مازالت الرّواية التّاريخيّة مصدرا للجدالِ وعرضةً لسوء الفهمِ في الأدبِ العربيِّ. إذ مازال الكثيرون يعتبرونها امتدادا طبيعيّا لكتبِ التّاريخ والسيرة، لما كان لهذه الكتبِ من استنادٍ إلى الأسلوب القصصيِّ الّذي لم يقطع معهُ تماما. ها نحن نقرأ لأولئكَ الّذين يدّعون كتابةَ التّاريخ للعامّةِ ـ مثل راغب السارجاني ـ أو الّذين يقرأُ العامّة لهم كأنّهم مؤرّخون ـ مثل طارق السويدان ـ فإذا تاريخهم قصصٌ محكيّةٌ فيها ما فيها من ألوان الدّراما والأبطال. وإذا القصّةُ والتّاريخُ جسمٌ وروحٌ لذاتٍ واحدةٍ. فليس غريبا إذا أن تُعاملَ الرّوايةُ الأدبيّةُ التّاريخيّةُ من بابِ دقّتها التاريخيّةِ، وأن يتساءل القرّاءُ أوّل ما يتساءلون: هل حدثت وقائعُ نازلةِ دار الأكابر بالفعل؟
ولئن كانت الإجابةُ عن هذا السؤالِ لا تعنينا في شيءٍ، فإنّ ذلك لا يجعلُ الرّوايةَ التّاريخيّةَ في حِلٍّ من الدّقّةِ التّاريخيّةِ. فكما أنّها ليست دراسةً علميّةً تجعلُ من الحقيقةِ التّاريخيّةِ أو تحليلِ الوقائع التاريخيّةِ مبحثها، فليست أيضا فانتازيا تاريخيّةً تستعملُ السّياقَ التّاريخيَّ مَطيَّةً استيطيقيّةً لقَصصٍ متعالٍ عن كلِّ عاملٍ زمنيٍّ.
توجدُ الرّوايةُ التاريخيّةُ في منطقةٍ وُسطى بين هذين. فهي إذ تُلقي بالأحداثِ في لجَّةِ بيئة زمنيّةٍ معلومةٍ، مُطالبَةٌ باحترامِ هذه البيئةِ وتفاصيلِها وعناصرِها. وفي الآن ذاتِه، تُطالبُها طبيعتُها الرّوائيّةُ بعدمِ التّوقّفِ عند الحقيقةِ المعلومةِ، والاندفاعِ نحو تلك الأركان المُظلمةِ الّتي تغافلت عنها الوثائقُ، أو عجز المؤرّخ عن تسجيلِها لطبيعتِها المتعاليةِ عن القياسِ: فلئن أكّد لنا التّاريخُ حقيقةَ وجودِ الطّاهر الحدّادِ، وحقيقةَ محنتِه، فهو لم يحدّثنا عن مشاعِره تجاه ما حدث معه حديثا مستفيضا، ولم يحدّثنا عمّا اعتملَ في صدره، وعمّا دفعه للكتابةِ الخ.
في مثل هذا المجالِ، يمكنُ أن يجدَ الرّوائيُّ قوتَه. ويمكن أن يمنحَ السّرديّةَ التّاريخيّةَ الحياةَ بخيالهِ، ورُبَّ خيالٍ ينسجُ لبَّ الحقيقةِ.
إنّ روايةَ نازلة دار الأكابر تاريخيّةٌ بامتيازٍ، لا تكادُ تمنحُ القارئَ المتفحّص ثغرةً تاريخيّةً واحدةً، لا في التّواريخِ (فحين تحدّثك عن حكومة الهادي الأخوة، فأنت حتما في زمن سردٍ يقابل زمن نشاط تلك الحكومة)، ولا في الأعلام، ولا في الأحداثِ السّياسيّةِ، ولا في المواقفِ، ولا في تفاصيل الحياةِ اليوميّةِ. لكنّها في المقابلِ، تصولُ بجرأةٍ وحرّيّةٍ وسط كلِّ هذا لتنسجَ أحداثا دراميّةً كثيفةً خياليّةً، كأنّها ضربٌ من "الواقعِ المُعزَّزِ" Augmented Reality.
تبنِي أميرة غنيم نازلتَها على وتديْنِ تاريخيَّين، حفل صدورِ كتاب امرأتُنا في الشريعة والمجتمع في الكازينو البلدي بحديقة البلفدير سنة 1930، ثمَّ وفاةُ صاحب الكتابِ في السابع من ديسمبر سنة 1935. فتعزّزُهما بوتديْن دراميَّين متخيّليْن يرافقُ كلُّ واحدٍ منهما وتدًا تاريخيّا في الزّمن. فالأوّلُ زواجُ زبيدة بنتُ آلِ الرّصّاعِ بمحسنِ بن آل النّيفر. والثّاني هو النّازلةُ الّتي حدثت في دار "الأكابر" إثر وفاة الحدّاد. وهي مرافقةٌ لها دلالاتُها بدون شكٍّ. فقد قابلت زبيدةُ قرارَ أبيها المتعلّم "الحداثيِّ" بتزويجِها من رجلٍ لا تعرفُه، بصمتِ المغدورِ. إنّه ذاتُ الغدر الّذي تعرّضت لهُ "امرأة الحدّادِ" في حادثةِ الكازينو من قبل رجال الحزب الدستوريِّ ومثقّفي البلادِ المضطلعين بمهمّة تنوير التّونسيّين وقيادتِهم في حربِ التّحرير والاستقلالِ. ومع موتِ الحدّادِ منفيّا ومعزولا ومكفَّرًا، قُضيَ على "امرأتِه" أن تُوصَمَ وتُشلَّ وتُعزَلَ هي الأخرى، وتتعرَّض لذات المظلمةِ من ذات الطبقةِ تقريبا.
هكذا، فقد سارتْ روايةُ نازلة دار الأكابر في توازٍ خفيٍّ مع علاقةِ الطّاهر الحدّاد المحتدَّةِ مع النُّخبة التّونسيّةِ. إذ تمَّ تمثيلُها عبر عائلتَيْنِ بَلْدِيَّتَيْن متبايِنَتيْنِ بل مُتكامِلتَيْنِ. فأمّا عائلةُ آل النّيفر فتمثّلُ الأرستقراطيّةَ الدِّينيَّةَ المحافظةَ (قاضي الإسلام عثمان النِّيفر)، وأمّا عائلةُ آل الرّصّاع فتمثّلُ أرستقراطيّةَ المخزن أو رجال الدولةِ البَيْلَكِيَّةِ (الموظَّف الكبيرُ عليّ الرّصّاع وصهره الوزير الأكبر محمد الطيب الجلولي) ونسبت إليها قِيم الحداثَة والانفتاح بما أنّ أغلب المصلحين الّذين دفعوا إلى ذلك قبيل الاحتلالِ كانوا من هذه الفئة (الجنرال حسين، خير الدين، الخ).
لم تكن أميرة غنيم إذا تبحث من خلالِ العائلتَيْن عن الاكتفاءِ بنقل تفاصيلِ الحياةِ الارستقراطيّة البَلْدِيَّةِ، وإنّما سعت إلى تفكيكِ بِنيَتِها الاجتماعيّةِ والثقافيّةِ. كان من المُدهشِ أن تكشف الكاتبةُ عن تقاربِ هذيْن الشقّيْن رغم تنافُرِهما الظَّاهر. فهاهو عليّ الرّصّاع على ما كان يُبديه من تحرّر واندفاع نحو قِيمِ الحداثةِ والعقلانيّةِ، لم يكن قادرا على التَّملُّصِ من عنصريّتِه الاجتماعيّةِ، وهاهو في عدائِه الجِهويّ والاجتماعيِّ يُنشدُ السّندَ والحلَّ عند من يبدو نقيضَه، عثمان النّيفر المحافظ "الرّجعيَّ". وهاهي زُبيدةُ على ما تُبديه من تعلّقٍ بصفيّتِها "لويزة" ورفضٍ لمعاملتِها معاملةً دونيّةً، تعودُ في أوّل تشنّج يخرجُ بها عن طورِها لتصِمَ خدّوج الخادمة السّوداء بكلِّ ما يمكن أن تصمَ بِه امرأةٌ بَلْدِيّةٌ امرأةً سوداءَ فقيرةً.
صحيحٌ أنّنا إزاءَ رُؤيتيْنِ مختلفتيْنِ للعالمِ، رؤيةٌ كلاسيكيّةٌ محافظةٌ وأخرى حداثيّةٌ متحرّرةٌ، لكنّهما في النّهاية رؤيتان متكاملتانِ، تؤلّفان في جدليّتِهما غلافا اديولوجيّا مزركشا لطبقة اجتماعيّةٍ واحدةٍ ذهبَ الحدّادُ ضحيّتَها.
إنّ مشروعَ الطّاهر الحدّاد على ما أبداهُ عليّ الرصّاع ومحسن النّيفر من حماسٍ تجاهه، هو مشروعٌ مغايرٌ لرؤيتِهما، هو مشروعٌ أكثر اتّصالا بمحمّد عليّ الحامّي (الثوريِّ) وعبد العزيز الثعالبي (الإصلاحيِّ المحافظ) على السواءِ (وهي قراءةٌ أختلفُ فيها مع الكاتبةِ فلئن كان الطّاهر الحداد تلميذ الثعالبي، فإنّ الثاني ربّما لم يكن موقفه ليختلف كثيرا مع من خلفوه في الحزب الدستوريِّ وله مواقفُ طبقيّةٌ موثّقة).
تنتصرُ أميرة غنيم لرؤية الطاهر الحداد، رؤية التحرّر الحقيقيِّ العابر للطبقات، رابطةً بينها وبين الرؤيةِ البورڤيبيّةِ الّتي تبنّتها منذ بداية الاستقلالِ. فالخصمُ واحدٌ لكليهما: نخبة الزيتونة، ونخبة الحزب الدستوريّ القديمِ. فهل كانت الرؤيةُ البورڤيبيّةُ امتدادا حقيقيّا لمشروع الطاهر الحداد؟ وهل كان المدُّ التحريريُّ الّذي أراده الزعيمُ التّونسيُّ، عابرا للطبقات والجهاتِ؟ لا أتّفق مع المؤلّفةِ في ذلك ـ وإن لم تذكر ذلك صراحةً. وعلى كلِّ حالٍ فليس في ذلك ما يعيبُ الرّواية في فنّها.
كتبت أميرة غنيم نازلة دار الأكابر بأسلوب جديدٍ على المدوّنة التّونسيّةِ ومألوفٍ في المدوّنة العربية، فنحن نجده عند جبرا إبراهيم جبرا في رائعته "البحث عن وليد مسعود"، وفي "افراح القبّة" لنجيب محفوظ، وكثيرا ما استخدمه أحمد خالد توفيق في رواياتِه القصيرة. فتنقلُ كلَّ فصلٍ على لسانِ إحدى الشخصيات، تخاطبُ بهِ شخصيّة أخرى أو تناجي به وليّا صالحا كما في فصل فوزيّة. وعلى عكس ما تتميّز به حكاياتُ أحمد خالد توفيق مثلا من حِرفيّةٍ في انتقاء الشخصيّة صاحبةِ الخطابِ وانسجامِها مع نمطِ الخطابِ والمخاطَبِ وطبيعةِ الخطابِ، لا تكادُ كاتبتُنا التّونسيّةُ تُلقي بالا لكلِّ هذا، فكثيرا ما لا نعلمُ محمل الخطابِ هل هو مكتوب أم شفويٌّ، مسجَّلٌ أم مباشرٌ، وكيف انتقل إلى هندٍ حديثُ فوزيّة الأميّة الّتي ناجت سيدي محرز في ليلةٍ مخيفةٍ. كما لم تنشغل كثيرا بمقام الخطابِ، فاختيارُ المخاطَبِ يبدو عشوائيّا، اللهمّ إن تجاوزني منطقُ اختيارِه. وكأنّ ذلك تسبّب في فتور في انسجامِه. فهلاّ رأيتَ كيف يُسرُّ العجوزُ امحمّد النّيفر المحافظُ لابن أخيه، الشخص الوحيد الّذي يُبدي له شيئا من التّقدير، بكلِّ يسرٍ وسلاسةٍ قصصا يراها تُشينُه فدأب على إخفائها؟ وحتى إن لم يرَها كذلك، ففيها الكثيرُ من الحميميِّ الّذي يجد المتحرّرُ صعوبة في حكايتِها لابنه، فما بالكَ بالمتزمّتِ؟
على أنّ الروائيّة سعت في أسلوبِها السّرديِّ أن تحترمَ منظورَ الشخصيّةِ المخاطِبة على الأقلَّ، بل كان ذلك دافعا رئيسيّا لاختيار هذا الشّكل السرّديِّ. فنتجت عنه فسيفساءٌ سرديّة بديعةٌ متشابكةٌ ثريّةُ الألوانِ، كثيرة التفاصيلِ، متنوّعة الآراءِ، تنقلُ الحقيقةَ في اختلافِ أوجهها ونسبيّتِها. يكتب التاريخَ عادةً المنتصرون، وتستثني روايةُ نازلة دار الأكابر نفسها من القاعدةِ، فتعطي صوتا للجميع تقريبا، ابتداء بأصحاب الأصوات الضخمة من رجالٍ مثقفين (محسن، المهدي، عثمان، عليّ)، إلى بناتِ الطبقة الارستقراطية (بشيرة، جنينة، فوزية ربما) انتهاء ببناتِ الطبقة الدنيا (لويزة وخدّوج). وذهب شكري المبخوت في تقديمِه إلى أنّ التاريخ في النّازلة، تحفظه النساء. وهذا ليس صحيحا، فمن بين الناقلين الإحدى عشر للأحداث، نجدُ خمسة رجال. وإذا ما اسثنينا هندا وهي النّاقلةُ الّتي لا دخل لها في الأحداث بأيِّ شكلٍ، فسنجد مساواةً تامّة بين الجنسيْنِ. بل إنّنا لو تمعّنّا في متحوى خطابِ كلِّ شخصيّةٍ، سنكتشفُ أنّ أبرز الأحداثِ نُقلتْ عبر الشخصيات الرجاليّةِ. استثنت الكاتبةُ مهدي الرصاع وامحمّد النيفر من سرد بعض أحداث الليلةِ، وكذلك فوزية وخدّوج. نقلت لويزة إلينا بداية الحادثة، ونقلت جنينة جزءا هامّا من خصام محسن وأخيه، ولم تنقل لنا بشيرة أكثر ممّا حدث بينها وبين جنينة بكثير. في الأثناء، يصف عليّ وعثمان حادثة لقائهما في تلك الليلة، ويسرد عثمان جزءا مهمّا متعلّقا بقتال زبيدة وامحمّد النيفر. أما محسن، فنجد عنده أهم أجزاء السرديّة، فنعلم ما آلت إليه الليلةُ، ونعلم نتائجها على زبيدة، بل نعلم أيضا نصّ الرسالة الّتي فجّرت كلَّ ذلك...
وأكثر ما يلاحظ في اختيار الشخصيّات الرّاويةِ، أنّه لم يمنح صوتًا للحدّاد نفسِه ولا لامرأتِه. وهو خيار متعمّدٌ لسببيْن، أوّلهما أنّ الصّوتيْن سيحجبان بلا شكّ بقيّة الأصواتِ في ما يخصّ الواقعة. فإذا علمها المرءُ من مصدرها، لم يعد بحاجة إلى سماعها من غيره. أما الثانية، فهي الإلحاح على الفصل بين التاريخيِّ (الطاهر الحداد شخصيّة تاريخيّة واقعية) والمتخيّل (بقية الشخصيات الفاعلة). ليس الطاهر الحداد شخصيّة رئيسيّةً في الرواية، ولكنّه محورُها أي موضوعُها، وبالتالي فمن الأفضل أن يتمّ الحديثُ عنه كموضوع لا كشخصيّةٍ. سنرى مواقف الشخصيات منه، ونراها تقريبا أمامَ أفعاله التاريخيّة الموثقة، شاهدةً أكثر منها مشاركةً (حفل الكازينو، موقفه من الحزب القديم، الخ). هذا أسلوب مألوف في الكتابةِ، يمكن أن نجده في روايات شهيرةٍ وفي أعمال دراميّة أخرى (غاتسبي العظيم، المواطن كين، الخ). ولقد أرادت أميرة غنيم لشخصيّتها المتخيّلَة الرئيسية زبيدة أن تكون محورا وموضوعا ربّما أكثر أهمّيّة من الطاهر الحداد نفسه. تمثّل زبيدة امرأة الحدّاد، مشروعه الّذي نحته. كيف لا وقد كانت تلميذته؟ ليس موضوع الروايةِ الطاهر الحداد، وإنما امرأة الحدّاد. أما النازلة، فكانت رفض هذه المرأة ووصمها بالعارِ.
اِعتنت الكاتبةُ كثيرا بتباين شخصيّاتها لما لكلٍّ منهم من دلالةٍ، ولكنّها لم تنجح في إسقاط ذلك على مستوى الأسلوب. لا شكّ أننا نجدُ في الخطابِ النّسائيِّ حضورا أكبر للبيتِ وللفولكلورِ وللعناصر الماديّةِ (الأكل، النظافة) مع بعض المقاطع الفكريّة ذات الطابع التعليميِّ (لويزة وفوزية وخدّوج يتلقّين معارف مختلفة أو يكتشفن أفكارا جديدة، وكذلك الشأن مع جنينة في حديثها عن المرسح) أمّا الخطاب الرجاليُّ فتغلب عليه الأفكارُ السياسيّةُ والاديولوجيّةُ. في حين يشملُ الخطابُ العاطفيُّ الجميع على السواءِ. لكنّ كلّ هذا الاختلافَ يُحمَلُ على أسلوب لُغويٍّ واحدٍ لا يتغيّرُ، فلا نكاد نجدُ فروقا كبيرة في الخطابِ بين قاضي الإسلام عثمان النّيفر، وخدّوج الخادمةِ الأُمّيّةِ. ولا يملك أحدهما تشبيهاتِه الخاصّةِ ولا مرجعيّاتِه الّتي تميّزُه. ولئن حاولت أميرة غنيم أن تُثبِّتَ ذلك، في بداية نصوصها إلاّ أنها ارتكست سريعا.
لا اختلاف في جمالية لغةِ نازلة دار الأكابر، ولكنّه جمالٌ رتيبٌ لا يحيدُ عن نفسِه، لا متى اختلفت الشخصيات، بل متى اختلفت طبيعةُ الخطابِ أيضا. فلحظات التوتّر كلحظات الدّعةِ، ولحظاتُ الاكتشافِ كلحظات التأمّلِ تقريبا. وما ينوّه به في لغةِ النصّ، سلاستُه وسلامتُه وفصاحتُه المُبينةُ.
أمّا على مستوى القصِّ، فقد عبّر اختيارُ نمط السّرد عن تمكّن كبيرٍ افضى إلى بناءٍ قصصيٍّ شديد التماسك والانسجامِ رغم تفرّعه إلى قصص جانبيّةٍ كثيرةٍ، وإلى تشظّ على مستوى زمن السّرد عبر نحو أكثر من نصف قرن (بين 1949 و2013) بدون أيّ ترتيب. نلحظ بسبب ذلك بعض فتورٍ في السيناريو لا مناص من ذكرِه لقيمته. فقد تردّت علاقةُ محسن وزبيدة بُعيدَ الحادثةِ، وعرفنا ذلك منذ البداية تقريبا. لكنّنا لم نعرف عن شلل زبيدة إلا في منتصف النصّ، (بل الأقرب في نهايته). ورغم أهميّة الحادثة، فلم تبدُر أيّة إشارةٍ إلى إمكانيّةِ تأثيرها على العلاقةِ بينهما. وإن كان يمكنُ تفسير ذلك بالنّسبة إلى محسن الرّاوي، على أنّه يملك سببا آخر لاعتزال زوجته، فلا يمكن أن نفسّر جنوح زبيدة إلى تفسيره بانصراف الرّجلِ إلى خدّوج، ولم يدر بخُلدِها مثلا أنّ الأمر عائدٌ إلى شللِها. لقد بدا شللُ زُبيدة طارئا على النّصّ ليس أصيلا فيه، لم يُقرأ له حساب في البدايةِ، فخلت الإشارةُ إليه وجنينة تروي لنا تفاصيل زيارتهم إلى دار الرّصاع سنة 1949، فكانت زبيدة تسلم على أمّها قبل أن تهرع إلى أبيها رفقة محسن وأمّيْهما، كأنّ ليس بها علّةً أو مرضا. ولم يهتمَّ أحدٌ من عائلتِها بشللها هذا حتّى إنّهم لم يزوروها وواصلوا مقاطعتها طوال السنين الثلاثة عشر. أمّا زبيدة، فيبدو أنّ الشلل لم يُثنها عن إعدادِ نفسها لزوجها وإغرائه باللبس والحرقوس والشموع، وقد تكون لويزة مساعدتها في ذلك، ولكنّ من الغريب أن تُشرك زبيدة صديقتَها في هذه المسألة الحميميّة لرِفعة النّفس والكتمان الّتي تميّز شخصيّتها. بل من الغريب أن لا تشعر منذ شللها بالعجز والحاجة إلى العزلة وربما عقدة الذنب إزاء فكرة كونها لم تعد امرأة مكتملة الصحّة ممّا يغري الرّجالَ… وحتى امحمّد النيفر الّذي تحدّث قبل فوزيّة أي قبل الكشف عن شلل زبيدة، فلم يبادر إلى تبرئة نفسِه أمام ابن أخيه وابن زبيدة من تهمةِ إيذائها. ممّا يعزّز نظريّة إضافتِها في ما بعدُ للنصّ. ربّما لدلالةٍ ما على وضعيّة المرأة التونسيّةِ الّتي مع إيذاء الحداد وبتر مشروعِه، ورغم انتصار بورڤيبة له، ظلّت مُقعدةً لا تطالُ كلَّ حقوقِها. وربما لدلالة أخرى لم ترد ببالي، على أنّها في كلّ حالٍ وردت في النص مهلهلةً فأقضّت تمساكه وانسجامه.
روايةُ نازلة دار الأكابر، عملٌ ضخمٌ جادٌّ ومسلٍّ يذهب بالقارئ إلى ثلاثينات القرن الماضي في تونس، فيجيد الرّحلةَ، ويعود به بتساؤلات متنوّعة. ويربط بشكل ذكيٍّ بين قضيّة المساواة وقضيّة الطبقيّةِ الاجتماعيّةِ. إنّه خطوة مهمّة للأدب في تونس، ينبغي أن تُدعمَ حتّى يرتفع المستوى الأدنى المقبول، وتقاطَع النّصوصُ الّتي لا ينحتُها أصحابُها بمثل هذه الجدّيّة والتفاني.