وهكذا فإنّ فِِلمَ تينيت ليس بهذا السّوء الّذي يريد أن يقنعنا بهِ المنكوبون في كبريائهم والعاجزون عن المشاهدات المتعدّدة. إذ أراه ساحة صراعٍ طريفةٍ يواجهُ فيها البطلُ كاتبَهُ. هل تحرِّرُ الدّراما أبطالَها من أقلامِ كاتبيها، فيمرقون على ما كان مخطّطا مسبقا، أم يظلّون بيادق بين أصابع الخالق، يقدّر لها الأدوار كيفما يشاء، ويُخضعها لحتميّته الخاصّةِ؟
يَفترِضُ البدءُ بهذا السؤالِ، أن أعود بأفكاري إلى الوراءِ تسلسلاً مقلوبا حتّى أنتهيَ بالبداياتِ، أُسوةً بأحداثِ الفلمِ وبساحةِ الصّراعِ الّتي وضعَها نولَنْ لبطلِه ها هنا. لكنّني أشفق على نفسي من مشقّةِ كذا كتابةٍ، وعلى القارئِ من تكبّد عناء قراءتها. فلنعد للبداياتِ.
تينيت Tenet، هو آخر أفلام البريطانيِّ كريستُفر نولَنْ، وهو طريقتُه الكلاسيكيّةُ في استقبالِ العقدِ الجديدِ. فقد سبق أن استقبل العقد الأوّل من الألفيّة بفلمِ Memento. وبعد عشر سنين، ملأَ الدنيا وشغل النّاس بفلمِ Inception. تينيت إذا، ليس أوّل فلمٍ-أحجيةٍ ينجزُه ولكنّه بلا شكّ أعقدُها. ورأيي أنّه يحتلّ مرتبة متقدّمة في قائمةِ أعقد قصص الأفلام على الإطلاق. وليس يزيدُ ذلك من قيمتِه أو ينقصُ. فلا هو راجعٌ إلى ضُعفٍ في الكتابةِ أو الشّرحِ، ولا هو علامةٌ على ثراءِ الصّورة أو عُمقِ معانيها. إنّه تجربةٌ أسلوبيّةٌ في ذاتِها يمكن أن تنجح أو أن تفشل انطلاقا من الأدواتِ السينمائيّة الّتي ترافِقُها.
لا أفضّل الأفلام الّتي ترتهنُها قصصُها، فلا تقومُ إلاّ على الإخبارِ بأحداثِها. إنّها أفلامٌ لا تُشاهدُ وإنّما يُستمعُ إليها أو تُقرأ. وليس غريبا أن يكون أغلبها تراجمَ سينمائيّةً لرواياتٍ معروفةٍ، وأن توصمَ بتلك العبارةِ الشّهيرةِ: الكتاب خير من الفلمِ. يأخذ الحدثُ القصصيُّ فيها وأداءُ الممثّلين جوهرَ المشهدِ وتتراجعُ عناصرُ الصّورةِ وسيميائيّتُها إلى خلفيّةٍ باهتةٍ تُسهّل التغافلَ عنها. هنا حين يأكلُ أحدُهم فهو فقط ينقل إليك خبرَ الأكلِ. أمّا حين تعود السينما إلى جوهرِها كوسيط بصريٍّ، ينقلُ الأكلُ حالةَ الآكلِ النفسيّةَ (مشهد الأكل في فلمِ قصّة شبح A ghost story)، أو غرائزه الجنسية (مشهد المطبخ في فلم تسعة أسابيع ونصف
9½ Weeks)، أو طبيعة العلاقة العموديّة بين شخصيْن (مشهد البرغر في Pulp Fiction)...
والأكلُ في تينيت، ساحةُ حربٍ وخديعةٍ. حين جلست كاثرين بارتُن إلى مائدةِ الفطور، كانت تظنُّ أنّها قد نجحت في خداعِ زوجها، أندري ساتور تاجر الأسلحة الّذي تظنُّ، لكنُّه فاجأها بطبقِ طعامٍ خاصٍّ أعلن لها به كشفَه لخطَطِها.
9½ Weeks)، أو طبيعة العلاقة العموديّة بين شخصيْن (مشهد البرغر في Pulp Fiction)...
والأكلُ في تينيت، ساحةُ حربٍ وخديعةٍ. حين جلست كاثرين بارتُن إلى مائدةِ الفطور، كانت تظنُّ أنّها قد نجحت في خداعِ زوجها، أندري ساتور تاجر الأسلحة الّذي تظنُّ، لكنُّه فاجأها بطبقِ طعامٍ خاصٍّ أعلن لها به كشفَه لخطَطِها.
قبل ذلك، اِحتاجَ البطلُ إلى الجلوس إلى ثلاثِ موائد عشاءٍ مختلفةٍ ليتمكّن من جمعِ المعلومات اللازمةِ والتّوصّلِ إلى استدراجِ أندري ساتور إلى ما كان يظنُّ أنّها خطَّتُه: مائدةُ السِّير كروسبي في بريطانيا، ثمّ مائدةُ كاثرين بارتُن وأخيرا العشاءُ في يختِ زوجِها. وبينما كان البطلُ يرتقي الدّرجاتِ إلى عدوِّه، مرَّ كلُّ شيءٍ بخفّةٍ وسرعةٍ مريبتيْن، كأنّما كان يُستدرجُ إلى الفخّ الّذي يُعدُّه. يتحوّلُ الأكلُ في تينيت إلى طُعمٍ، ويأخذُ التشبيهُ معناه أكثر من أيّ وقتٍ مضى على حافَّةِ اليختِ في المرحلةِ الأخيرةِ. فهل سيقع البطلُ فريسةَ الخديعةِ؟ تجيبُنا مشاهدُ الأكلِ البسيطةُ بحقيقةِ أنّه لم يأكل في أيٍّ منها!
ليس هذا إلاّ مثالا بسيطا. والأهمُّ أنّ تينيت، على تمحوُرِه حول الحدثِ القصصيِّ على عادةِ أفلامِ نولَنْ، لا يغفلُ قطُّ عن حقيقةِ أنّ السينما وسيط بصريٌّ قبل أيّ شيءٍ. فاستعمل مثلا تركيبة بصريّة من الأزرق والأحمر، لفكّ شفرةِ المشاهدِ المعقّدة. وأجرى ذلك على ألبسة شخصيّاتِه كفستان كاثرن الأحمرِ. وفي مشهد القطارِ، كان صريرُ السّكك الحديديّةِ يصفُ ببلاغةٍ ما كان يحدثُ داخل فمِ البطلِ المعذَّبِ. وكان اتّجاهُ حركةِ القطاريْنِ يُنبئُ بمحوريّةِ تلكَ اللحظةِ بين اتَجاهيْ الزمن المتقابليْنِ…
لا يهتمُّ الفلمُ بمناقشةِ فكرةِ السّيرِ عكس اتّجاهِ الزّمنِ، وإنّما بعرضِ التجربةِ فعليّا، بحيث يمكنُ للمشاهدِ أن يخوض غمارَها، أو على الأقلِّ أن يشعُرَ بتأثيراتِها: حياةٌ تسيرُ بشكلٍ عكسيٍّ من حولِك، ونهاياتٌ تعترِضُك لبداياتٍ لم تأتِ بعدُ، ودعوةٌ للتفكيرِ خارجَ منطقِ السّببيّةِ الطبيعيِّ. يرى بعض النّقّادِ أنّ تجربةَ السيرورةِ الزمنية المعكوسة ليس مثيرا بما يكفي ولا عميقا بما يشفي، ولا يستحقّ استثمارا فنيّا بهذا الحجم. مشكلةُ هؤلاءِ أنّهم يُقصرون التّجربةَ على تلك الفصولِ الفُرجَويَّةِ الّتي يتحرّك فيها بعضهم بشكلٍ معكوسٍ. لكنّ التجربةَ الّتي أرادَها نولَن أرحبُ وأثرى. فحين يضعُ مشاهِدَه على مسارِ رحلةِ البطلِ، يفرِضُ عليهِ أن يفكّر طبقا لقوانين اللعبة الجديدةِ، وبالتّالي يجعلُه يعيش تجربةً افتراضيّةً مكتملةَ الأركانِ.
ولئن كانت السينما عند نولَن تجربةً بالأساسِ، فإنّها لا تقصُر عن أبعادٍ فكريّة تتجاوزُ التّجربةَ وجماليّاتِها، لتتساءل عن السّينما نفسِها كآلةٍ لتشذيب الزّمنِ وإعادةِ تحديد ماهيّتِه. لعلّكم تذكرون مشهدَ التقاطِ الرّصاصةِ المعكوسةِ من على الطّاولةِ، وكيف أنّ عميلةَ المخابراتِ الشّقراءِ عرضت عليهِ تسجيلَ فيديو لعملية الالتقاطِ، فعكست سيرَ الفيديو فأصبحَ عمليّةَ إسقاطٍ. ألا تروْن في قلب المفاهيمِ هذا آفاقا مثيرةً وخطيرةً؟ ألا يخبّرُ عن سعةَ قُدُراتِ السينما، وأدواتِها؟ ثمَّ، ماهي طبيعةُ القَلبِ Inversion؟ هل هي تقويضٌ للحقيقةِ أم إنّها إثراءٌ لها؟ وبعبارةٍ أخرى، ألا تسمحُ لنا السّينما من خلالِ ما يبدو أنّهُ تقويضٌ للطبيعةِ، بالتّركيب، والخِدع، والتلاعب بخطّ السّردِ، بفهمٍ أدقَّ لهذه الطبيعةِ؟ ألا تسمحُ بتجاوزِ حدودِ حواسِّنا القَاصرةِ وطرقِ تفكيرِنا الاعتياديّةِ والبسيطةِ؟ ألا تسمحُ كضربٍ من الفنّ بتجلٍّ أدقَّ للحقيقةِ؟
هو ذاك التساؤل الّذي يعاودُنا كلّما شعرنا إزاء عملٍ فنيّ بلحظة كشفٍ. لكنّ التساؤلاتِ تستمرُّ مع تينيت، وتحديدا مع عنصره المحوريِّ، أي قصّته. أفلا تُرانا أمام أكثر من قصّةِ صراعٍ بين بطلٍ أمريكيٍّ ومجرمٍ روسيٍّ لإنقاذِ العالمِ؟
للتّذكيرِ، فنولنْ يعملُ هنا على صنفٍ genre سينمائيٍّ واضحِ المعالمِ، هو الخيال الجاسوسيِّ Spy-fi، وهو مزج بين الخيال العلميّ والجاسوسيّة. ولا شكّ أنّ سلسلة جيمس بوند هي أشهرُ أمثلةِ هذا الصنف: خطّةٌ لتصفية العالم أو السيطرة عليه، وبطلٌ ذكيّ، وشرير عدميّ، وتقنية متطوّرة، ومشاهدُ حركةٍ فرجوية بالجملة أبرزُها المطاردة المألوفة بالسيارات… لم يَغفل نولَن عن أهمّ عناصرِ الصّنف، مع إضافةٍ معتبرةٍ في جانب الخيال العلميّ الّذي يُهمَل عادةً ويُتركُ سخيفا. إنّني أجدُ في ذلك إجراءً تعديليّا مهمّا يُعيدُ هذا الصّنف الفرعيَّ إلى حظيرة الخيال العلميِّ.
ولا يكتفي نولَن بإعادةِ إخراج الخيال الجاسوسيِّ في ثوبٍ جديدٍ، بل يحاول أن يُخرجَه من خطابِه المألوفِ: خطاب الحربِ الباردةِ سياسيّا، وخطابِ الخوفِ الذّكوريِّ من امرأةِ ما بعدَ الحربِ العالميةِ. ففي تينيت، يُطلُّ الشريرُ الروسيُّ من نافذةٍ رأسماليّةٍ محضة: أعمال، يخوت، فنّ تشكيليّ، العملُ بشكلٍ فرديٍّ، النزعة العدمية الخ. في حين يعملُ البطلُ في إطارٍ جماعيٍّ يكادُ يكونُ أفقيّ العلائقِ.
كما غيّرت شخصيّةُ كاثرِن بارتُن من وجهِ المرأةِ في أفلام الجاسوسيّةِ. فلم نعد إزاءَ تلك الفاتنة الغامضةِ المخادِعةِ الّتي تستدرجُ البطلَ إلى الفخّ القاتلِ. ولم نعد إزاء ذلك الجسد الّذي لا يكاد البطلُ يظفر منه ببعض الوصلِ حتّى تتمَّ تصفيتُه/معاقبته بقسوةٍ. على العكس، كانت كاثرن مفتاح الوصولِ إلى العدوِّ، وكانت قد سُلبت حرّيّتها واستقلاليّتها ولم يبق منها إلا عنصرُ الأمومةِ الّذي كان مهدّدا. كانت كاثرن تحلمُ بنموذجِ المرأةِ في الأفلام الجاسوسيّةِ. ولم تدرِ أنّها ستحقّقه في النهاية. سار تينيت بالتّالي عكس أفلام الجاسوسيّة الّتي تعاقب المرأة على انفلاتِها من الطوع وتخلّص المشاهد الرّجلَ من شعور التّهديد. فانتصر للمرأةِ المستقلّةِ وانتصرَ لبطلٍ جديدٍ لا يقع تحت طائل فتنتها.
لا أحد يعرف اسم هذا البطلِ، ولا تاريخَه ولا مأساتِه الشخصيّةِ. يعرّف على أنّه البطلُ القصصيُّ Protagonist بإلحاح يدعو إلى الانتباه، ولا يملك أيّ مسارٍ دراميٍّ داخل الفلمِ كما هو بادٍ. وقد وجد النقاد في هذا التوجّه عيبا كبيرا. بل لم يجدوا من عيب حقيقيٍّ للفلمِ غير هذا. مشكلةُ أفلام نولَن أنّها تصنع مسافة بين المشاهدِ والشخصيات، بحيث لا نتعاطفُ معها. هكذا يقولون، كأنّهم لم يروا علاقة مرفي بأبيها في "بين النجوم" Interstellar، أو شخصية جوكر في فارس الظلام The Dark Knight، أو محنة دوم كوب في فلم استهلال Inception… إنّ الرّبط بين تأطير الشخصية وتعريفها وبين القدرة على التعاطف معها أو تقبّل مسارها الدّراميِّ هو أشبه بالرّبط بين صلصة الطماطم وعجين السپاغيتي Spaghetti، أي قائم على وهم التعوّدِ ليس إلا، ولنا في أفلام سرجيو ليوني العظيمةِ، وشخصيّةِ كلينت استوود Clint Eastwood الغامضة فيها خيرُ مثالٍ.
لقد كان من المهمّ تجريدُ البطلِ من كلِّ تخصيصٍ، والاكتفاء بتعريفِه بهذه الصّفةِ، لأنّنا إزاءَ صراعٍ يتجاوز لعبةَ الجاسوسيّةِ إلى لعبة الكتابة ذاتِها، حيث يقف البطلُ القصصيُّ في مواجهةٍ غير مألوفةٍ ضدَّ كاتبِه. يحاول أن يكون كلاسيكيّا قدر الإمكانِ: مخلصا ومتفانيا ومؤثِرًا وعامرا بتلك القيمِ الإنسانيّةِ المُثلى الّتي لا يكتسبُها المرءُ الطبيعيُّ بقدرما يكتسبُها الأبطالُ. لكنَّه يجدُ نفسَه في أرضٍ قصصيّةٍ متحرّكة كدوّامةِ رملٍ مخيفةٍ لا تُفهم قواعدها. يعابثه كاتبُه، فينقلُه من شخصية إلى أخرى، ويزوّدُه في كلّ محطّةٍ بالمعلومات الكافية للانتقال إلى المحطّةِ الأخرى: رجل المخابرات الأمريكيّ، سائق السيارة في الميناء، عاملةُ المخبرِ، نيل، تاجرةُ السلاح الهنديّةُ، السير كروسبي العميل البريطانيُّ، كاثرن بارتُن خبيرة الفنونِ، زوجُها الروسيّ أندري ساتور… في كلِّ مرّة، يعدّل البطلُ من منظورِه للعبةِ، ويحاولُ أن يبدأ بالتّحرّك وفقا للقواعدِ الجديدةِ، لكنّه يفاجَأ بتغييرِها. وفي كلِّ مرّةٍ يظنُّ نفسَه قد أحكمَ الخطّةَ، يجدُ أن خطّته مفضوحةٌ أو أخطأتِ الهدفَ. أحيانا بشكلٍ سخيفٍ كما حدث مع پريــا تاجرة السلاح الهنديّة الّتي هاجم البطلُ زوجها ظنّا أنّه هو المسؤولُ عن نشاطاتِها. نلمسُ في كلّ مرّة عبثا من الكاتبِ ببطلِه لأنّ الخديعةَ لا تغيّر شيئا من مسار الأحداثِ، ولا تمنحُ البطلَ إلاّ إحساسا مهينا بأنّه لا يسيطرُ على شيءٍ. هكذا، فقد أعصابه مع إصابةِ كاثرِن القاتلةِ. إنّها الفتاة الجميلةُ الّتي عليه أن يضمنَ سلامتَها كأيِّ بطلٍ قصصيٍّ محترمٍ، ولكنّ المفاهيمَ تتجاوزُه مرّة أخرى، فهاجم نيل، لأنّه كان يشعر أنّه يعرفُ أكثر ممّا يقولُ. والحقيقةُ أنّ نيل، يبدو أقرب إلى التجلّي القصصيِّ لكاتبِه. ينزل من علياءِ قلمِه كيسوعٍ داخلَ روايتِه ويتقمّص أحد شخصيّاتِه. ربما ليساعد بطلَه وربّما ليزيد من معابثتِه، وربّما ليعلن له في النّهايةِ انتصارَه عليه: اُنظروا إليه في نهاية القتالِ وهو يأتي في لحظة اليأسِ الأخيرةِ ليضحّيَ بجسدِه الفاني (جسد نيل الّذي يتقمّصه) ويُنقذَ بطلَه وينقذَ العالمَ! أيّة نرجسيّةٍ فاضت بها قمرته؟!
في لحظةٍ ما، بدا أنّ البطلَ قد انتصرَ في صراعِه مع كاتبِه: فهم قواعدَ اللعبة المعقّدةِ، وبدأ يعدّ خططه. استطاع خداع عدوّه الرّوسيَّ، ثمّ استطاع أن يسبق پريـا ويقتلها قبل أن تغدر بحسنائه. لكنْ كما سبق وأن ذكرتُ، فهو لم يتمكّن تماما من التخلّص من براثن كاتبِه. ورغم تصريح نيل في النهاية بأنّ "البطل" هو مدبّر العمليّةِ بأكملِها، فإننا نعلم أنّ الأحداث تجاوزته في النهاية وأنّ كلمة الفصل كانت له (أي نيل/الكاتب).
ربّما تعج أدبيات ما بعد الحداثةِ بهذا النّوعِ من الصّراعاتِ. لكنّ نولَن منحه الكثير من الطرافةِ والذّاتيةِ. تينيت هو سؤال الكتابة عن ذاتِها، وهو سؤال السّينما الكلاسيكيّةِ عن مستقبلِها في عالمٍ لم يعد يرضى بأكثر من ساعتين من العرضِ. لقد أرسى نولن نسقا مجنونا للفلمِ حتى يوضع في إطار الساعتين ونصف، والحقيقةُ أنّه كان يمكن أن يبلغ الساعات الثلاثِ دون أن يكون النسق مملاّ للمشاهدِ العاديِّ. وقد كان سيتخلّص حينئذ من حنقِ أولئك الّذين أصيبوا في كبريائهم من تعقيد الفلم وعدم تقبّلهم لحاجتهم إلى مشاهداتٍ أخرى لفهم دقائقِ القصّةِ وتفاصيلها.
وعلى أية حال، فتينيت ليس أفضل أفلامِ نولن وليس أسوأها أيضا. إنّه تجربةٌ فريدةٌ تنتمي إلى زمنٍ قد نتحسّر عليه قريبا.
لا يهتمُّ الفلمُ بمناقشةِ فكرةِ السّيرِ عكس اتّجاهِ الزّمنِ، وإنّما بعرضِ التجربةِ فعليّا، بحيث يمكنُ للمشاهدِ أن يخوض غمارَها، أو على الأقلِّ أن يشعُرَ بتأثيراتِها: حياةٌ تسيرُ بشكلٍ عكسيٍّ من حولِك، ونهاياتٌ تعترِضُك لبداياتٍ لم تأتِ بعدُ، ودعوةٌ للتفكيرِ خارجَ منطقِ السّببيّةِ الطبيعيِّ. يرى بعض النّقّادِ أنّ تجربةَ السيرورةِ الزمنية المعكوسة ليس مثيرا بما يكفي ولا عميقا بما يشفي، ولا يستحقّ استثمارا فنيّا بهذا الحجم. مشكلةُ هؤلاءِ أنّهم يُقصرون التّجربةَ على تلك الفصولِ الفُرجَويَّةِ الّتي يتحرّك فيها بعضهم بشكلٍ معكوسٍ. لكنّ التجربةَ الّتي أرادَها نولَن أرحبُ وأثرى. فحين يضعُ مشاهِدَه على مسارِ رحلةِ البطلِ، يفرِضُ عليهِ أن يفكّر طبقا لقوانين اللعبة الجديدةِ، وبالتّالي يجعلُه يعيش تجربةً افتراضيّةً مكتملةَ الأركانِ.
ولئن كانت السينما عند نولَن تجربةً بالأساسِ، فإنّها لا تقصُر عن أبعادٍ فكريّة تتجاوزُ التّجربةَ وجماليّاتِها، لتتساءل عن السّينما نفسِها كآلةٍ لتشذيب الزّمنِ وإعادةِ تحديد ماهيّتِه. لعلّكم تذكرون مشهدَ التقاطِ الرّصاصةِ المعكوسةِ من على الطّاولةِ، وكيف أنّ عميلةَ المخابراتِ الشّقراءِ عرضت عليهِ تسجيلَ فيديو لعملية الالتقاطِ، فعكست سيرَ الفيديو فأصبحَ عمليّةَ إسقاطٍ. ألا تروْن في قلب المفاهيمِ هذا آفاقا مثيرةً وخطيرةً؟ ألا يخبّرُ عن سعةَ قُدُراتِ السينما، وأدواتِها؟ ثمَّ، ماهي طبيعةُ القَلبِ Inversion؟ هل هي تقويضٌ للحقيقةِ أم إنّها إثراءٌ لها؟ وبعبارةٍ أخرى، ألا تسمحُ لنا السّينما من خلالِ ما يبدو أنّهُ تقويضٌ للطبيعةِ، بالتّركيب، والخِدع، والتلاعب بخطّ السّردِ، بفهمٍ أدقَّ لهذه الطبيعةِ؟ ألا تسمحُ بتجاوزِ حدودِ حواسِّنا القَاصرةِ وطرقِ تفكيرِنا الاعتياديّةِ والبسيطةِ؟ ألا تسمحُ كضربٍ من الفنّ بتجلٍّ أدقَّ للحقيقةِ؟
هو ذاك التساؤل الّذي يعاودُنا كلّما شعرنا إزاء عملٍ فنيّ بلحظة كشفٍ. لكنّ التساؤلاتِ تستمرُّ مع تينيت، وتحديدا مع عنصره المحوريِّ، أي قصّته. أفلا تُرانا أمام أكثر من قصّةِ صراعٍ بين بطلٍ أمريكيٍّ ومجرمٍ روسيٍّ لإنقاذِ العالمِ؟
للتّذكيرِ، فنولنْ يعملُ هنا على صنفٍ genre سينمائيٍّ واضحِ المعالمِ، هو الخيال الجاسوسيِّ Spy-fi، وهو مزج بين الخيال العلميّ والجاسوسيّة. ولا شكّ أنّ سلسلة جيمس بوند هي أشهرُ أمثلةِ هذا الصنف: خطّةٌ لتصفية العالم أو السيطرة عليه، وبطلٌ ذكيّ، وشرير عدميّ، وتقنية متطوّرة، ومشاهدُ حركةٍ فرجوية بالجملة أبرزُها المطاردة المألوفة بالسيارات… لم يَغفل نولَن عن أهمّ عناصرِ الصّنف، مع إضافةٍ معتبرةٍ في جانب الخيال العلميّ الّذي يُهمَل عادةً ويُتركُ سخيفا. إنّني أجدُ في ذلك إجراءً تعديليّا مهمّا يُعيدُ هذا الصّنف الفرعيَّ إلى حظيرة الخيال العلميِّ.
ولا يكتفي نولَن بإعادةِ إخراج الخيال الجاسوسيِّ في ثوبٍ جديدٍ، بل يحاول أن يُخرجَه من خطابِه المألوفِ: خطاب الحربِ الباردةِ سياسيّا، وخطابِ الخوفِ الذّكوريِّ من امرأةِ ما بعدَ الحربِ العالميةِ. ففي تينيت، يُطلُّ الشريرُ الروسيُّ من نافذةٍ رأسماليّةٍ محضة: أعمال، يخوت، فنّ تشكيليّ، العملُ بشكلٍ فرديٍّ، النزعة العدمية الخ. في حين يعملُ البطلُ في إطارٍ جماعيٍّ يكادُ يكونُ أفقيّ العلائقِ.
كما غيّرت شخصيّةُ كاثرِن بارتُن من وجهِ المرأةِ في أفلام الجاسوسيّةِ. فلم نعد إزاءَ تلك الفاتنة الغامضةِ المخادِعةِ الّتي تستدرجُ البطلَ إلى الفخّ القاتلِ. ولم نعد إزاء ذلك الجسد الّذي لا يكاد البطلُ يظفر منه ببعض الوصلِ حتّى تتمَّ تصفيتُه/معاقبته بقسوةٍ. على العكس، كانت كاثرن مفتاح الوصولِ إلى العدوِّ، وكانت قد سُلبت حرّيّتها واستقلاليّتها ولم يبق منها إلا عنصرُ الأمومةِ الّذي كان مهدّدا. كانت كاثرن تحلمُ بنموذجِ المرأةِ في الأفلام الجاسوسيّةِ. ولم تدرِ أنّها ستحقّقه في النهاية. سار تينيت بالتّالي عكس أفلام الجاسوسيّة الّتي تعاقب المرأة على انفلاتِها من الطوع وتخلّص المشاهد الرّجلَ من شعور التّهديد. فانتصر للمرأةِ المستقلّةِ وانتصرَ لبطلٍ جديدٍ لا يقع تحت طائل فتنتها.
لا أحد يعرف اسم هذا البطلِ، ولا تاريخَه ولا مأساتِه الشخصيّةِ. يعرّف على أنّه البطلُ القصصيُّ Protagonist بإلحاح يدعو إلى الانتباه، ولا يملك أيّ مسارٍ دراميٍّ داخل الفلمِ كما هو بادٍ. وقد وجد النقاد في هذا التوجّه عيبا كبيرا. بل لم يجدوا من عيب حقيقيٍّ للفلمِ غير هذا. مشكلةُ أفلام نولَن أنّها تصنع مسافة بين المشاهدِ والشخصيات، بحيث لا نتعاطفُ معها. هكذا يقولون، كأنّهم لم يروا علاقة مرفي بأبيها في "بين النجوم" Interstellar، أو شخصية جوكر في فارس الظلام The Dark Knight، أو محنة دوم كوب في فلم استهلال Inception… إنّ الرّبط بين تأطير الشخصية وتعريفها وبين القدرة على التعاطف معها أو تقبّل مسارها الدّراميِّ هو أشبه بالرّبط بين صلصة الطماطم وعجين السپاغيتي Spaghetti، أي قائم على وهم التعوّدِ ليس إلا، ولنا في أفلام سرجيو ليوني العظيمةِ، وشخصيّةِ كلينت استوود Clint Eastwood الغامضة فيها خيرُ مثالٍ.
لقد كان من المهمّ تجريدُ البطلِ من كلِّ تخصيصٍ، والاكتفاء بتعريفِه بهذه الصّفةِ، لأنّنا إزاءَ صراعٍ يتجاوز لعبةَ الجاسوسيّةِ إلى لعبة الكتابة ذاتِها، حيث يقف البطلُ القصصيُّ في مواجهةٍ غير مألوفةٍ ضدَّ كاتبِه. يحاول أن يكون كلاسيكيّا قدر الإمكانِ: مخلصا ومتفانيا ومؤثِرًا وعامرا بتلك القيمِ الإنسانيّةِ المُثلى الّتي لا يكتسبُها المرءُ الطبيعيُّ بقدرما يكتسبُها الأبطالُ. لكنَّه يجدُ نفسَه في أرضٍ قصصيّةٍ متحرّكة كدوّامةِ رملٍ مخيفةٍ لا تُفهم قواعدها. يعابثه كاتبُه، فينقلُه من شخصية إلى أخرى، ويزوّدُه في كلّ محطّةٍ بالمعلومات الكافية للانتقال إلى المحطّةِ الأخرى: رجل المخابرات الأمريكيّ، سائق السيارة في الميناء، عاملةُ المخبرِ، نيل، تاجرةُ السلاح الهنديّةُ، السير كروسبي العميل البريطانيُّ، كاثرن بارتُن خبيرة الفنونِ، زوجُها الروسيّ أندري ساتور… في كلِّ مرّة، يعدّل البطلُ من منظورِه للعبةِ، ويحاولُ أن يبدأ بالتّحرّك وفقا للقواعدِ الجديدةِ، لكنّه يفاجَأ بتغييرِها. وفي كلِّ مرّةٍ يظنُّ نفسَه قد أحكمَ الخطّةَ، يجدُ أن خطّته مفضوحةٌ أو أخطأتِ الهدفَ. أحيانا بشكلٍ سخيفٍ كما حدث مع پريــا تاجرة السلاح الهنديّة الّتي هاجم البطلُ زوجها ظنّا أنّه هو المسؤولُ عن نشاطاتِها. نلمسُ في كلّ مرّة عبثا من الكاتبِ ببطلِه لأنّ الخديعةَ لا تغيّر شيئا من مسار الأحداثِ، ولا تمنحُ البطلَ إلاّ إحساسا مهينا بأنّه لا يسيطرُ على شيءٍ. هكذا، فقد أعصابه مع إصابةِ كاثرِن القاتلةِ. إنّها الفتاة الجميلةُ الّتي عليه أن يضمنَ سلامتَها كأيِّ بطلٍ قصصيٍّ محترمٍ، ولكنّ المفاهيمَ تتجاوزُه مرّة أخرى، فهاجم نيل، لأنّه كان يشعر أنّه يعرفُ أكثر ممّا يقولُ. والحقيقةُ أنّ نيل، يبدو أقرب إلى التجلّي القصصيِّ لكاتبِه. ينزل من علياءِ قلمِه كيسوعٍ داخلَ روايتِه ويتقمّص أحد شخصيّاتِه. ربما ليساعد بطلَه وربّما ليزيد من معابثتِه، وربّما ليعلن له في النّهايةِ انتصارَه عليه: اُنظروا إليه في نهاية القتالِ وهو يأتي في لحظة اليأسِ الأخيرةِ ليضحّيَ بجسدِه الفاني (جسد نيل الّذي يتقمّصه) ويُنقذَ بطلَه وينقذَ العالمَ! أيّة نرجسيّةٍ فاضت بها قمرته؟!
في لحظةٍ ما، بدا أنّ البطلَ قد انتصرَ في صراعِه مع كاتبِه: فهم قواعدَ اللعبة المعقّدةِ، وبدأ يعدّ خططه. استطاع خداع عدوّه الرّوسيَّ، ثمّ استطاع أن يسبق پريـا ويقتلها قبل أن تغدر بحسنائه. لكنْ كما سبق وأن ذكرتُ، فهو لم يتمكّن تماما من التخلّص من براثن كاتبِه. ورغم تصريح نيل في النهاية بأنّ "البطل" هو مدبّر العمليّةِ بأكملِها، فإننا نعلم أنّ الأحداث تجاوزته في النهاية وأنّ كلمة الفصل كانت له (أي نيل/الكاتب).
ربّما تعج أدبيات ما بعد الحداثةِ بهذا النّوعِ من الصّراعاتِ. لكنّ نولَن منحه الكثير من الطرافةِ والذّاتيةِ. تينيت هو سؤال الكتابة عن ذاتِها، وهو سؤال السّينما الكلاسيكيّةِ عن مستقبلِها في عالمٍ لم يعد يرضى بأكثر من ساعتين من العرضِ. لقد أرسى نولن نسقا مجنونا للفلمِ حتى يوضع في إطار الساعتين ونصف، والحقيقةُ أنّه كان يمكن أن يبلغ الساعات الثلاثِ دون أن يكون النسق مملاّ للمشاهدِ العاديِّ. وقد كان سيتخلّص حينئذ من حنقِ أولئك الّذين أصيبوا في كبريائهم من تعقيد الفلم وعدم تقبّلهم لحاجتهم إلى مشاهداتٍ أخرى لفهم دقائقِ القصّةِ وتفاصيلها.
وعلى أية حال، فتينيت ليس أفضل أفلامِ نولن وليس أسوأها أيضا. إنّه تجربةٌ فريدةٌ تنتمي إلى زمنٍ قد نتحسّر عليه قريبا.