في عصر أجهزة الـVHS العظيمة، كانت أشرطة الفيديو عن مسيرة مارادونا وإبداعاته عملةً نادرة، بمعنى قيّمة. لم يكن آنذاك مفهوم Jogo Bonito (اللعبة الجميلة) معروفا بالمعنى الّذي قدّمته نايكي بعد ذلك بسنوات: كرة القدم كفنّ استعراضيٍّ1. لكنّ مارادونا الّذي تُعتبر حركاتُه الإحمائيّةُ وحدها عرضا يستحقّ شراء تذكرة والدخول إلى ملعب ناپولي، سبق تطوّر كرة القدم بالفعل، وكوّنت لقطاتُه الفرجويّةُ العجيبةُ مادّة استعراضيّة ضخمةً نتهافت عليها في أشرطة الفيديو النّادرة. تكثيف بصريّ للكثير من الـ "واو" والـ"هاه؟!" والـ"ماذا؟" والـ"كيف؟" على مدى ساعة أو ساعتين. ظلّت هذه الأعمالُ ذات قالب صحافيّ إخباريّ بالأساس، يروي القليل من حياته ويعرض الكثير من إبداعاتِه. ويبدو أن الأفلام الفنّيّة الّتي أُخرجت عنه لم تأتِ إلا في وقت متأخر قليلا، خصوصا بعد تجاوز محنته مع المخدّرات. ولئن كانت مثل هذه الأعمال تهمّ أحبّاء كرة القدم بشكل خاصّ، فإن أغلبها يأخذ بُعدا إنسانيّا جديرا بخوض غماره والتّأمّل فيه. ها هنا اثنان من أشهر الأعمال السينمائية الّتي تصوّر پورتريه الأسطورة الأرجنتينيّة:
لقد عمد الفلمُ إلى تلميع صورتِه إلى حدّ لا يثيرُ الرّيبة ولكن يدعو للتساؤلِ. وكان أكثر ذكاءً في التّعامُل مع مآسي مسيرته من أمجادِها. فأبرز الإنسان الّذي خابَ ولم يوفّق مثلما وُفّق لاعبا، وابرز قُدرتَه على الإقرارِ بأخطائه الماضيةِ، وواقع تجاوزِه لمخلّفاتِها. والأكيد أن كوستُريتشا ما كان يرسم في مارادونا صورة هذا الثوريِّ الفذِّ والإنسان النقيِّ إلا ليحتفيَ ببطلٍ آخر هو كوستُريتشا نفسُه.
ولأنّ كوستُريتشا لا يملك من كاريزما البطلِ ولا مسيرته ما يؤهّله لتلك المنزليّة المؤلَّهةِ، فقد صاغها من خلال مقارباتِه المستمرّةِ والخبيثة بين مسيرتِه ومسيرةِ مارادونا. فهو أيضا كفنّانٍ صربيٍّ ثائرٍ ضدّ الغربِ المعتدي على بلده، يرى في أعمالِه المتوّجة في العواصمِ الأوروبيّةِ مثل "تحت الأرض" Underground، قصاصا فنّيّا من المعتدين على بلادِه. وما فتئ يسترجعُ لقطاتٍ من أعمالِه الشهيرةِ في كلّ لحظة تقاطُعٍ معه، حتّى كأنّ الفلمَ بات سيرة ذاتيّةً مقنّعةً.
على النّقيض من قراءة كُستُريتشا الّتي تحاول أن تعكس الواقع العالميَّ على مسيرةِ مارادونا وشخصيّته، عكسَ المخرج البريطانيُّ آسيف كپاديا شخصيّةَ اللاّعبِ-الموضوعِ على الواقعِ العالميِّ، أو بشكل أدقَّ: على لحظةٍ عالميّةٍ فارقةٍ.
بينما كان مارادونا يواجُه صفوة اللاعبين على الميدان ويلقّنُهم الدّروس ويفاجئُهم بعبقريّة لا قِبلَ لهم بها، كان دييڤو في عالمه الجديدِ مضطرّا لمواجهةِ خصمٍ لم يختره ولم يتعلّم مطلقا كيفيّة التّعامل معه: إنه الإعلام.
في فلمِ "عَدَّاء المُقدّمة" The Front Runner ينبّهنا المخرجُ جيسون رايتمان إلى خطورةِ ما حدث مع المترشّح لرئاسة البيت الأبيض ڤاري هارت Gary Hart الّذي كان يمضي بثبات نحو الانتصار بفضل مشاريعه وجدّيّته وأفكاره، لولا أن حوّل الإعلامُ آنذاك وجهة النّقاش السياسيّ إلى فضيحة شبهة خيانة زوجية حاول المترشح (وزوجتُه) تجنّب الخوض فيها بكلّ السبل لكنّه رضخ واستسلم وانسحبَ معلن بدايةَ عصرٍ إعلاميٍّ جديدٍ تعويميٍّ يخلق حميميّةً افتراضيّة مفتعلة مع الشخصيّة العامّة ويجرّدُها من كلّ إنسانيّة بدعوى إكسابِها ملامح إنسانيّة. لقد خسرَ نائب الشعب الأمريكيّ حربَه في الثمانيناتِ مع هذا الغول الجديدِ، فما بالك بولدٍ في السادسة والعشرين من عمره قادما من حيّ فقير في بوينس أيرس؟
لم يكن التعويمُ هو الطّارئ الوحيد في عصر الإعلامِ الجديدِ، فقد كان مارادونا أوّل لاعب كرةٍ يحتلّ منزلة نجوم الفنّ المثيرةِ، وربما لم يسبقه من الرياضيّين إليها سوى الملاكم الأسطوريّ محمّد عليّ. وكان على دييڤو مرّة أخرى أن يواجه تلك المنزلة الّتي لم يسبقه إليها مُحيطُه. كان مارادونا عبقريّا لا يحتاج إلى أي شيء خارجيٍّ لينجحَ. حسبه النّور الّذي قذفه الله فيه ليواجه أيّ خصم مهما علا شأنُه. أمّا دييڤو فقد كان شخصا عاديّا في مواجهة آلةٍ مخيفةٍ لا يعرفُها أحدٌ من محيطِه بعدُ. وبينما تمارسُ النوادي اليوم إجراءات حمائيّةٍ للاعبيها وتؤطّرهم وتعلّمهم كيف يتحدّثون إلى الإعلام وكيف يواجهون محاولات التطفل، وكيف تمنعهم من التعبيرات الطائشة ومن كشف جوانب حيواتِهم الشخصيّة، لم يكن هناك أحدٌ مع دييڤو لأنه لم يكن هناك أحدٌ قد واجه هذا الشيء من قبل. وفي مشهدٍ مرعبٍ يجدُ دييڤو ابنه الّذي وُلد لتوّه حذو أمّه الّتي تتحدّث لإيطاليا عن علاقتِهما الحميميّةِ، ويجد نفسه مضطرّا لمشاركةِ حياتِه الشخصيّة مع العالمِ...
مع كپاديا يمكن أن نفهم أكثر النّهاية المأساويّة: فهذان الصّراعان اللّذان يخوضُهما اللاعبُ والإنسانُ لا يمكن أن ينتهيَا إلا بأن تؤثّر نتيجةُ أحدِهما على الآخر. ولقد كانت غلبةُ خسارةِ دييڤو واضحةً ولا شكَّ، فحتّى لو امتلك عبقريّة "مارادونا"، ما كان له مواجهةُ كلّ تلك الخصومِ: عصرٌ إعلاميٌّ جديدٌ، ومافيا لا ترحمُ، ومنزلةٌ فوق-بشرية لا تُحتملُ، وعالمُ مخدّراتٍ وجريمةٍ كان عليه وهو شابٌّ في السادسة والعشرين أن يواجهه بحكمة رجلٍ في الأربعين.
هذا هو دييڤو أرماندو مارادونا في مختلف تجلّياتِه، كما قدّمته السينما: فنّان عبقريٌّ، ونبوغٌ مثل الأنبياءِ لا يمكن تحصيلُه بمجرد العملِ الشّاقّ، وتعبيرةٌ محتجّةٌ على تحوّلات عالمية مخيفةٍِ في لحظةٍ فارقةٍ ربّما مرّت بنعومة أكثر ممّا ينبغي. ها نحن ذا ننعى الحنين إلى ما قبلها في عالمٍ يرزأ تحت أصدائها.