و خير جليس في الزمان كتابُ!
ردّدتها في حماس مرزوقيّ متفائل و انا اتأبط كتابي إلى خارج المنزل.. اليوم سنعلن عن وجودنا نحن اصحاب هذه العادة السرية المخجلة .. سنمارس اليوم شعيرتنا على الملأ بعدما اضطهدنا سنينا و سنين.. وداعا لاعوام المهانة و التهكم.. وداعا لايام الرعب و القراءة ليلا تحت اللحاف.. و اخفاء ما ملكت يميني من كتب عن الرفاق . اليوم سأعلنها و ليذهب الكافرون به إلى الجحيم...
أي موقف ذاك الذي وقفته أمام أبويّ و أنا اصارحهم بالحقيقة!
"أنا قارئ"
"ما أنت بقارئ!"
"أنا قارئ"
"ما أنت بقارئ! لم نر منك كتابا و لا صحيفة، و كنت دوما مطيعا لا تعرف غير كتب الدراسة"
و حينما رأوا "عودة الروح" بين يدي.. ذهبت الروح عن وجوههم .. و ضرب أبي بكفيه في أسى و مضى مكرّرا "ضاع ابنك يا امرأة.."
كنت قد قررت أن أمارس شعيرة طالما حلمت بها : أن أقرأ في الحافلة.أجل، تماما كما يفعل الناس في أوروبا واليابان! وما يضيرني أن أفعل ذلك؟ هي ذي الحافلة قادمة، وهو ذا كتابي في يدي. على بركة الله!
كنت أتخيّر في مخيّلتي أيَّ مقعد سأتخذه في الحافلة. وراء السائق، حيث يصطف كبار السن، عند نافذة مفتوحة، حتّى أنعم بشمس الفكر وشمس البلاد، أو في مقعد خلفي معزول عن الآخرين... الآخرين! الآخرون طرقوا باب مخيلتي في عنف و خلعوه، و اقتحموا الحافلة وأفكاري بنفس الحماس! "بالشوية! بالشوية!" كان من يصيح بها هو نفسه يدفع امرأة من أمامه و يعصرني على باب الحافلة بمنتهى الاتقان و التفاني! بينما امرأة أخرى تصرخ بما أتاها الله من دعوات صباحية مباركة أغدقتها على الجميع... ربّاه! هل أنا في الحافلة؟ كيف حدث هذا؟ أي سرّ بديع وراء هذا الالتحام البشري المهيب الذي يدخل به الناس الى الحافلة؟! هكذا من دون أن تحرك قدميك، تتلاقفك الأجساد بفعل الحبّ والعناق والقصور الذاتي إلى داخل الحافلة، فتجد نفسك في المكان الذي يجب أن تجلس فيه... أعني تقف فيه.
لم يكن المكان مختلفا جدا عن ما رسم بمخيلتي. صحيح أنني لا أرى الشمس، ولكن الحرارة متوفرة بكثافة. وصحيح أنني بعيد عن السائق ولكن صراخه يبلغ مسمعي. كما أنّني وإن لم أكن بمعزل عن الناس، فوضعيتي وسط كومة الأجساد ما كانت لتسمح بالاهتمام بهم... لا بأس، لن يفلّ عزمي، وسأقرأ هنا! أين يدي اليمنى؟ اه الكتاب في يدي اليسرى، رفعت الكتاب الى أقصى ما تسمح به المساحة، لم أرَ الغلاف، من الواضح أنه لم يرافقني في غمرة الدخول الثوري. لا بأس، لا تهم القشور، لأقرأ، لأقرأ، لأثبت لهؤلاء أن خير جليس (حتى وقوفا) في الزمان كتاب! أنه يمكننا أن نعيش كالألمان و السويديين و البريطانيين، وأننا لا نفوقهم تحضرا لو قررنا ذلك!
لم أكن محتاجا للاعتماد على عمود ما لاجد توازني، فكومة الأجساد لا تسمح بالسقوووووووووووووووووووط.. "بالشوية!" صرخ بها أحدهم و قد وجدت نفسي ملقيّأ عليه... إنه منعرج أحب السائق أن يمتعنا به. اِعتذرت وأخفيتُ الكتاب عن ناظريه. كنتُ أبحث مرّة أخرى عن العمود الذي حدّثونا عنه في الأساطير، حينما عرجت الحافلة يسارا وفي هذه المرة، كانت امرأة بين ذراعيّ... نظرت إليّ في استنكار وخيّل إليّ أن الكارثة ستحدث، لكنّها أشاحت بعينيها في استسلام لقدرها البائس وحاولت أن تجد لها مكانا بعيدا عن المتحرّشين أمثالي. أردتُ أن أخبرها أنها هي من ارتمت عليّ وليس العكس، أردتُ أن أخبرها أنّ آخر ما أرغبُ فيه هو التحرّش بوحش لوخ نس في ظروف كهذه، لكنني أعرف "شهامة" الرجل التونسي. لو أعجبتْ أحدَهم هنا، فلن يترك لي فرصة شرح ما حدث، وسيبدي لها من البطولات ما يحرّر القدس... سأقرأ، سأقرأ!
"خويا تونس؟"
كان هذا مراقب التذاكر! كيف وصل إلى مكاني؟ ربُّك الجبار أعلم! هو الشخص الوحيد الذي يرى الحافلة بشكل كنيسة، المؤمنون الفرحون يمينا يسارا والبساط الأحمر بينهما يخطو عليه ويسأل الناس في تودد و حنان... "تي نكلم فيك! ما تسمعش؟!"
"اه سامحني، تونس تونس!"
لكن المشكلة بالنسبة لي، كانت البحث عن طريقة أخرج بها المال من جيبي... أين أنت يا توم كروز! كيف تفعل مثل هذه المستحيلات؟! أين جيبي؟ أين جيبي؟ "تي هيا!" هاهو الجيب! ولكنّ أحدهم صرخ بصاحبه المستند إلى كتفي : "صاحبي، باش ينشلك!" اِستدار الرجل إليّ مذعورا وهمّ بالمسك بقميصي حينما صرخ المراقب "تي جيبُه هو موش جيبك! دور أخطانا مالمشاكل!"
"وين تعرف على البلاء؟ قداش مقرين؟"
نجوت من مشكلة جديــــــــــــــــــــــــــــــــــ... عفوا ... ــدة.. توقفت الحافلة، و بدأ صراع الطّلوع و الهبوط، تماما كما في كرة القدم التونسية، كلُّ السبل متاحة حينما يفتح الجحيم أبوابه، و مع الغبار المتصاعد، خلتُ أنّ هناك من ألقى بالشماريخ بالفعل! لكنني سأقرأ! دفعني أحدهم وسط محاولاته البائسة بلوغ الباب قبل أن يغلق، و رمقني آخرُ بنظرة فيها صبر كثير وتجلّد وقد وطأتُ قدمه، و لكنّني سأقرأ... وعاد المراقب إليّ وهو يصرخ " باش تخلص توة و الا نهبطك؟" أنزل قبل أن أقرأ في الحافلة؟ هذا محال! مرة أخرى تمتدّ إلى جيبي وعيناي ترقبان لألّا أخطئ الجيب فتحدث الكارثة. قدّمت له ما تيسر من المال، فأعاد إليّ ما تعسّر على جيبي من العملات: رجّة أخرى، وفتًى يرتطم بيدي فتنتثر العملات ضاحكة برنّتها الساخرة على قاعة الحافلة... و تذكّرت عنوان الفليم الشهير "Catch me if you can."
لا أقدر طبعا، و قلت، ربما في المحطات القادمة ستخف الوطأة، ويمكنني التقاط العملات... ناولني المرقب تذكرتي، فحاولت أن أضعها بين صفحات الكتاب، وأقرا... كان الكتاب قد استحال إلى كومة أوراق بائسة، و اكتساه العرق من كل عابر سبيل التصق به، لا يهم، إني لقارئه!
"يا ولدي مشني مخلص، بالسيف؟ ثورة قامت والكيران ما حبتش تتصلح؟ الى متى؟!"
"مالي و مال الثورة يا ولدي؟ برة اعتصم هاوكة الوزارة قدامك، تدخل لكار أنا فيها، تخلص يا ولدي."
"مشني مخلص، هاو حومة موشنا مخلصين، باهي؟"
"يا حمادي دور للمركز دور!"
وتعالى صراخ الناس مطالبة بالتجاوز، لكن من الواضح أن الأمر لن يمر بسلام! وتدخل بعضهم يحاول الحسم، بل إنّ أحدهم اقترح أن يدفع من جيبه فقط كي تستمر الحافلة في طريقها لأنه تأخر كثيرا عن العمل. لكن بدا أنّ الخصمين رجلا مبادئ، ولن يحيد أحدهما عن رأيه، وارتفع الصراخ من هنا وهناك، والحافلة تعرج إلى قسم الشرطة... كنت أحب أن أقول إنّ الفوضى عمّت المكان، وإنّ الهرج والمرج صارا طاغيين، لكنّي للاسف لم ألاحظ تغييرا فالفوضى حاصلة والهرج والمرج هما طبيعة الأشياء هنا...
"أيا اهبط!"
إذا ما أنا بقارئ فعلا! تماما كما قال لي والداي... ما أنا بقارئ والفوضى تعمّ الثورة، ما أنا بقارئ والحافلة الصفراء تحاول جاهدة الانتحار يسارا أو يمينا، ما أنا بقارئ مادام بعضنا يركب هذه الحافلة و يرفض مدها بمال الوقود، ومادامت هي تأخذ منا أكثر مما تقدم لنا... في هذه الحافلة تُفتك المقاعد، و يتحرش الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ويشتمك من دفعك، ويسحب الناس بعضهم بعضا سحبا إلى اليمين، ثم يدفعونهم دفعا إلى اليسار... في هذه الحافلة الركوب للاقوى، والنزول لمن يحسن المراوغة، والمال للنشال والمراقب، والمصير بيد السائق وحده... مادامت الحافلة صفراء معلولة، ومادامت الرحلة بهذه الفوضى، فما أنا بقارئ أبدا... وعليّ المراوغة و النزول...
وقبل وصول الحافلة الى المركز، اِنفتحت الأبواب لنزول بعضهم، و نزلنا. لم أجد بقية مالي، فابتسمت ساخرا "يا للمفاجأة!" و تأملت ما بقي من "عودة الروح" فصمتت في حزن، والتساؤل يكبر فيّ "متى تعود الروح؟" هنا رأيت فتاة تدخل إلى الحافلة وكتاب في يدها. ملت برأسي لأرى العنوان. وابتسمت و أنا أقرأ :"عصفور من الشرق." .. فقلت في نفسي مبتعدا : عسى ذلك يوما...
ردّدتها في حماس مرزوقيّ متفائل و انا اتأبط كتابي إلى خارج المنزل.. اليوم سنعلن عن وجودنا نحن اصحاب هذه العادة السرية المخجلة .. سنمارس اليوم شعيرتنا على الملأ بعدما اضطهدنا سنينا و سنين.. وداعا لاعوام المهانة و التهكم.. وداعا لايام الرعب و القراءة ليلا تحت اللحاف.. و اخفاء ما ملكت يميني من كتب عن الرفاق . اليوم سأعلنها و ليذهب الكافرون به إلى الجحيم...
أي موقف ذاك الذي وقفته أمام أبويّ و أنا اصارحهم بالحقيقة!
"أنا قارئ"
"ما أنت بقارئ!"
"أنا قارئ"
"ما أنت بقارئ! لم نر منك كتابا و لا صحيفة، و كنت دوما مطيعا لا تعرف غير كتب الدراسة"
و حينما رأوا "عودة الروح" بين يدي.. ذهبت الروح عن وجوههم .. و ضرب أبي بكفيه في أسى و مضى مكرّرا "ضاع ابنك يا امرأة.."
كنت قد قررت أن أمارس شعيرة طالما حلمت بها : أن أقرأ في الحافلة.أجل، تماما كما يفعل الناس في أوروبا واليابان! وما يضيرني أن أفعل ذلك؟ هي ذي الحافلة قادمة، وهو ذا كتابي في يدي. على بركة الله!
كنت أتخيّر في مخيّلتي أيَّ مقعد سأتخذه في الحافلة. وراء السائق، حيث يصطف كبار السن، عند نافذة مفتوحة، حتّى أنعم بشمس الفكر وشمس البلاد، أو في مقعد خلفي معزول عن الآخرين... الآخرين! الآخرون طرقوا باب مخيلتي في عنف و خلعوه، و اقتحموا الحافلة وأفكاري بنفس الحماس! "بالشوية! بالشوية!" كان من يصيح بها هو نفسه يدفع امرأة من أمامه و يعصرني على باب الحافلة بمنتهى الاتقان و التفاني! بينما امرأة أخرى تصرخ بما أتاها الله من دعوات صباحية مباركة أغدقتها على الجميع... ربّاه! هل أنا في الحافلة؟ كيف حدث هذا؟ أي سرّ بديع وراء هذا الالتحام البشري المهيب الذي يدخل به الناس الى الحافلة؟! هكذا من دون أن تحرك قدميك، تتلاقفك الأجساد بفعل الحبّ والعناق والقصور الذاتي إلى داخل الحافلة، فتجد نفسك في المكان الذي يجب أن تجلس فيه... أعني تقف فيه.
لم يكن المكان مختلفا جدا عن ما رسم بمخيلتي. صحيح أنني لا أرى الشمس، ولكن الحرارة متوفرة بكثافة. وصحيح أنني بعيد عن السائق ولكن صراخه يبلغ مسمعي. كما أنّني وإن لم أكن بمعزل عن الناس، فوضعيتي وسط كومة الأجساد ما كانت لتسمح بالاهتمام بهم... لا بأس، لن يفلّ عزمي، وسأقرأ هنا! أين يدي اليمنى؟ اه الكتاب في يدي اليسرى، رفعت الكتاب الى أقصى ما تسمح به المساحة، لم أرَ الغلاف، من الواضح أنه لم يرافقني في غمرة الدخول الثوري. لا بأس، لا تهم القشور، لأقرأ، لأقرأ، لأثبت لهؤلاء أن خير جليس (حتى وقوفا) في الزمان كتاب! أنه يمكننا أن نعيش كالألمان و السويديين و البريطانيين، وأننا لا نفوقهم تحضرا لو قررنا ذلك!
لم أكن محتاجا للاعتماد على عمود ما لاجد توازني، فكومة الأجساد لا تسمح بالسقوووووووووووووووووووط.. "بالشوية!" صرخ بها أحدهم و قد وجدت نفسي ملقيّأ عليه... إنه منعرج أحب السائق أن يمتعنا به. اِعتذرت وأخفيتُ الكتاب عن ناظريه. كنتُ أبحث مرّة أخرى عن العمود الذي حدّثونا عنه في الأساطير، حينما عرجت الحافلة يسارا وفي هذه المرة، كانت امرأة بين ذراعيّ... نظرت إليّ في استنكار وخيّل إليّ أن الكارثة ستحدث، لكنّها أشاحت بعينيها في استسلام لقدرها البائس وحاولت أن تجد لها مكانا بعيدا عن المتحرّشين أمثالي. أردتُ أن أخبرها أنها هي من ارتمت عليّ وليس العكس، أردتُ أن أخبرها أنّ آخر ما أرغبُ فيه هو التحرّش بوحش لوخ نس في ظروف كهذه، لكنني أعرف "شهامة" الرجل التونسي. لو أعجبتْ أحدَهم هنا، فلن يترك لي فرصة شرح ما حدث، وسيبدي لها من البطولات ما يحرّر القدس... سأقرأ، سأقرأ!
"خويا تونس؟"
كان هذا مراقب التذاكر! كيف وصل إلى مكاني؟ ربُّك الجبار أعلم! هو الشخص الوحيد الذي يرى الحافلة بشكل كنيسة، المؤمنون الفرحون يمينا يسارا والبساط الأحمر بينهما يخطو عليه ويسأل الناس في تودد و حنان... "تي نكلم فيك! ما تسمعش؟!"
"اه سامحني، تونس تونس!"
لكن المشكلة بالنسبة لي، كانت البحث عن طريقة أخرج بها المال من جيبي... أين أنت يا توم كروز! كيف تفعل مثل هذه المستحيلات؟! أين جيبي؟ أين جيبي؟ "تي هيا!" هاهو الجيب! ولكنّ أحدهم صرخ بصاحبه المستند إلى كتفي : "صاحبي، باش ينشلك!" اِستدار الرجل إليّ مذعورا وهمّ بالمسك بقميصي حينما صرخ المراقب "تي جيبُه هو موش جيبك! دور أخطانا مالمشاكل!"
"وين تعرف على البلاء؟ قداش مقرين؟"
نجوت من مشكلة جديــــــــــــــــــــــــــــــــــ... عفوا ... ــدة.. توقفت الحافلة، و بدأ صراع الطّلوع و الهبوط، تماما كما في كرة القدم التونسية، كلُّ السبل متاحة حينما يفتح الجحيم أبوابه، و مع الغبار المتصاعد، خلتُ أنّ هناك من ألقى بالشماريخ بالفعل! لكنني سأقرأ! دفعني أحدهم وسط محاولاته البائسة بلوغ الباب قبل أن يغلق، و رمقني آخرُ بنظرة فيها صبر كثير وتجلّد وقد وطأتُ قدمه، و لكنّني سأقرأ... وعاد المراقب إليّ وهو يصرخ " باش تخلص توة و الا نهبطك؟" أنزل قبل أن أقرأ في الحافلة؟ هذا محال! مرة أخرى تمتدّ إلى جيبي وعيناي ترقبان لألّا أخطئ الجيب فتحدث الكارثة. قدّمت له ما تيسر من المال، فأعاد إليّ ما تعسّر على جيبي من العملات: رجّة أخرى، وفتًى يرتطم بيدي فتنتثر العملات ضاحكة برنّتها الساخرة على قاعة الحافلة... و تذكّرت عنوان الفليم الشهير "Catch me if you can."
لا أقدر طبعا، و قلت، ربما في المحطات القادمة ستخف الوطأة، ويمكنني التقاط العملات... ناولني المرقب تذكرتي، فحاولت أن أضعها بين صفحات الكتاب، وأقرا... كان الكتاب قد استحال إلى كومة أوراق بائسة، و اكتساه العرق من كل عابر سبيل التصق به، لا يهم، إني لقارئه!
"يا ولدي مشني مخلص، بالسيف؟ ثورة قامت والكيران ما حبتش تتصلح؟ الى متى؟!"
"مالي و مال الثورة يا ولدي؟ برة اعتصم هاوكة الوزارة قدامك، تدخل لكار أنا فيها، تخلص يا ولدي."
"مشني مخلص، هاو حومة موشنا مخلصين، باهي؟"
"يا حمادي دور للمركز دور!"
وتعالى صراخ الناس مطالبة بالتجاوز، لكن من الواضح أن الأمر لن يمر بسلام! وتدخل بعضهم يحاول الحسم، بل إنّ أحدهم اقترح أن يدفع من جيبه فقط كي تستمر الحافلة في طريقها لأنه تأخر كثيرا عن العمل. لكن بدا أنّ الخصمين رجلا مبادئ، ولن يحيد أحدهما عن رأيه، وارتفع الصراخ من هنا وهناك، والحافلة تعرج إلى قسم الشرطة... كنت أحب أن أقول إنّ الفوضى عمّت المكان، وإنّ الهرج والمرج صارا طاغيين، لكنّي للاسف لم ألاحظ تغييرا فالفوضى حاصلة والهرج والمرج هما طبيعة الأشياء هنا...
"أيا اهبط!"
إذا ما أنا بقارئ فعلا! تماما كما قال لي والداي... ما أنا بقارئ والفوضى تعمّ الثورة، ما أنا بقارئ والحافلة الصفراء تحاول جاهدة الانتحار يسارا أو يمينا، ما أنا بقارئ مادام بعضنا يركب هذه الحافلة و يرفض مدها بمال الوقود، ومادامت هي تأخذ منا أكثر مما تقدم لنا... في هذه الحافلة تُفتك المقاعد، و يتحرش الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ويشتمك من دفعك، ويسحب الناس بعضهم بعضا سحبا إلى اليمين، ثم يدفعونهم دفعا إلى اليسار... في هذه الحافلة الركوب للاقوى، والنزول لمن يحسن المراوغة، والمال للنشال والمراقب، والمصير بيد السائق وحده... مادامت الحافلة صفراء معلولة، ومادامت الرحلة بهذه الفوضى، فما أنا بقارئ أبدا... وعليّ المراوغة و النزول...
وقبل وصول الحافلة الى المركز، اِنفتحت الأبواب لنزول بعضهم، و نزلنا. لم أجد بقية مالي، فابتسمت ساخرا "يا للمفاجأة!" و تأملت ما بقي من "عودة الروح" فصمتت في حزن، والتساؤل يكبر فيّ "متى تعود الروح؟" هنا رأيت فتاة تدخل إلى الحافلة وكتاب في يدها. ملت برأسي لأرى العنوان. وابتسمت و أنا أقرأ :"عصفور من الشرق." .. فقلت في نفسي مبتعدا : عسى ذلك يوما...