يمكن أن نلحظ في الفلمِ صيغتيْن من الوثائقيّات كما حدّدها الناقد بيل نيكولز Bill Nichols3. أكثرُها بداهة الصيغة التشاركيّة Participatory، لوجود تفاعل مباشر بين المخرجة وموضوع بحثها: ألفة وابنتاها. وهو تفاعلٌ محدودٌ، لا نرى من طرفيْهِ في إطار الصّورةِ سوى الموضوعِ، وتكتفي الأولى بصوتِها. ربّما لتتنصّل من حقيقةِ حضورِها القويِّ والمؤثّرِ، وبالتّالي حضورِ رؤيتِها الشخصيّةِ للأحداثِ التي يرويها أصحابُها. فكأنّ الروايةَ روايتُها، ولكن بلسانِ بطلاتِها.
وتمتزجُ هذه الصيغةُ بصيغة أخرى أقلَّ شيوعا وأكثر إرباكا هي الصيغة الانعكاسية Reflexive mode. ففي لحظاتٍ متواترةٍ، ينقلبُ اهتمامُ الفلمِ إلى ذاتِه، ويتحوّل موضوع الكلامِ إلى تساؤلٍ حول موضوعِ الكلام. وهاهي بن هنية في مشهد الفلمِ الاستهلاليِّ، تشرح لبطلاتِها طبيعة الفلمِ ذاتِه وأدواته. وها هي إحدى شخصيات الفلم (آية) تعبّر عن حاجتها للمشهد الذي قُطِع تصويرُه… ضربٌ من التقعير4 المُربِكِ لما يتظاهرُ بأنّهُ كواليسُ فلمٍ داخلَ الفلمِ، فإذا هو كواليسُ ذاتِه.
تعدُنا بن هنيّة باستبدالِ ألفة الحمروني بهند صبري في المشاهد الّتي تتطلّبُ ممثّلا محترفا، لكنّ المشاهدَ "القويّة" لا تأتي، وإذا بالنّجمة التونسيةِ المصريةِ بطلةٌ لفلمٍ وهميٍّ. وإذا المُخرجةُ تؤكّد، في لقاء صحافيّ، أن المشاهد التمثيليّة، مجرّدُ محفّزاتٍ مقصودةٌ لتحريرِ الحقيقةِ من مكابحِ العلاقات الطبيعيّة (الأمومة) والاجتماعية (امرأة مطلقة في مجتمع محافظ) والإيديولوجية (علاقتُها بالتطرّف الديني) الّتي تضغط على حنجرتِها.
الخطّةُ ذكيّةٌ، وتجلّت أكثر من مرّة. مثلا في مشهدِ ليلة الدّخلةِ حين وقفت ألفة أمام الباب غرفة النوم متابعةً أداءَ هندٍ لشخصيّتِها، مصوّبةً أحيانا، مقترحةً أحيانا أخرى، حتّى تخرجَ الحادثةُ للمشاهدِ بكاملِ جرأتِها وجماليّتها. ومرّة أخرى في مشهدِ مواجهة المغتصبِ، حين جلست البنتانِ قبالةَ زوج أمِّهما، بل قبالةَ مجد مستورة الممثّل الّذي أدّى الدّورَ. فباحتا أمامَه بما وكأنّه يفوق طاقة احتمالِه. وانقلبت الأدوارُ فكأننا بهما مؤدّيتانِ وكأننا بهِ يتذكّرُ. أمّا المرّةُ الأبلغ برهانا على قدرة "الخياليِّ" على التحفيز على البوحِ، فهي حتما لحظة الصّدامِ بين آية وأمّها. إذ استذكرت رغبتها العابرةَ في تعنيفِها ردّا على شتائمها المهينةِ. ولمّا أثار البوحُ حفيظةَ الأمِّ، وذكّرتها بطبيعة العلاقة بينهما، أجابتها بأنّه فلمٌ وأنّها الآن تؤدّي دورها. فهل يمكنُ للمرء أن "يؤدّيَ" perform شخصيّتَه الحقيقيّةَ في فلمٍ وثائقيٍّ؟
لقد حدث أن جسّد بعضهم ذواتِهم الحقيقيّةَ في أفلامٍ خياليّةٍ. ومثلُ ذلك، جون مالكُفتش John Malkovich في رائعة سپايك جونز Spike Jonze الشهيرة5. ومثلها توجدُ في أفلامِ السيرةِ Biography، مثل التحفة البرازيليّة جبريل والجبل Gabriel e a montanha6. أما في الأفلام الوثائقيّة، فلا يُفترضُ من أبطالها أن "يؤدّوا". هكذا، يتّخذ بنات ألفة موضعا فريدا في طيفِ الصّورةِ السينمائيّةِ بين طرفيْ الخيالِ والتوثيقِ. وفي موضعٍ مقابلٍ تماما، أجدُني أستحضرُ الفلمَ الأيقونيَّ "لقطة مقرّبة" (كلوزآپ) للمخرج الكبير عبّاس كيارستمي. فهو فلمٌ خياليّ fiction بالأساسِ ممزوجٌ بمشاهد وثائقيّةٍ. ويحيلُنا هذا التقابلُ إلى تصنيفات الفلمِ الهجينِ.
في معجم المصطلحاتِ، يمكن أن نعتبر فلمَ كيارستمي أقربَ إلى الدراما الوثائقيّة7 Docudrama، فهو إعادة تمثيل Reenactment للوقائع بأسلوبٍ دراميٍّ، لتعويض الجزء الّذي لم تروِه المقاطعُ الوثائقيّةُ من أحداثٍ. أمّا في بنات ألفة، فلا توجدُ مشاهدُ إعادة تمثيلٍ، بل هي مشاهدُ تصويرِ مشاهدِ إعادة التمثيلِ. وحتّى أوضّح، فالدّأبُ في مشاهد إعادةِ التمثيلِ أنّ الأحداثَ تسبقُ زمنَ التصويرِ. أما في مشاهدِ بنات ألفة، فزمن الأحداث هو نفسه زمن التصوير. لا يوجدُ مشهد دخلةٍ، بل يوجدُ مشهدُ تصويرِ مشهدِ الدّخلةِ! وإمعانا في التعقيدِ، فنحن لا نعرفُ يقينا إن كانت أحداثُ زمن التصويرِ عفويّةً كلُّها أم معدّا بعضُها سلفا. وربّما تدفعني هذه الضبابيّةُ إلى أن أذهب بفلمِ بناتِ ألفة إلى صنف الخيالِ الوثائقيِّ Docufiction، حيث يتمُّ إقحامُ عناصر/مواقف خياليّة وسط بناءٍ وثائقيّ. هل انزعج مجد مستورة حقّا من دورهِ؟ وهل تاهت هند صبري في ضباب دورِها البسيط أم إنّ توهانَها عمادُ دورِها؟ وهل فكّكتْ ألفة وابنتاها مشاكلهنّ العميقةَ بتلك البلاغةِ دون همسة في الأذن؟ لا أملك إجابات قاطعةً، على أنني أميل إلى فكرة العفويّةِ الموجّهةِ، والمصادفةِ المخطَّطِ لها. لقد وصفَ أحد النقاد الفرنسيّين مشهدَ الإحماءِ المسرحيِّ بعديم النفعِ، والحالُ أنّه أحد المشاهد المفتاحيّةِ للفلم، فهو يلمّحُ إلى أنّ الأداء التمثيليَّ لم يقتصر على نور القروي وإشراق مطر(وهما اللتان أدتا دور الأختين الكبريين)، بل قد يشمل آية وتيسير أيضا. والفلمُ بذلك طبقاتٌ كثيفةٌ من البحث التجريبيِّ المثيرِ بين الخيال والواقعِ وبين الرواية والتوثيقِ. وهي عمليّةٌ جديرةٌ بصاحبةِ شلاط تونس وزينب تكره الثلج وعلى كف عفريت.
بنات ألفة محاولةٌ جريئةٌ لإبرازِ دورِ الخيالِ في رصدِ الحقيقةِ وتحفيزها. إذ لم يكن تمرينُ التذّكرِ كافيا للعائلةِ المكلومة، فكان ضروريّا تجسيد الذكرياتِ ودمجُها في مواقف متخيّلة أحيانا. فلم يحدث أن جلست آية وتيسير إلى زوج أمِّهما لتعلنا رأيهما فيه وفي جرائمه البشعة. ولكنّ تأدية المشهد المتخيّلِ ساعدَ على بوحٍ حقيقيٍّ لا خيال فيه.
المشكلةُ هنا، أن كوثر بن هنية لم تجرؤ على الخيال الوثائقيِّ كما تنبغي لها الجرأةُ. فآثرت على تصويرِ المشاهدِ، تصويرَ تصويرِها، وفضّلت على الفلمِ كواليسَه، وأبدت ارتباطا قويّا بلغة التوثيقِ حتّى وهي تسوّقُ لقيمةِ الخيالِ. بإدماج الكواليس ونقاشات ما قبل التصوير وما بعده، تشكلت مسافة ضخمة بين المتفرّجِ ولقطات إعادة التمثيلِ، فجاءت مهزوزةً شديدة الزيفِ لا تكادُ تنطلي على ألفة وبناتِها فما بالك بالمتفرّجِ؟ لقد وجدتُني أعيش تجربةً عكسيّةً لما تعيشُه البطلات داخل الفلمِ من تأثّرٍ بالمقاطِع المتخيّلة ومن استعدادٍ للبوحِ. فإذا كان الخيالُ fiction محفّزا على الحقيقة، فقد كان التوثيقُ الحقيقةَ عينَها.
يعرفُ الجميعُ ما حصلَ لألفة وبناتِها دون الحاجة إلى الوثائقيِّ. ليس فقط للاهتمام الإعلاميِّ الّذي عرفته حكايتُها في منتصف العقد الماضي، بل أيضا لحسن إيجازها (الحكاية) في كلمات بسيطة في افتتاحية الفلم: "ألفة عندها أربعة بنات، الزوج الصغار آية وتيسير مازالوا عايشين معَها، والزوج الكبار، رحمة وغفران، كلاهم الذيب". ويقترن الحديثُ عن الذئب بصورِ البنتيْنِ بحجاب أسودَ لا يصعب تأويلُ رمزيّته. هذه حكايةٌ أخرى عن الفقر والشباب والتطرّف والوقوع في براثن الإرهابِ. تيمةٌ يكرِّرُها التونسيّون في أفلامهم بإصرارٍ منذ "آخر فلم" للنوري بوزيد (سنة 2009). لكنّ بن هنية لا تهتم إلا عرضًا بتجنيد رحمة وغفران، ولا تلقي بالا لشبكات التسفير أو ما شابه. بل توجّه اهتمامها الكلّيّ للأمّ وتجربة تربية بناتِها الأربع التي انتهت بها إلى ما انتهت عليه. تصنع من عناصر حكايتِها سرديّةً نسويّةً محضةً. فتخلصُ بها إلى أنّ ألفة ليست فقط ضحية نظامٍ ذكوريٍّ يستعبدُ المرأةَ ويدجِّنُها عبر رموز ثقافيّةٍ متنوعة، وعبر أدواتٍ أبرزها الخوفُ. وإنّما تحوّلت إلى آلةٍ مفيدةٍ لإعادةِ إنتاجِه (النظام).
لم تختر عبثا حكايات ألفة السابقةَ لزواجِها. بل انتقت منها ما يصلح فكرةً أوليّةً عن الشخصيّةِ. نعرف أنّها من وسط شعبي فقيرٍ وخطرٍ. ونعرفُ أنها اضطرّت إلى تعويض "الرجال" لحماية أمّها وحماية نفسها. فكبرت وسط شعورٍ دائمٍ بالخطرِ. ولم يفلح زواجُها في القطع مع المحنة بل زادها سوءا منذ الليلة الأولى. وكانت ردّة فعلها على ما فيها من طرافةٍ، تبطن المأساةَ القادمةَ. فدمُ العنفِ الذي أعلِن للناس يومئذٍ، كان الدم المؤسس للعائلة الجديدةِ. وجاءت بناتُها الأربع قرابين له. هنا أيضا، تقف كوثر بن هنية عند محطاتٍ دون غيرها، فرقة الاستعراض (Majorette)، حادثة صورة الفخذ، حادثة ضرب الأم لغفران، فتطرح عبرها على مستجوباتِها أسئلة بريئة في ظاهرها. وفي باطنها باب للجدالِ بين الأمّ وبنتيها حول مواضيع متنوّعة كالتربية والجنس والحبّ والجسد والتاريخ… فنتبيّنُ منها كيف تستبطن ألفة الفكرَ الذكوريَّ وكيف تقطعُ بناتُها معهُ.
كلُّ شيء في القصّةِ موجّهٌ نحو سرديّةٍ نسويّةٍ ألمّت المخرجةُ بمختلف أوجهها النظرية. وكلُّ المواضيع المطروحةِ للنقاشِ، كانت تحاولُ إما عبر الشخصيات الحقيقية أو عبر الممثلاتِ، أن تُسقط هذه السّرديّةَ على حياةِ البطلةِ وبناتِها. يأخذ جميعُ الرجالِ شكلاً واحدا، هو شكلُ مجد مستورة. ولئن حاول في لحظتيْن خارج مشاهد إعادة التمثيلِ، أن يستدرجَ شخصيّته الحقيقية كرجلٍ غير ذكوريٍّ (مشهد حديثه مع هند حول وصم الممثلات واستثناء الممثلين)، فإنّه لم يفلح في كسر قوّة الرمزية التي يمثّلها أداءُ رجلٍ واحدٍ كلَّ الشخصيّات الذكوريّةِ المؤذية. كلُّ الرجال سيّئون، كذا تخبرنا بن هنية. المتفقّهون في الدين؟ تجّار منافقون. جسدي؟ ملكي أنا وليس ملكا لأحد. ونحصل في النهاية على القراءة النسوية المنشودة: الذكورية هي فنّ صناعة الخوفِ، تنشأ المرأة في هذا المجتمع مواجهةً تهديدات معنوية وجسدية مستمرّة، حتى تجنح إلى الزاوية التي أريدَ حشرُها فيها: حجاب، وزواج، وقرار في البيت، وانصياع وتفريخ. وفي كلّ مرة حاولت فيها ألفة التمرّد، كان هناك رجل جاهزٌ للتهديد وإعادة "النظام"، حتّى يحصل الإشراطُ البافلوفي Pavlovian Conditionning وتصبح ألفة نفسها حارسة المعبد، وتمارس التهديد والتعنيف تجاه بناتِها حتى ينزلن في المنزلة نفسها.
على أنّ البناء الأنيق المنسجم يخلّف شعورا قويا بانتقائية التاريخ الذي تأسس فوقه. فطوّع مأساة ألفة من أجل قراءة اختزالية ذات وجه واحد أحد. فإذا نحن أمام أمثولةٍ Allegory وثائقية، ولسنا أمام سيرة مدهشة متشعبة الأوجه. لا تخبرنا ذكرياتُ ألفة عن أثر التحولات الاقتصادية في نهاية التسعينات على حياتِها، ولا عن تأثير اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية على تضاؤل شركات النسيج في منطقة الساحل، وارتفاع نسب البطالة في بداية الألفينات، وما سببه من انتشار للعنف والجريمة والمخدرات بأنواعها. لقد اكتفت المخرجة في مشهد ساخر بالإشارة إلى كذبة الأمن في زمن بن عليّ، ولكنها أمام حنين بطلتها لزمن لم تعرف فيه خطر الإرهابيين، لم تسعَ، كما فعلت في مواضيع أخرى، إلى الإيحاء لها بالعلاقة السببية القوية بين فساد النظام السابق وبين استشراء الإرهاب في زمن النظام الموالي.
تمتدّ السردية النسوية إلى ما بعد ألفة، فتقترح أيضا تفسيرها لتطرّف رحمة وغفران. هذان الفتاتان اللتان كبرتا في كنف أبٍ عنيفٍ وزوج أمّ أكثر عنفا، وأمّ متسلّطة تنقل كلَّ خوفها إليهما. بات واضحا عند كوثر بن هنية أنّهما في محاولتهما للتخلّص من السلطة الذكورية التي تحاول الأم نقلها إليهما، وقعا في براثنها. كان تدينهما تمرّدا مثل إقبالِهما على موسيقى الميتل (موسيقى المعدن للمُريدين الحقيقيين)، محاولة لقلب اتجاه العلاقة مع أمّهما. ولم يفطنا إلى أنّهما أخذا مكانها في التبشير بالنظام الذكوري ونقل ثقافته. تشير بن هنية إلى ذلك من خلال التركيز على حادثة بيع الحجاب، وحادثة وعظيّة عذاب القبر. وهما لحظتا التغيير بالنسبة للفتاتين. وكلاهما تبدآن من مبادرة أحد الرجال. هناك أيضا تركيز المخرجة على هوس رحمة بثقافة الموت، كأنما تسعى إلى إبراز العلاقة بين تطرّف الفتاة ورغبتها الخفية الجامحة في إيذاء نفسها: الهروب من الذكورية بالوقوع فيها. وعلى كلِّ حالٍ، فهي لا تأتي بجديد حين تتعامل مع تطرف النساء على أنهن ضحاياه. فقد روجت له الهتافات النسوية المستنكرة من جهاد النكاح. التطرف بناء ذكوريّ، ولكن ربّما كانت بن هنية تبالغ في تفسيره بهذا الشكل الاختزالي، فهو يحدث مع الرجال أيضا، وهم أيضا ضحاياه.
يستحضرني هنا فلمُ محمد بن عطية الجميلُ، "ولدي" (سنة 2018) الذي اقترح تفسيرا آخر للتطرف يتعلق بصراع الأجيال عوض صراع الجنسيْن. فحين يعجز الشباب عن التحرر من سلطة جيل الآباء، ولا يجدون مساحة لتحمّل المسؤولية، سوف يبحثون عن تحمّلها خارج أطر المجتمع الذي يعيشون فيه. تمنحهم الجماعات الإرهابية لذّة الشعور بجسامة أدوارهم، وبقدرتهم على الفعل، حين تخنقهم جماعاتهم الأصلية. لم يهتمّ بنات ألفة بهذا الجانب، لكنّه أشار إلى صراع الأجيال في الحالة البديلة: أي حين يحقق الأبناء فعل التحرّر بالفعلِ ويتملّصُون من الخوفِ وثقافتِه. نرى ذلك جليا في آية وتيسير ولغتهما التي تصدم ألفة وتثير جنونها أحيانا. وكان عمل كوثر بن هنية طيلة الفلم، مصاحبةَ بطلتِها في رحلةِ إعادة التعرُّف على بنتيْها الباقيتيْنِ، وتدارك خطاياها السابقةِ لإنقاذهما. لقد بدأت الرحلة بلباس أسود، وانتهت بالأحمرِ. فخطّت بذلك مسارا دراميّا إضافيّا (باعتبار القصة المرويّةَ والجزءَ المعادِ تمثيلُه، مساريْنِ أوّليْن) ربما هو الأكثر قيمةً في الفلمِ. والأكيدُ أنّه استمدّ جزءا كبيرا من قيمتِه من طريقة تمظهر شخصية ألفة طوال العرضِ.
تتمتع ألفة وبنتاها بحضور درامي مدهش، تجلى من خلال اللغة وقسمات الوجه. حين تتحدث إحداهنّ، هناك دوما شيء يشدّ الأنظار إلى الشّاشة. هناك دوما شيء يتسرّب منها إلى ضفّة المتفرّجين. يتلوّن الوجه بألوان الضحك والبكاءِ في وقت واحدٍ، ويأتي اللسانُ بصورٍ بلاغية تجعل من وقع الكلام ثقيلا. في فرنسا، رأيتُ متفرّجين فرنسيّين ينهضون في نهاية الفلم مطلقين زفرات حارة. لم تكن القصّة بهذه الخطورةِ، ولكنّ أسلوب راوياتِـها جعلها كذلك. ولقد استغلت كوثر بن هنية هذه الميزة جيدا، فتوازنت المشاهدُ بفضل حركةِ بطلاتِها، وقد كان الإطار الثابتُ مهيمنا. وتفنّنت في الزّج بهنّ في مواقف متنوّعةٍ استخرجت منها كل ضروب الانفعالاتِ. فشكّلت من ألفة شخصيّة قصصيّة عظيمةً حقا. شخصيّة تتجاوز التصنيفات البسيطةِ والأحكام الأخلاقية والسلوكية الفجة. بل تتجاوز حضورَها الواقعيَّ إلى حضورٍ قصصيٍّ مفرط في الإنسانية، مفرط في التجلّي بنبله ولؤمِه، ببطولاتِه وخزيه.
لقد كان حضور ألفة قويا إلى حد تضاءل أمامه حضور نجمةٍ في حجم هند صبري، فقد قُدِّم الأمرُ على أساس التناصف بينهما في أداء الشخصية نفسها. فإذا بهندٍ تعلِمُنا أنّها "ماهي فاهمة شيء". وإذا بالعلاقة بينهما تتشظّى علاقات متباينةً لا تشبه في شيء علاقةَ "تجسيد ما لا تقدر ألفة على أدائه". نجدها تتابع الممثَّـلَة بانتباهٍ شديدٍ يترسّخ أكثر مع لقطة تمرُّنها على اللهجة ونبرة الصوت. ونجدها تشرح للبنتيْنِ وأمِّهِما أسلوبها في تأويل الدّور والشخصيّةِ، ونفورَها من الكلام السّوقيِّ. ونجدها في حالة سجالٍ معها حول أداء شخصيّتِها، إذ تبادِرُ ألفة بتصويب هند وبشرح تفاصيل طباعها. أما الجزء الأكبر من العلاقة، فترجمه استجواب هند صبري الدؤوب لألفة، مستفسرة إيّاها حول طبيعة ميولها وأفكارها. ولا تجد مانعا في إبداء رأيها كما في حادثة مواعدة رحمة الغرامية التي انتهت شرّا.
تنتمي هند صبري (ومجد مستورة وإشراق مطر ونور القروي) إلى طبقة متباينة مع طبقة ممثَّلتها. ليس فقط لأنّها نجمة إقليميّة بارزة وزوجة رجل أعمال ثريّ. ولكن لأنّها أيضا فنّانة مثقفة ومحامية، لها قدرات تعبيريّة واسعة، وهيمنةٌ معنوية لا ريب فيها. ونتاج ذلك أن ترتسم العلاقة بينهما عموديّة مهيمنةً. لكن أظهر الفلمُ ديناميكيّةً حيّة متقلّبة تبتعدُ عن معجم الهيمنة، وتقترب أكثر من معجم الزمالة. تسمع ألفةُ كلامَ الممثِّلة فتطأطئ برأسِها أحيانا، وتجيب بكل جرأةٍ وتدافعُ عن رأيِها في أحيان كثيرة أخرى. بل لا تخجل من التعليق على أداء هند صبري وتعويضها لمزيد الشّرح إن لزم الأمرُ. حين حاولت هندٌ شرح قدرتِها الاحترافية على خلق مسافة أمان بينها وبين الشخصية التي تتقمّصُها، توقعت أن تلزم ألفة الصمت وتكتفي بالإيماءِ في غير فهم. لكنها أبت إلا أن تجيب الممثِّلة بسؤال آخر: ماذا لو كان تأثير الشخصية أقوى من قدرة الإنسان على الاحتمال؟ وفي جوابِها برهان على عدم تأثرها بعمودية العلاقة التي قد تنشأ في مثل هذه المواقف. لقد تحوّلت المرأتان المنتميتان لعالميْن مختلفيْن، إلى زميلتيْنِ. وكان تأسيس العلاقة على هذا الشكل مهمّا للمخرجة، حتى تتمكن من التفاعل مع بطلتها بشكل غير مباشر عبر هند صبري. فهي تعي جيدا بقيمة سلطتها المعنوية كمخرجةٍ، ولا تريد أن تحجب بها أفكار ألفة التي تخرج عالية في كل نقاش. دور هند صبري وإشراق مطر ونور القروي دور تحفيزي يسمح بتداعي الذكريات، ودور استفزازي أيضا، يسمح بتداعي الأفكار وبإعادة النظر في الأحداث والقناعات. لذلك، فمن المهم هنا أن نتساءل إن كانت هند صبري أداة كوثر بن هنية أم شريكتها؟ وهل كنّا نشاهدُ هند صبري أم شخصيّتها؟
وأيا كانت الإجابة، فحسبها أنها ظفرت منّا بالارتباك والحيرةِ والآراء المتباينةِ. وحسبُ كوثر ما حقّقته في هذا العملِ من نضجٍ وقدرةٍ على تصويرِ أفكارٍ معقدةٍ، وجرأةٍ على الذهاب بالتمرين التجريبيّ إلى أبعدَ ممّا حصلت عليه في أعمالِها السّابقةِ. وبات من الواضح أن الشكل الوثائقيَّ لعبتُها المفضّلةُ (ثلاثة من خمسة إضافة إلى آخر مستوحى من سيرةٍ واقعية)، وأنّ صراع المرأة التونسية مع النظام الذكوريِّ قضيّتُها الأولى. ولكنني أجدُ ضروريّا أن تحاول الابتعاد عن مفضّلاتِها، وعن بيتِها المريحِ. وفي انتظار ذلك، فبناتُ ألفة تجربةٌ وثائقيّةٌ تونسية تدعو للفخر، وللأمل في تحف فنيّة خالدة.
1 سوف أستعمل في هذا المقال مصطلح الخيال بمعنى المخالف للواقع fiction،ذلك أن هناك جدلا حول المفهوم وبعضهم يستعمل لفظ "رواية" وهو ممكن على أنه لا يعكس معنى التناقض مع الوثائقي وهي الثنائية التي أريد إبرازها ها هنا. Fiction/Documentary.
2 إعادة التمثيل Reenactment: إعادة تمثيل أحداثٍكما وقعت بالفعل. يكون الالتزام فيها بالحقيقة التاريخية قويّا إلى درجة تمنع من خلق مساحة درامية وعادة ما يتم التغاظي عن الحوار واستبداله بصوت الراوي. نجد هذه التقنية كثيرا في الأفلام الوثائقية التي تشرح الأحداث التاريخية والسياسية.
3 صيغ الفلم الوثائقي الستّDocumentary six modes: التفسيري Expository،والراصد Observational،والشاعري Poetic،والتشاركي Participatory،والأدائي Performative،والانعكاسي Reflexive.
4 التقعير Mise en abyme القصة داخل القصة،كما كان يحدث في أغلب القصص العربية الكلاسيكية. وجدت محاولات متنوعة لترجمة المصطلح الفرنسيّوليس التقعير أفضلها ولكنها جميعا لا تؤدي المعنى إلى تمامه. أضطر إلى استعمال هذا المصطلح لأنه يرنّغريبا في أذن القارئ،وإن كان له معنى أصليّيخالفُمعنى المصطلح وهو ما أنفر منه.
5 أن تكون جون مالكُفتش Being John Malkovich
6يروي الفلم قصة رحالة برازيلي شابّاختفى في جبال مولانجي جنوب شرق إفريقيا. وهي قصة واقعيّة استعادَالفلمُأحداثها مستعينا بأغلب الناس الذين قابلهم الشّاب في رحلته،إذ أدّوا أدوارهم الحقيقية.
7 يصنف بعضُهم فلمَلقطة مقرّبة،كخيالٍتوثيقيّDocufiction وهو صنف يختلف عن الدراما الوثائقيّة في كونِه فلما وثائقيّا يسمح لنفسِه بإقحام عناصر/مواقف خياليّة على سرديّتِه. لا أعرف مدى الخيال الذي أقحمه كيارستمي في فلمِه ولكنّالظنّعندي أنه أعاد تصوير الأحداثِالتي تمت مناقشتها في المحاكمة الموثّقة.