كانت ردة فعل النهضة على المحاكمات الأخيرة (قيس بن علي، عبد الوهاب عبد الله، الخ) متوقعة جدا و مفهومة، أولا لأنها تعول كثيرا على مبدإ جس نبض الشارع و من ثم تحويل مساره او اتباعه حسب شدة الاجابة، و ثانيا لأنها من عشاق العمل "القعباجي" المبنيّ على سلامة النية و الثقة المتبادلة و "الرجلة".. و هو ما سأبينه لاحقا.. على أن قرار اعفاء الـ81 قاضيا كان مبالغا في القوة و العشوائية، إلى حد لم يمنعني من تخيل هذا المشهد بمجرد أن سمعت الخبر..
السكرتير : سيدي الوزير، أعتقد أن المال لا يكفينا لبقية السنة.
البحيري : مممم، سنطلب من سي حمادي أن يضيف قانون مالية تكميلي كالعادة.
السكرتير : اتصلت بالوزارة الاولى و قيل لي ان هذا مستحيل، يجب ان نتصرف بالمال الذي نملك.
البحيري : مممم، سنطلب من سي حمادي أن يضيف قانون مالية تكميلي كالعادة.
السكرتير : اتصلت بالوزارة الاولى و قيل لي ان هذا مستحيل، يجب ان نتصرف بالمال الذي نملك.
هنا، وقف البحيري و قد اعتراه الاضطراب، بات الأمر يسبب مشكلا حقيقيا إذا، انه لا يكاد يلمس من الحوافز شيئا، رغم عمله الشاق في الوزارة (يجلس على مكتبه منذ السادسة صباحا كما قال وزير التعليم العالي المكافح). عليه ايجاد حل للمعضلة. خصوصا في هذا الظرف السيء الذي يتذمر الكل فيه من مردود القضاء.. عليهم اللعنة، ألا يريدون القضاء مستقلا؟ لماذا يتحمل هو مسؤولية ما يجري في المحاكم؟ إنه حتى لم يشرف على اعداد ملفات القضايا التي قدمت، انهم القضاة، انهم القضاة...
و لمعت عيناه في جذل و قد هو يهتف : القضاة!
السكرتير : عفوا؟
البحيري : القضاة! القضاة هم الحل! هم المشكل و الحل. لقد جنوا على انفسهم على كل حال.
السكرتير : ما دخل القضاة بالـ؟
البحيري : سنعد قائمة أخرى من القضاة لاعفائهم.
السكرتير : و لكننا اعفينا 81 قاضيا في الاسبوع الماضي.
البحيري : نضيف إليهم عددا آخر. هل تعتقد أن الفساد انتهى؟
السكرتير : و لكننا لا نملك دلائل كافية لاعفائهم.
البحيري : و هل كنا نملك حينما أعفينا الآخرين؟ على الاقل نحن متأكدون من تورطهم. اسمع معظم القضاة متورطون لذلك نسبة الخطإ ضئيلة جدا! احضر لي النرد و قائمة القضاة.
السكرتير : نرد؟!
البحيري : اجل الا تعرف النرد؟!
احضر الرجل ما طلب منه رئيسه و هو يتساءل أية فكرة عبقرية سيأتي بها هذا المناضل الفذ.. ففرد الوزير الورقة و قسم الاسماء فيها الى مجموعات سداسية، و تناول النرد و قال "و لا تشاؤون إلا أن يشاء الله." و رمى بالنرد في ثقة ، ثم القى نظرة على القائمة و ابتسم في ثقة و ارتياح و هتف : ألم أقل لك؟! أ رأيت هذا الشخص، انه من مرتزقة القضاء، أنا اعرفه، و أعرف ألاعيبه، لا نملك عنه شيئا لكنني واثق من تورطه! سجل سجل!
السكرتير : و لكن القضاة لا يتـ..
البحيري : يا ولدي اكتب و يزي بلا تمعجين!
و حينما انهى القائمة، تذكر أمر الحوافز، و قال في نفسه ان اعفاء متورط آخر لن يضير شيئا، و 10 قضاة او 11 عشر، الاعفاء هو الاعفاء.. هكذا عاد الى النرد و نظر الى القائمة. كانت الاسم الخامس يحمل اسم رئيسة جمعية القضاة، فتلبد وجهه و لعن الحظ في سره و قال : لنكتف بالقضاة العشر. أعد القائمة، و قل كالعادة اننا نملك الوثائق.
السكرتير : و لكننا لا نملكها يا سيدي.
البحيري (ساخطا) : و هل سننتظر حتى نملكها؟ أكاد اضطر للتنقل بالحافلة يا رجل! حتى النواب رفضوا ذلك ! انا لم أظلم أحدا، هؤلاء خونة و يجب تطهير القضاء منهم! لم أظلم احدا!
البحيري (ساخطا) : و هل سننتظر حتى نملكها؟ أكاد اضطر للتنقل بالحافلة يا رجل! حتى النواب رفضوا ذلك ! انا لم أظلم أحدا، هؤلاء خونة و يجب تطهير القضاء منهم! لم أظلم احدا!
كان لسان حال السكرتير يقول إنه ظلم القانون و حرمته، و إن العشوائية التي يمرر بها و أصحابه القرارات و يعدون بها القوانين ستجعلنا نعول على النية الصادقة و "الرجلة" عوض التعويل على صرامة القانون و عدله. كان لسانه حاله يثرثر بأفكار كثيرة عن الفرق بين الثقة في القانون و الثقة في الافراد، بين من يركبون الحافلة لالتقاط الصور و بين من يركبونها لأن القانون أجبرهم على ذلك. بين من يقيلون المفسدين بجرة قلم، و بين من يعملون لايجاد ما يروطهم و يرسلون ما يدينهم للقضاء ليحكم فيهم.. بين وزارة عدل تهتم بتوفير ما يلزم عمل القضاة و بين وزارة تهتم بعملهم و مردودهم كأنهم يعملون تحت امرتها... لكن الافكار لم تتجاوز ذهنه لأنه تذكر عياله و مطالبهم التي لا تنتهي، فابتسم في ارتباك و تناول القائمة الجديدة و مضى لشأنه..
أما أنا ففرغت من خيالاتي و شرودي، و انا اتساءل ان كان السكرتير من جماعة المؤتمر أم التكتل..