عندما ذهب أحمد صباحا إلى المدرسة كعادته، لم يكن يعرف أين هو البترول. اتّخذ مقعده بجانب صديقه أيّوب ليواصلا لعبة بدآها خلسة يوم أمس. أحمد يكره حصّة القراءة، لأنه.. يكره ذلك. يشعر بضجر عاصف، و يتمنّى يوما لو يصرخ في المعلّمة أن تعفيَه من قراءة قصة مريم التي تنتظر الصباح الجديد، مرارا و تكرارا، لكنّه يغتال أمانيه حينما يتذكر عصا المعلّمة.
فجأة دخل المدير، جمّد ظلّه الدماء في العروق، و انتشر الصمت كالهشيم، بينما هتفت المعلمة في حماس : وقوف!
لم يبد المدير أي اهتمام بكلّ ذلك، شأن من تعوّد على تأثير سلطته في الآخر. تقدم نحو المدرّسة و أشار إلى ما يحمل، ففهمت قصده، و جلست في مكتبها، لتفسح له مجال الحديث. قال المدير في لهجة صارمة : هذم اليوميات متاع الشبيبة المدرسية، مائة فرنك، حتّى شيء، حكاية فارغة، ما غير ما تقولوا لي ما عنديش، و الا بابا ما عطانيش. عندكم من هنا لآخر الجمعة تشروهم. مفهوم؟
ثم استدار إلى المعلمة سائلا : هاك المجلاّت، كملوا خلصوهم؟
اِنتفض أحمد في وجل و المعلمة تشير إليه في ضجر، و تقول : مازال أحمد كالعادة.
أمعن المدير النظر في رأسه المطأطئ، ثم قال بهدوء : أحمد، غدوة ما تجيبش 700 فرنك، ما تدخل إلاّ ببوك. تسمع فيّ؟
أومأ برأسه في استسلام، و راح يفكّر في وسيلة لطلب المال من والده دون أن ينال صفعة على وجهه. أما السباب فلم يعد يهمّ، لقد ألفه بأكثر ممّا ألف كلام كتب القراءة المنمّق. عاد أحمد إلى المنزل، دون أن يعرف أنّه تلقّى أولى دروس التنقيب على البترول...
***********
حينما سمع منصور طلب ابنه الوقح، همّ بصفعه في سخط، لولا أن تذكر أن الولد اللعين يقف بعيدا بالفعل، نظر إليه شزرا و قال له : مازلت تجبد لي هالحكاية نجبد لك **** عينيك! ماو قلت لك قلهم بابا ما عندوش!
أجابه الطفل و هو يستعدّ للهرب : قالوا لي غدوة ما تجيبش دينار، ما تجي كان ببوك!
أجابه الطفل و هو يستعدّ للهرب : قالوا لي غدوة ما تجيبش دينار، ما تجي كان ببوك!
ألقى على ابنه بحذائه لكنّه لم يصبه. أرهقته مطالبه، أرهقته مطالب هذا المنزل اللعين. لعن اليوم الذي فكّر فيه أن يستقرّ، و أن يؤسس عائلة. تلك المرأة اللعينة. النساء دوما سبب المصائب. تذكر شجار الأمس حول تغيير المرحاض. تلك الفاجرة تريد مرحاضا كما في ديار الأثرياء. من اللعينة التي وسوست لها ذلك؟ إنه التلفاز حتما. إنه التلفاز الذي يفتح العين على ما لا طاقة لها به. تذكر أنه ضيّع حلقة الأمس من المسلسل اليوميّ، ففتح التلفاز الكبير الشامخ قبالته. طالعه مشهد سيارة يكاد بريق لونها يتلف عينيه. تشبه تلك التي يملكها رئيسه في العمل، و يجبره على قيادتها كلّ يوم. لكنّ صاحبها لا يشبه رئيسه في شيء. يتصنّع البؤس تصنّعا، يحاول أن يوهمنا أن المال ليس كلّ شيء، و أنه لا يجد سعادته رغم هذه السيارة التي يقودها. الملاعين! يستغفلونه، كأنه لا يراهم أمامه و لا يتابع حياتهم بتفاصيلها و هو بزيّ السائق الذليل. أي بؤس هذا الذي يعيشه أمثالهم؟
سمع صوت زوجته القادمة، فترك دينارا على الطاولة، و هو يعرف أنها ستعطيها للولد. غادر المنزل و هو ساخط. سوف يشرب أقل من المعتاد بسبب طلبات الولد الخرقاء، و هو لا يحب أن يتمادى في الاستهلاك، لكي لا يضطرّ ليبوح لتلك الشمطاء بأجره الحقيقيّ. سوف لن يطرف لها جفن إلا بجعله يصرف كلّ شيء، و يُحرم من كلّ شيء، فقط لو علمت بحقيقة أجره، فسوف تعرف أين هو البترول!
**********
وقف أمام السيارة ينتظر خروج رئيسه. فتح له الباب في احترام و قال : صباح الخير سي الهادي. فأطلق الرجل سبابا بذيئا، و هو يقول (بما معناه) : لا بورك فيه من صباح نحس. انطلقت العربة، بينما "سي الهادي" لا ينفكّ يلعن المصنع و العمّال و قوانين الاستثمار المزرية. صرخ فجأة : ما ذنبي إن زاد ثمن النفط؟ يعلمون أنني لا أستطيع أن أرفع في أسعار المنتوج، و إلا ما اشتراه أحد. ماذا أفعل؟ و غدا سيأتي العمّال مطالبين بالزيادة! أصلا يجب عليّ أن أسدد زيادة البترول من رواتبهم!
كان هذا يعني أنه لن يقدر أن يطلب من سي الهادي شيئا من الزيادة. قد يطرده لو فعل. ماذا تراه يفعل؟ فاجأه صخب يتعالى من داخل المصنع. طلب منه رئيسه أن يذهب و يشهد ما يحدث، و يعود إليه مساء ليرويَ له كلّ شيء. خجل أن يسأله أن يعطيه ثمن سيارة الأجرة على الأقل، فاكتفى بالقول : تهنّى سي فلان! بينما غابت السيارة عن ناظريه.
سيجد حتما مادّة لا بأس بها بين هؤلاء القوم. كلاما كثيرا يستحق أن يجازى عليه أفضل جزاء. الصراخ يملأ المكان. الجميع يردّد شعارات مختلفة. يريدون الزيادة أساسا، لكنّه يعرف أنهم لن يظفروا إلا بالقليل. حينما يرتفع ثمن البترول و يشحّ، تمتدّ أيدي هؤلاء بالدماء تعويضا، عن طواعية أو عن غير طواعية. ستتردّد الشائعات عن اعتزام صاحب المصنع إعلان إفلاسه، سيخاف أغلبهم من مغبة التمادي و سيحجمون عن مواصلة الاحتجاج. سيضغط على السلط للقبض على بعض أولئك الذين لا سند لهم. مخرّبون، دعاة فوضى، ربّما ارهابيون أو متآمرون. في كلّ الحالات، فإن رئيسه لن يخسر، إنه الجهة الرابحة دائما. و هو دوما مع الجهة الرابحة. أين هو البترول؟ إنه مع الجهة الرابحة!
**********
في المساء، طلب منه رئيسه أن يذهب إلى مقهى الكابتن ماجد، ليحضر له ضيفا. وقف قبالة المقهى بالسيارة السوداء اللامعة، و ظلّ هناك حتّى طرق أحدهم بابها. نظر من وراء البلوّر المعتّم، ففاجأه وجه مدير المدرسة. ذات المدير الذي دفع دينارا كي يتحاشى رؤيته! أعاد الرجل طرق الباب، فأخفى وجهه بقبعته البالية، و فتح الباب الخلفيّ للسيارة.
لم يشأ أن ينخرط معه في الحديث و حاول أن يتحاشى قوله ما أمكن، حتى بلغ به المنزل. بسرعة آلية فتح له الباب و هرع إلى جرس المنزل. يجب أن يتخلّص من هذا الموقف السخيف، يجب!
ـ مرحبا، مرحبا! وينك يا راجل؟ عندك مدّة ما طليتش!
أشاح بوجهه، و هو يتراجع ليترك المكان للرجلين، لكنّ رئيسه استوقفه قائلا : أوكة خليت لك فلوسك عند نجاة، برّة خوذهم.
عرفه المدير هذه المرة، لا بدّ أنه عرفه! أسرع إلى الداخل و هو يكاد يسمع المدير يقول : بو تلميذ عندي مهبّلني... كانت نجاة تعدّ شيئا من العصائر، للضيف و مضيّفه. حينما رأته، فبادرته بالسؤال : منيرة في الدار؟ فهم لعبتها الماكرة فقال لها في صرامة : باهي، هاتي الفلوس الساعة. و لو كان نسمع بيك قلتي لها حاجة و الله ما نتفاهم معاك! يزينا مالحوايج التركية، تهريت! تهريت! مطّت المرأة شفتيها في حنق. و دفعت له النقود و هي تغمغم : نقص بركة مالصياح!
تجاهلها و غادر المكان، فاستوقفه حديث الرجلين
ـ و الله مازالوا ما خلصوش اليوميات اللي مديتهم لهم اليوم.
ـ هيه برمجهم اليوميات هذم. موش لازم اليوميات، نشوف لك مفكّرات؟ كتب موازية؟ يلزمني نمشي شوية دولاب. ماك تعرف، حتى من رئيس البلدية يلزمني نتصرّف معاه باش يعطيك هاك الرخصة.
ـ لا عاد سي فلان، ماو تفاهمنا فيها عاد هذيكة.
ـ هاك ترى في الاوضاع و الضغط. صدّقني الكلّه مالبترول!
1 comment:
اسمح لي بهذا الاقتباس للشاعر شوقي بزيع:
"بلادي بغيٌّ بثديين،
ثديٌ ينزُّ دماءً وآخرُ زيت
وأمس سمعتُ نشيجًا على الأفق قالوا: بلادي
وقالوا ألذُّ وأشهى البغايا بلادي
وغصّتْ عصورُ البطولات باللحمِ،
كلُّ الفوارس تحتل صدركِ
مذ كنتِ فجرًا تمرَّد في كلِّ بيت
وكنتُ جنينًا يقاتل دون الولادة عمرًا
ويسقط ميت
ولونٌ لعينيكِ ينسلُّ عب رالتراثِ
ويبحث عن جولةٍ ضائعه
لوجه بحجم الجزيرة يمتدُّ بين الحسين ورأسِ
الحسينِ وجوهًا بلون المسيح،
مداها السقوطُ وميدانها الأعينُ الجائعه
سيأتي زمانُ الولادةِ
والفصل بين الخلافةِ والسوطِ،
شيءٌ يعيد الملايين بعضَ إلهٍ
ويقذفُ في الصدر نارا
ويرجع رأسُ الحسين وجسمُ الحسين سويًّا
إلى الشام، تأتين بكرًا مع الفجر،
ينسلُّ فيكِ انبعاثٌ
وترجع كلُّ البغايا... عذارى"
Post a Comment