنسخون ولا شكّ يملكون حسّا للحياة أكبر بكثير من البشر. لنتذكّر تفاصيل مشهد اختبار كشف المستنسخين Voight-Kampff الذي أجري على ليون Leon. لقد كان المستنسخُ متوتّرا متّقد العينين، وكان إجاباته ساخرة أو عنيفة أو متسائلة،ترتفع نبرتها وتنخفض، كنوتات موسيقى من الانفعالات، أما مختبرُه البشريُّ فقد كان جامدا باردا لا توحي ردوده بأية انفعالات. وحين تنتقلُ بنا المشاهدُ إلى شوارع لوس أنجلس تجدُ الناس فيها يتحرّكون كالموتى الأحياء بلا تواصل حقيقيّ في ما بينهم، أمّا المحوّرون فيمارسون حياة أكثر اتّقادا. إنّهم مصدر لا ينضب للرذيلة: مخادعون مثل زهرة Zhora عنيفون مثل ليون Leon، متلاعبون مثل Pris وقتلة مثل روي باتي Batty والرذيلة صنو النفس البشرية ونِتاج انفعالاتها. وفي حين تعلو قيمةُ الفردانيّة في مجتمع الإنسان المستقبليّ، يتحرّك المتمرّدون ككلٍّ، يؤازر بعضهم بعضا، من أجل هدف واحد. من المضحك هنا أنّ جهاز كشف المستنسَخين يقوم على قاعدة عجزهم عن التعاطف، بينما يعكس واقع القصّة هذه القاعدة. فإنسان المستقبل الذي وضع هذا المجتمع الهرميّ، والذي رفض الاعتراف بإنسانية المستنسخين، والذي دمّر مجاله البيئيّ تماما حتّى أصبحت الحيوانات الطبيعية فيه شيئا أسطوريا، لا يمكن أن يوصف بالتعاطف، ولو أنّ التعاطف هو ما يحدّد إنسانية الإنسان، فإنسان هذا العالم قد فقد إنسانيته تماما.
يمثّل روي باتي، مستوى خاصّا في دحض الأطروحة. ذلك أنّه ليس مليئا بالحياة فحسب، بل بإرادة عارمة للحياة. إنّ إحساسه بقيمة حياته رغم عبثها، منحه قدرة على التمرّد، والتحدي، والعودة إلى الأرض لمواجهة صانعه في مشهد خالد. إنّ روي صورة أدبية أخرى لزرادشت نيتشه أو "الأرقى من الإنسان" übermensch. لقد حقّق تطوّره لا بفضل تحويره الجينيّ فحسب، بل بفضل إرادة الحياة الكامنة فيه، وتجلّي قدرته على أي فعل ممكن بما في ذلك قتل صانعه!
أما المستوى الثاني فهو دلالة العين. يقول كتابُ متّى إنّ العين نافذة الروح، ويبدو أن سكوتّ استعار هذه الحقيقة الدينيّة، وعمل عليها كثيرا. يتوجه جهاز كشف المستنسخين نحو عين الممتحَن، يرصد ردود فعلها تجاه الأسئلة الموجّهة إليه، ويكشف من خلالها إن كانت إجابته كاذبة. كما تُستخدم العينُ أيضا كوسيلة تحقق من الهوية، في الحالات الأمنية والنفاذ إلى المواقع الممنوعة. ولقد أبدى المستنسخون وعيا واضحا بدلالة العين، تجلّى ذلك في مشاهد ثلاث أساسية : حين تلاعبت بريس Pris بسيباستيان وأوهمته بأنّها شخص مشرّد، كانت تحجب عينيها ببخاخ أسود كأنّها تخفي عنه حقيقتَها. وحين اقتحمت مع روي باتي مخبرَ مهندس العيون تشو Chew، قال له روي "لو أنّك رأيتَ ما رأيتُ أنا بعينيك!" ذلك أنّ عينيْ روي من صناعة تشو. وأخيرا، حينما قتل روي باتي صانعَه، كان ذلك بفقء عينيه كدلالة على انتزاع روحه. يجتمعُ المستنسَخون بما فيهم الحيوانات (البومة التي يملكها الدكتور تايرل) على وميض في العينين لا يحدث للبشر العاديين. لذلك يمكن اعتبار الوميض دلالة للتفريق بين من يملك روحا حقيقيّة وبين من لا يملكها. وتمثّل هذه الدلالة أيضا نقطة حاسمة في سؤال : هل أن دكرد Dickard بطل الفيلم، بشرٌ أم مستنسخ. فلئن أوضحت الرواية أنّه بالفعل بشر، حاول الفيلمُ أن كون ضبابيّا وغير حاسم في المسألة. "هل أجريتَ اختبار فويت كامبف (كشف المستنسخين) على نفسك؟" تسأله ريتشل، لكنّه لا يجيبها/ـنا.
يختلف فريق العمل في قراءته لحقيقة دكرد، فهاريسن فورد Harrison Ford مؤدّي الشخصية، يؤكد أن دكرد بشر، والمشاركون في كتابة السيناريو يطرحون الاحتمالين على أساس أن كليهما ممكن. أمّا ريدلي سكوتّ فلا يبدو متردّدا بخصوص المسألة، ولعلّ ذلك كان وراء تقديمه لنسخة نهائية للفيلم بعد خمس وعشرين سنة من النسخة الأولى. ففي النسخة الختامية، يحلم دكرد بحصان أحادي القرن Unicorn، لكنّه لا يخبر أحدا بهذا الحلم، وفي مشهد الختام، يجد أمام باب شقّته مشكَّلَ أورغامي Origami في هيئة الحصان الذي حلم به. يعرفُ دكرد الرجلَ الذي يصنع هذه المشكَّلات، فهو من جهاز الأمن، وهو من كلّفه بمهمّة البحث عن المستنسخين، وهو بذلك يكتشف أنّ أحلامه ليست ملكه في الحقيقة، وإنما هي مغروسة فيه، كما تُغرسُ ذاكرةٌ وهميّة للمستنسخين! أما الدليل الثاني، فيتعلّق بوميض عينيه في مشهد كان فيه رفقة ريتشل.
إنني أميل إلى هذه الفكرة، ليس لأنّها دراميّا مباغتة ومثيرة، وإنّما لأنّها تتناسق تماما مع رحلة البطل في أفلام صنف النّوار. ففي هذا العالم، دائما ما يكلَّف البطلُ بمهمّة روتينيّة سرعانما تكشف عن جبل الجليد. وإذا به أمام حقائق تقلب كيانه وتغيّر حياته جذريا. تمثّل المرأة الفاتنة خيط آريان الذي يقود البطل إلى الحقيقة، وتلعب ريتشل هذا الدور، إذ تحمل البطلَ على الانتقال من صياد إلى منقذ، ومن لا مبال إلى متعاطف. لقد اكتسب دكرد القدرة على التعاطف، وبالتالي تحوّل من بشر إلى مستنسخ. وهكذا يكتمل قالب الفيلم نوار في بلايد رنر، فهو لا يستعير بعض خصائص الصنف وإنّما يتبناه كليا، ليؤسس ربّما لأول فيلم نوار من صنف الخيال العلمي.
لقد استعار سكوتّ من مدونات كثيرة غير الفيلم نوار كما بينَّا، وذلك على مستوى الشكل والمضمون. فوجدنا وسط التشكيل الهجين ثقافة الهيبيين، والعالم الرقمي، والبيولوجيا، والمدونة السينمائية التعبيرية والسوداء، وسينما كيوبرك وفلسفة نيتشه. يمكن أن نضيف أيضا الموسيقى العربية التي اختارها ڥانجليس Vangelis كـثيمة رئيسية للفيلم (وردة دمشق). ولقد كان حضورُها في الخلفية لافتا وأكسب المشهد روحا شرقية رومنطيقية، تزيد من رهبة المشاهد الغربي بشكل خاص، ومن غموض المشهد بشكل عام.
أما المعجم الثانوي الأهمّ برأيي فهو بلا شك المعجم الديني. ولقد ذكرتُ كيف أن دلالة العين تأسّست على فكرة مسيحية المصدر. كما أن مشهد قتل تايرل بيد صنيعته يذكّرنا بمقولة نيتشه الشهيرة "لقد مات الإله.. ونحن من قتله". يمضي الفيلم قُدما في استعارته، فروي باتي كتجلّ للإنسان الجديد، لانسان نيتشه الأرقى، يقدّم نفسه كمسيح للمستنسخين، مسح دماءهم بوجهه، وأخذ على عاتقه آلامهم ومعاناتهم...
إنّه مشهد الذروة Climax، حين يفقد دكرد كلّ أمل في النجاة من روي باتي، أصابعه المكسورة تكاد تتخلّى على حافة الهاوية، وأمامه المستنسخ الأخير بكامل عنفوانه. إنها لحظة وجوديّة رهيبة في تاريخ السينما، تلك اللحظة التي أنقذ فيها روي، عدوّه الذي كان يريد قتله، تلك اللحظة التي انتشله فيها من براثن الهاوية متحمّلا بصاقه، ونظراته الكارهة، ليحدّثه حديث الدمع والمطر، ويسلم جسده للموت، وروحَه/حمامتَه لعنان السماء. لقد أدرك روي في لحظة ما، أنّ للعبة الشطرنج مع الموت قواعد أخرى غير القواعد التقليدية التي منحت له الفوز على صانعه (إحالة على فيلم الدلو السابع لإنغمار برغمان). كيف له أن يهزم البشر ويثبت لهم أنّه أكثر إنسانيّة منهم؟ بتحدّي برمجته التي تفترض أن يموت قبل أن يكسب القدرة على التعاطف. إنّه الآن لا يكنّ عاطفة لرفاقه فحسب، بل لأعدائه أيضا!
يغالب روي برمجة ذاكرته فيغلبها. تلك الذاكرة المفتعلة التي غُرست فيه، وتنتمي لشخص من بني البشر، وذلك بوضع مفهوم جديد لها، فالذاكرة التي يحملها المرء عن نفسه ذاتية مخادعة، تشيخ ويختفي بعضُها، وتخضع للتحوير والعبث، وربما للتلاشي. لكنّ ذاكرة المرء الحقيقيّة هي تلك التي يحملها الآخرون عنه. لقد رأى روي الكثير من الأشياء وأحبطه أن تذهب "مثل الدمع في الأنواء". ولأنّه لا يريد أن يتلاشى مثلها، فقد منح الحياة لغريمه. هكذا يستمرّ دكرد في الحياة، ويستمرُّ هو في ذاكرته. سوف يحدّث عنه الآخرين، وسوف يبقى للأبد. تلك وسيلته لتحقيق وجوده في الحياة.
إن بلايد رنر تجربة بصريّة فريدة، وتعبيرة فكرية بليغة، ألهمت الفنانين والسينمائيين لسنوات طويلة، وتركت مجادلات مستمرّة إلى يومنا هذا. فهل يمكن للمخرج الكندي دنيس فيلنوف أن يتحمّل هذا العبء؟ وهل يمكن لنسخته الجديدة من بلايد رنر (Blade Runner 2049) أن تكون في مستوى الجزء الأوّل؟
-------------------------------------------------------------------
العنوان : بلايد رنر
المخرج : ردلي سكوتّ
السنة : 1982
النوع : خيال علمي، سايبر بنك، فيلم نوار، دراما
المدّة : 117 دقيقة
البطولة : هارسن فورد (Harrison Ford) روتجر هاور Rutger Hauer، شين يونغ Sean Young
No comments:
Post a Comment