لا يتّسع المكان و لا يضيق، و لكنّها سلطة الموقف التي تحجب ما غيرها... في حالتي هذه، تقف السلطة من حولي ببدلاتها السوداء الأنيقة وقفة تحجب عني تفاصيل الغرفة المظلمة. الصبح لا يزال يفرك عينيه في تثاقل من وراء الأفق، أما أنا فلم أجد وقتا كافيا لأفرك عينيّ. الحصيّات الدقيقة اليابسة الملتصقة بمقلتيّ تجعل المشهد خشبيّا ضبابيّا و أكثر رهبة، يشهد بذلك تواتر صفير الربو من صدري العاري تقريبا.
لم أستطع أن أميّز عددهم بالضبط، و لم أتعرّف على هويّاتهم. في الواقع، لم أجرؤ أن أسألهم ذلك. ملامحهم توحي بأن عليّ أن أطيع لا أن أسأل. كان أحدهم يملأ المكان جيئة و ذهابا و دخانا، و هي ممارسات لا تروق لي و لا لصدري، و أحيانا تصيبني بالاغماء، لكنني كنت شبه فاقد للوعي بالفعل، فأنا لا أفيق بهذه الطريقة في العادة، ثم إن السادة يبدون أخطر من هذه التفاصيل السخيفة، سطوة الموقف تحتّم أن أتغاضى عن السخف قليلا و أن أستعدّ حين يحتاجون إليّ، هكذا السبيل إلى النجاة دوما... فجأة توقف الرجل و قال في حسم :"أنت في ورطة."
لم أجد جديدا في ما يقول، و لكنني لا أحب الاستهانة بكلام رجال يلبسون بدلات سوداء و يخرجونني من غرفة نومي قبل أن تخرج الشمس إلى العالم. لذلك أبرزتُ علامات الفزع التي كانت هناك بالفعل، لعلّه يلحظها و يقدم لي تفاصيل أكثر. لكنّه اقترب من وجهي ليقول لي بلهجة مهددة : "سنسألك بعض الأسئلة، و عليك أن تجيب عليها جميعها، النسيان و عدم المعرفة إجابتان غير مقبولتين هنا، هل تفهم؟ انت في ورطة!"
و هل كنت لأخفيَ شيئا عن سادة كهؤلاء؟ هاتوا أسئلتكم. سأل أحدهم "إسمك" و آخر "إسم أمك." و طلب ثالث :"كم حجم حذائك؟" أما الرجل المكتنز العصبيّ، فسأل في اقتضاب :"حجم تبانك الداخليّ". أنا شخص سريع النسيان لكنني اجتهدتُ فعلا كي أجيب عنها جميعها. لم يبد أن إحدى الأسئلة يوحي بالورطة التي أنا فيها، لكن لا حيلة لي.
"بم حلمتَ الليلة؟"
هذا سؤال تصعب الإجابة عليه بالدّقّة الكافية. علميّا يحلم الانسان طوال فترة نومه، و لكنه لا يذكر منها الكثير. هل قال إن النسيان إجابة غير مقبولة؟
"الحلم الذي أذكره جيّدا كان يخصّ لقاء في مقهى، مع خطيبتي السابقة."
"حاول أن تذكر كيف كان المقهى. لون المقاعد مثلا، شكل الفناجين، هل جلستما داخل المحل أم خارجه؟"
"كنا خارج المحل، و كانت المقاعد غير مريحة، خشبية بيضاء، أما الفناجين فكتبَ عليها Lavazza لكن لا أعتقد أن القهوة المقدمة كانت كذلك."
أحسستُ بلمعان عينيه من خلف النظارتين السوداوين، و اقترب بوجهه مني و هو يسأل :"المقهى، ما كان إسم المقهى؟"
كان السؤال صعبا و كان عليّ أن أذكر. ماذا كان اسم المقهى؟ كان مكتوبا على لائحة المشروبات الملقيّة على الطاولة. هل كان Starbugs ؟
"انت تقصد Starbucks أليس كذلك؟"
"اجل ربما."
"أجل، أم ربما؟"
"أجل."
"جيد. و ماذا كنت تفعل مع خطيبتك السابقة؟ أعني هل كنتما لا تزالان مخطوبين إلى بعضكما البعض في الحلم؟"
"كان لقاء فسخ الخطوبة. لم يكن شبيها بما حدث في الواقع. فقد حلمتُ بمشهد أكثر هدوءا و رقيّا مما حصل بالفعل. قلتُ لها إنني لا أزال أحبها، و حاولتُ أن ألقيَ عليها شيئا من شعر محمود درويش الذي لا أفهمه ويبدو مؤثّرا، لكنّها طلبت مني أن أخرس، ثمّ نزعت الخاتم الماسيّ الذي كانت تلبسه و رمته في فنجان قهوتي. كان حلما لا بأس به. الأحلام تجعل كل شيء جميلا. كانت خطيبتي تلبس فستانا جميلا، و عقدا لا أملك ثمن النّظر إليه من وراء الواجهة الزجاجيّة. كان ذلك من أسباب فسخ خطوبتنا في الواقع. أما في الحلم، فقد كان قالت أشياء تتعلق بمشاريعها وطموحاتها. لا أعتقد أنّ خطابها تضمّن تفصيلا لما تريده حقّا، فقط بعض الكلام المنمّق الذي جعل الموقف تراجيديا بما يكفي لأشعر أنّني غير محظوظ لا غير. حينما تخبرك حبيبتك إنك لا تملك ثمنها، لن تملك حينئذ ترف اللجوء إلى التراجيديا...
تركتُها تنهض و استرقتُ نظرة أخيرة إلى خصرها الشيطانيّ، و احتفظتُ بصمتي و خيبتي. و حينما غابت رائحة عطرها عن المكان، رنّ هاتفي. كانت أمي تهاتفني لتخبرني إنها وجدت محلا جيدا لكراء لوازم الأفراح."
"و ماذا كان نوع الهاتف؟"
"اممم... أعتقد أنه كان نوعا أمريكيا. أيفون شيء ما."
اِبتسم الرجل في رضا عن إجابتي، و استدار إلى زميل له ما انفكّ يكتب على آلة ما، و كأنه يتأكد أنه لم يفوّت شيئا ممّا ذكرت. ثم إنه عاد يتطلّع إليه بهدوئه المهيب، و قال أخيرا :"أنت متّهم بالسرقة الموصوفة."
سرقة؟ متى حصل هذا؟ أنا لا أذكر أنني سرقتُ شيئا. مظاهر الحياة في غرفتي تؤكد كذلك أيضا. لكنّ هؤلاء الرجال يعلمون ما لا أعلم. سألتهم في فضول حقيقيّ :"ماذا سرقتُ؟"
تطلّع بعضهم إلى بعض في قلق، هل هذا الرجل مجنون؟ لستُ مجنونا و لكنّني ـ أعذروني ـ فضوليّ بعض الشيء.
"آسف، أردتُ فقط أن أعرف، لم أقصد أن.."
"الحلم الذي وصفته. أنت تصف بدقة وصفاقة مذهلة المشهد الملحميّ من فيلم "الرجاء الأخير". أنت خرقت قانون الملكية الفكرية، و استعملت مشهدا من إبداع غيرك استعمالا شخصيا من دون إذن صاحبه. هذا يعرّضك لعقوبة بغرامة مالية، و ربما قد تصل الأمور إلى السجن. أنت في ورطة فعلا."
"أنت تعني أن ما حلمتُ به، لا أملكه؟ أعني، لقد كنتُ أنا في الحلم، و لم يكن ذلك الممثل الوسيم. أنا لستُ بوسامته حتى أخلط بيننا، و إلا لما تركتني خطيبتي."
"هل شاهدتَ نفسك في الحلم؟"
"كلا طبعا فأنا أنظر بعينيّ، أعني تقنيا لا يمكنني..."
"و هل أنت واثق من أن تلك الجالسة أمامك كانت خطيبتك؟ هل تذكر جيدا صورتها؟"
"ليس تماما، و لكنني أعرف أنها خطيبتي."
"هذه من ألاعيب العقل، لم تكن خطيبتك، ذهنك يخدعك. نحن نعرف."
هو يعرف طبعا، هو يعرف كل شيء، و الواضح أن معرفته بتفاصيل الحلم أعظم من معرفتي، ربما كانت التفاصيل مسجلة عندهم بإذن قضائيّ طبعا. الخصر الشيطانيّ إذا لم يكن خصرها. هذا يفسّر أشياء كثيرة...
"أنت ذكرتَ بالفعل تفاصيل المشهد تماما كما في الفيلم، المقهى، المقاعد، المرأة، لباسها أيضا كان كما وصفت، و حقوق الملكية مسجّلة و محفوظة باسم الشركة الراعية، و هي كما تلاحظ لا تريد أن تتسامح كثيرا بشأن حقوقها. في الواقع لقد تسامحت كثيرا و تريد أن تضع حدّا للتجاوزات. الناس لا تفهم كثيرا أي مجهود يلقاه الفنانون اليوم كي يبتدعوا شيئا جديدا، كل شيء ابتدع بالفعل، و النقد لا ينفكّ يضيّق فضاء الابداع. بعضهم اعتبر أن كل القصص هي في الأصل قصة واحدة تتكرّر بقوالب مختلفة. صورة تجعل من القصص شيئا مملا. بعضهم حدد عناصر القصة بالفعل، إن خرجتَ عنها فلا يلتفتُ إليك أحد. رياضيا يوجد عدد من محدود من الاحتمالات تحصل عليه من خلط هذه العناصر و مزجها و تركيبها. و مع العدد الضخم من المبدعين اليوم، بات الفنّ عملية شاقة جدا، شركات الانتاج تخاطر بأموالها كي تقدم لك أشياء جديدة، و أقل ما يفعله المرء أن يحترمها."
"و لكنني اشتريتُ ثمن التذكرة بالفعل حينما شاهدتُ الفيلم."
"التذكرة تضمن حق المشاهدة، لا حق استغلال ما شاهدته. إنك تتميّز باستهتار غير مسبوق. اُنظر إلى عدد الاسماء التجارية التي استخدمتها، من سيدفع لها حقوق استخدامها؟ الشركة الراعية تفعل ذلك بالفعل. ألم تفكر بكل ذلك و أنت تحلم؟ ألم تفكر بكل ذلك و أنت تحاول استحضار صورة حبيبتك التي تركتك؟"
"أنا بالفعل لم أفكر في ذلك. معذرة، و لكنني لم أكن أقصد. لقد باغتني الحلم و .."
"هذا ما يقوله المذنبون في كل مرة. لم تكن تقصد. بغير إرادتي. غير متعمّد... يتملّص الإنسان من مسؤولياته ملقيا بها إلى جانبه المظلم. يمارس كل رغباته الشيطانية خلف قناع واع و هادئ و أليف. لم تكن تقصد؟ من أدراك أنك لم تكن تقصد؟ أنت أحببت المشهد بالفعل، شيء ما في جسدك تفاعل مع المشهد هناك في قاعة العرض، و اختزنه في ذهنك، شيء ما رغب في استعادته على هذا النحو، فقط كونك جبانا هو ما جعل تلك الرغبة دفينة، تنصلك من المسؤولية هو ما جعلك "لا تقصد". إن الشعور بالعفوية ضرب من الفشل، أنت شخص فاشل، غير قادر حتى على صنع حلم مبتكر، تسرق أحلامك من صنائع الكادحين."
لسبب ما أجهله، شعرت أنه على حق. ليس فقط لأنّه رجل سلطة وخبير في هذه الأمور. ولكن لأنّ كلامه يبدو عميقا ومهيكلا. على كلّ حال لم يكن ذلك ما كنت أفكر فيه. كما ذكرتُ، أنا شخص فضوليّ، و كان السؤال الذي يجول في ذهني...
"ما شاهدتُه إذا هو ليس لي. ربما لا أمتلك أحلاما، و غير قادر على الحلم. هل سيتغيّر هذا الشعور إذا ما اشتريتُ لي حلما؟ هل سأشعر أنه منّي فقط لأنني دفعتُ ثمنه؟"
"من الجميل أن يعتقد الإنسان أنه يمتلك أحلامه، لكنّ الحقيقة أنه هِـبَـتُها. أنت كشخص سلبيّ ذي طبيعة استهلاكية تعيش أساسا داخل غرفتك. خارجها أنت مختلس تقريبا. كإسفنجة ضخمة تتمسّح على عتبات الشارع الكبير وتمتصّ افرازات الآخرين. تعود إلى غرفتك وأنت تجرّ وراءك أحلام مجتمع بأكمله، أفكاره، مخاوفه، ما يحبّ و ما يكره. يخرج الإنسان الناجح إلى مجتمع يضجّ بأحلام الآخرين، يقترض منها ما يناسب روحه، يعجنها، يقلّبها، ويبثّ فيها شيئا جديدا. أما الآخرون فيكتفون بالالتهام. أنت مثلا. هل تذكر ما راودك من أحلام هذه الليلة عدا هذا المشهد؟ لا داعي للإجابة، فكلانا يعرفها. أنت اخترت النظر إلى الوراء، اجترار ماضيك و تزيين خيباتك ببعض الماس و الملابس الرقيقة. لكنّك حتى في هذه كنت فاشلا. المجتمع يقدم لك مشاريع أحلام مجانية، لكنّك تفضل المشاهد الجاهزة. عموما، هي متوفّرة قانونيا، و يمكن شراؤها كما يمكنني أن أؤكد لك، أنها من الاتقان بمكان فلا تشعرَ إلا أنها نابعة من أعماقك. حتى لو كنتَ تعرف عكس ذلك، فغريزتك المنهزمة ستتكفّل بتزييف الحقيقة."
"و ماذا لو أنني اشتريتُ الحقوق و لم أحلم؟"
"هناك خبراء يمكنهم التحقق إن كان السبب تقصيرا منهم، أم من خلل في جسدك. و اسمح لي أن أخبرك أنك كشخص فاشل، معرّض بشدة إلى هذا الاحتمال. عموما هناك شركات تقدم عروضا غير مكلفة و تضمن لك أحلاما لا باس بها. أحلاما مستعملة مثلا، أو أحلاما من الصنف الثاني."
"أن أشتريَ حلما. ربما كنتُ بحاجة إلى حلم ما حقا... هل يمكنني أن أشتريَ حلما مشخصنا؟ اعني، أختار تفاصيله كما أريد. كما ترى، لستُ خلاقا و لا مبدعا و لكنني كلاسيكيّ."
"هذا ممكن و لكنه مكلف بعض الشيء، ثم إنه يجب أن يمر عبر مكتبنا. نحن نكفل حرية أن تحلم، لكن كما تعلم، بعض الأحلام قد تهدد الأمن القومي. المتهورون كثر، و هم ينصتون كثيرا لأحلام ليست لهم، و أحيانا يسيؤون فهم ما يرون. نحن هنا لنرشد التائهين، أو من يعانون من سوء الفهم المفرط. يمكننا أن نقدم نصائحا لكنّنا لا نحب أن نبدوَ كمن يفرض شيئا ما على المواطنين. سنتركك تختار ما تشاء، ثم نتدخل عند الضرورة."
أومأتُ برأسي في تفهّم، من الواضح أنّ أمثالي يسببون مشاكل ضخمة لهؤلاء السادة المحترمين. شعرتُ بخجل شديد، و الأسوأ أنني لا أملك المال الكافي للاستجابة إلى دعوته. خمّنتُ أن الحياة أهون من الحلم، كلاهما يبدو زائفا، لكن الحياة أقل إثارة و انفعالية. ربما لذلك هي أرخص ثمنا... قلتُ لمخاطبي المحترم إنني أفضل أن أتناول عشائي باكرا و أتأكد من دفء جسمي حينما أنام.
"خيار فيه شيء من المخاطرة. إن أي خطإ سيجعلنا نعود. لا نحب أن نقصّر في عملنا، فالمجتمع في حاجة إلينا."
"و الشركات الراعية أيضا."
"هي جزء من المجتمع، كما ترى، هي خير من يسهر على ابتداع أحلام جديدة للمجتمع. من الجحود انكار هذه الحقيقة. و من الجحود أيضا أن نشجعك أن لا تحلم. لكن إن كنت عاجزا، و لن أستغرب ذلك، فهناك حبوب تضمن لك أن لا تحلم. ثمنها غير مرتفع. المهمّ الآن، كيف تريد أن تدفع الغرامة المالية؟ عبر أقساط أم دفعة واحدة؟
الناشر حاصل على حقوق نشر هذه الصورة طبعا |
فاروق الفرشيشي
16/02/2014
حقوق النشر و التأليف غير محفوظة
حقوق النشر و التأليف غير محفوظة