أتأمّل أصابع يديَّ الغليظة بحيرةٍ أخالُها تميّزني. أتساءل ماذا تراني أكونُ بأصابع أكثر رقّةً أو أقلَّ؟ لو اختلفَ ذلك الجينومُ العشوائيُّ المسؤولُ عن شكلِ بناني بقدرٍ تافهٍ، أكنتُ سأحتمل عصا المعلّم وأتجاوزُ فيما بعدُ مهوّنا ومنسّبا؟ أكنتُ سأبقى فاشلا في معاملةِ الفرشاةِ والألوانِ، أم أصبح مرهف الحسِّ انطوائيّا كأولئك الرّسامين العظام؟ كأنّ أصابعَك تكتبُ حياتَك قبل أن تعلِّمها الكتابة. وكأنّها من قبل أن تكونَ لك، أذعنت وفيّةً لذلك الكائنِ السّرمديّ الّذي تجلّى حضورُه وتعذّرت ملامِحُه ونسمّيه من جملة ما نسمّيه، قومًا. إنّها لحقيقةٌ مثيرةٌ تلك الجدليّة الواقعةُ بين الذاتِ المفردة والذات الجماعيّة، وإنّها في إثارتِها تستنهضُ خيالات الفنّانين وحواسَّهم، فيعبّروا عن هذه عبر تلكَ وعن تلك عبر هذه، فلا تلتئم تعبيراتهم إلا في قالب ملاحمٍ تاريخيّةٍ فارقةٍ سواء في الأدبِ أم في السينما. وليس فلمُنا، وداعا يا خليلتي Farewell My Concubine، إلاّ إحداها.
لا أعرف متى بدأ استعمالُ هذه العادةِ-التقنيةِ، وأعترفُ أنّني في بحثي لم أجد أيّ تأصيلٍ لها. لكنّها تتكرّر في الفنونِ الروائيّةِ بشكلٍ عامٍّ. ربّما منذ روايةِ الأمّ لمكسيم غوركي Макси́м Го́рький أو حتّى قبلها. وفيها يُختصرُ الوطنُ/القومُ في بطلٍ واحدٍ، وتأخذُ الأحداث التّاريخيّةُ الكبرى للوطنِ نفسًا شخصيّا فتصبح أحداثا فارقة في حياةِ بطلِ القصّةِ. وفي أغلب هذه القصصِ، يحضرُ كلاهما بتزامنٍ محبوكٍ، فكلُّ حدثٍ على مستوى الوطنِ يقابلُه حدثٌ مهمٌّ في حياةِ الشخصية البطلةِ. أتحدّث هنا عن أعمالٍ سينمائيّةٍ مثلَ دكتور جيفاغو Dr Zhivago أهمّ أدوارِ عمر الشّريف في مسيرته، أو طبل الصّفيح Die Blechtrommel أو الفلمِ الأكثر شهرةً من هذا النّوع، فورست ڤامپ Forrest Gump.
لا أعرف متى بدأ استعمالُ هذه العادةِ-التقنيةِ، وأعترفُ أنّني في بحثي لم أجد أيّ تأصيلٍ لها. لكنّها تتكرّر في الفنونِ الروائيّةِ بشكلٍ عامٍّ. ربّما منذ روايةِ الأمّ لمكسيم غوركي Макси́м Го́рький أو حتّى قبلها. وفيها يُختصرُ الوطنُ/القومُ في بطلٍ واحدٍ، وتأخذُ الأحداث التّاريخيّةُ الكبرى للوطنِ نفسًا شخصيّا فتصبح أحداثا فارقة في حياةِ بطلِ القصّةِ. وفي أغلب هذه القصصِ، يحضرُ كلاهما بتزامنٍ محبوكٍ، فكلُّ حدثٍ على مستوى الوطنِ يقابلُه حدثٌ مهمٌّ في حياةِ الشخصية البطلةِ. أتحدّث هنا عن أعمالٍ سينمائيّةٍ مثلَ دكتور جيفاغو Dr Zhivago أهمّ أدوارِ عمر الشّريف في مسيرته، أو طبل الصّفيح Die Blechtrommel أو الفلمِ الأكثر شهرةً من هذا النّوع، فورست ڤامپ Forrest Gump.
في كلِّ هذه الأعمال نتابع قصّة شيّقة عن شخصيّة استثنائية، تقع أحداثُها أمام خلفيّةٍ تاريخيّة عامرةٍ بالأحداثِ والتقلّباتِ في بلدٍ بعينهِ. فنعيدُ اكتشاف هذه الأحداث والتعرّف عليها من منظور بطلنا، الّذي وإن أبدى حيادا فهو لا يستطيع أن يخفي مواقفَ المخرجِ المؤلّفِ الّتي مرّرها عبره. هكذا يتيحُ هذا القالبُ فُرصتيْن: الأولى هي التعليق على الأحداث التّاريخيّة بشكل ضمنيٍّ أنيقٍ، والثانيةُ هي البحثُ في العلاقةِ بين الفردِ والجماعةِ. بل دفعُ المشاهدِ إلى العثورِ على الجزء الّذي يمثّله من بين الأجزاء المكوّنة للجماعةِ، وإسقاطِ ذاته عليهِ (الجزء) وتحقيق التّماهي Identification. لا شكّ أنّ أغلبَ هذه الأعمال لا يخلو من الدعاية السّياسيّة أو الشوفينيّةِ. هل حدث ذلك مع الفلمِ الصّينيِّ الشهيرِ "وداعا يا خليلتي"؟
لمن لم يسمع عن الفلمِ Farewell My Concubine 霸王別姬، فهو دراما تاريخية شهيرة، أخرجه "تشن كَيكه" Chen Kaige سنة 1993 من جملة ما أخرج روّادُ الجيل الخامس منذ منتصف الثمانينات. ورغم الترحيب الّذي قوبلت به أعمالٌ أخرى سابقة في العالمِ الغربيّ، إلّا أنّ "وداعا يا خليلتي" هو أوّل فلم صينيّّ يظفر بسعفة كانّ Cannes الذهبيّة (والوحيد) وهو الأول في الترشّح إلى أوسكار الفلم الأجنبيِّ. لا شكّ أنّ احتفاء الغرب بفلمٍ قادم من بلاد يحكمها نظام شموليٌّ يثيرُ العجبَ والفضولَ، ولا يُفهم إلاّ انطلاقا من السّياق الّذي أنتج فيه. فقد انتهجت الصّينُ سياسة الانفتاح الاقتصادي منذ نهاية السّبعينات وسمحت بدخول المال الأجنبيِّ في قطاعات محدَّدة وتخرج الجيل الخامس من السّينمائيين مع بداية هذه السّياسة. إنّه أيضا جيلُ انفتاحٍ ثقافيٍّ لا يعادي الغربَ وإنّما يمدّ يدَه إليه (وأشياء أخرى). ولئن بقيت الصيّنُ دولةً مركزيّة مراقِبةً مشرِفةً بشكلٍ مباشر على الإنتاج الثقافيِّ، إلاّ أنّ حاجتها لمنح نزق من الحرية لمبدعيها بشكل غير رسميٍّ أفرز علاقة سينمائيّة ثلاثية فريدة بين الصّينِ الوطن الأمّ وبين هونغ كونغ وتايوان. لا ننسى أنّ هونغ كونغ كانت تحت إشراف بريطانيٍّ حتى 1997، وأنّ صناعتها السينمائية كانت بالفعل رائجة في أنحاء العالم. فكانت تتبنى مشاريع الأفلام الفنية Art Films الصينيّة وتوزّعُها، خصوصا في تايوان حيث تلقى رواجا كبيرا1. وعبرها يتخلّص الفنانون الصينيّون إلى حدّ ما من الرقابة. أو لنقل، تتخلّص الدولةُ إلى حدّ ما من الحرج. وُلدَ "وداعا يا خليلتي" في هذا السياقِ ومن الضروريّ أن يُقرأ انطلاقا منهُ.
وكما ذكرتُ في البدايةِ، فالفلمُ قصّتان متطابقتان لذاتيْن، ذاتٍ فردية في شخص البطلِ الظاهر تشنغ ديَيْ Cheng Dieyi، وذاتٍ جماعيّة هي الصينُ نفسُها. فعبرَ قصّةِ ديَيْ منذُ دخولِه طفلا إلى مسرح بيكين حتّى وفاته، نتعرّف أيضا على قصّة الصّين في القرن العشرين. هكذا بدأت حكايتُه، سنة 1924 حين تخلّت عنهُ أمُّه المومسُ عند مدرسةٍ لتعليمِ أوبرا بيكين (وهو صنفٌ مسرحيٌّ تقليديٌّ). إنّها نفسُ السّنةِ الّتي تخلّت فيها الصّينُ عن آخرِ اباطرَتِها، بويِي Puyi وطردته من المدينةِ المحرّمة في بيكين (紫禁城). شبَّ دييْ داخل أسوارِ مدينة محرّمةٍ أخرى هي مدرسةُ الأوبرا إذ يحرُم عليه تجاوزُ أسوارِها. ومثله مثلَ رفاقِه الأطفال، تعلّم أسرارَ مهنة التّمثيل بكثيرٍ من القسوةِ الأصيلةِ الّتي تبدو كأنّما تميّزُ الطّابع الكونفوشيوسيَّ للبلاد. في مرحلةٍ لاحقَةٍ من طفولتِه، يتعرّضُ ديي إلى خيانةٍ جديدةٍ، هذه المرّةَ من معلّمه الّذي أشاح بوجهه حين دعاهُ ثريٌّ مسنّ إلى غرفته ليعتديَ عليه (وهو خصيّ). ناداه المعلّمُ باسم السيّد جانغ Zhang وهو الاسمُ المقترنُ بآخر أمراء الحربِ في بيكين قبل أن يتغلّب القوميّون الجمهوريّون ويسودون العاصمة. وبعد نحو عشر سنين، حين أصبح ديي ورفيقه شياولو Xiaolu نجميْ أوبرا ذائعيْ الصّيتِ، يفاجأُ الأوّلُ بظهورِ مومسٍ جديدةٍ في حياتِه. هذه المرّة لا تنفيه بعيدا، وإنّما تختطفُ قلبَ خليلِه ورفيق دربِه شياولو. وفي ليلةِ الزّفافِ، تدخل القوّاتُ اليابانيّةُ إلغازيَةُ مدينةَ بيكين. كان ذلك سنة 1937 تقريبا، واحتاج الأمرُ إلى انتظارِ استسلامِ اليابانِ سنة 1945 حتّى يعودَ القوميّون إلى استلامِ المدينةِ. وتزامن هذا الحدثُ التّاريخيُّ مع فراقٍ جديدٍ هو فراقُ المعلّمِ الّذي أسلم الروح. فكان تهليلُ الصّينيّين باستقبال القوميّين، أشبه بسير في جنازة المعلّم. لم تدم فترة القوميّين إلاّ ثلاثَ سنين، وعندما دخل الجيشُ الأحمرُ إلى المدينةِ وانتصب الحكم الشيوعيُّ فيها، كانت العبقريّةُ الفنيّةُ قد تخلّت عن ديي بسبب الأفيون، واحتاج لذلك وقتا لاستعادةِ نفسه. أما التّخلّي الأكبرُ، فبدأ بوشايةِ تلميذه شياوسر Xiao Si به للجان الحزب فجرَ الثّورة الثقافيّة، سنة 1966. وفي مشهد محاكمةٍ جليلٍ هو ذروة الفلمِ، يتخلّى الخِلّانُ بعضهم عن بعضٍ. أما التخلّي الأخيرُ، فكان عقب الثورة الثقافية، سنة 1977، حين تخلّى ديي عن جسدِه في حركة دراميّة مفاجئةٍ. ليس التّزامنُ بين الحلقات الدراميّةِ الكبرى في حياةِ ديَيْ وتاريخ الصّينِ لعبة مصادفاتٍ، وإنّما هي غُرزُ الخياطة الّتي تقود إلى موقفِ المخرجِ من تاريخِ بلاده الحديثِ أو ربّما موقفه من حاضرها...
يقول المخرجُ كَيكه، أنّ الفلمَ قصّةٌ عن الخيانةِ. ولئن لم يحدّد طبيعة الخيانةِ، فإنّنا نجدها في مختلف أشكالها وصفاتها. فبعد أن تخلّى عنه والدُه قبل أن يولد، تخلّت عنه أمّه لعجزها عن التكفّل به وهي نزيلة الماخورِ. ليس سهلا على الطفلِ أن تتحقّق أكبرُ مخاوفِه النّفسيةِ وهي هجرانُ الوالديْنِ، ولكنّ الطفلَ الصغيرَ وجد في شياولو حاميًا وراعيا. من المثير هنا أن نتفطّن إلى تلك المقابلة الخفيّة الّتي حدثت بين الأمّ والصّديقِ. فقد مُثِّلت علاقةُ ديَيْ بأمّه عبر الدفءِ: إنّها تحميهِ وترعاهُ إذ تغطّي جسده وتغمره دفئا في المشهدِ الأوّلِ، وحين تخلّت عنه، أخرجته من ملاءتها وجمّدت يدَه حتّى تقطع إصبعه الزّائدَ. أمّا صديقُه، فقد تعرّض للتجمّد بردا من أجله، فما كان منه إلاّ أن غمرَه بدفئه الطفلِ، كأنّما يمنحه ما افتقده.
لم يدر بخلده، وهو يكبر عاما بعد عامٍ إلى جوارِه، متقمّصا دورَ خليلتِه، خليلةِ الملكِ في المسرحيّة العريقةِ وداعا يا خليلتي Farewell my concubine، أنّه هو الآخرُ سيخونه. ربّما لم تحدث أيّة خيانةٍ من منظور شياولو، فالرّجل لا ينظرُ إلى علاقته برفيقه بذات الشكلِ. وزواجُه من الغانيةِ جوشان Juxian لا يتعارضُ مع التزامه بعملهما الثنائيّ على المسرحِ. لكنّ ديَيْ يستعيد ذكرى أمّه في محظيّةِ رفيقه. ستحرمه جوشان من الدفء كما حدث له صغيرا. وهو ما حدث حرفيّا بعد سنوات حين كان يسترق النظر إلى منزل الزوجين. إذ كانا يوقدان النّار من أي شيء ويتدفّئان قبل أن يمارسا الجنس. تلك هي خيانة شياولو الأليمةُ. وهي حتما أقسى من خيانةِ معلّمه الّذي رعاه وكوّنه وصقل موهبته وإن بإفراط في العنف. وأقسى أيضا من خيانةِ تلميذه شياوسر الّذي لفظ تعاليمه واحتقرها، واحتضن أفكارَ الحزب الشيوعيِّ ثمَّ وشى به وبرفيقه وزوجته ليكونوا جميعا ضحايا الثورة الثقافيّة. لكنّ الخيانة لم تكن تدور حولَ ديي وحدَه. فقد تنكّر شياولو لزوجته أمام نار الثورةِ ودفعها إلى الانتحارِ. ومن قبل ذلك تنكّر أهل بيكين لأرستقراطييها الّذين كانوا يموّلون مسارحهم وحياتهم الثقافيةَ. وتنكّرت جوشان لربّة بيت الدعارة الّذي اقتات منهُ، ولحقيقتِها الماضيةِ. ولم يكن ديَيْ عفيفا عن الخيانةِ، فقد اتُّهم بها منذ أن ذهب للغناء بين يدَي الغزاةِ اليابانيّين. ولئن فعل ذلك من أجل إطلاق سراح رفيقه، فإنّه ما كان ليمانعَ دون اضطرارٍ. وهو أمرٌ لم يفهمه الآخرون وأوّلهم رفيقُه الّذي بصق في وجهه. وفي مقابلِ وفائه المطلق لـشياولو، عاملَ عاشقَه الثريَّ يُووان شيقنغ Yuan Shiqing بالجحود، متخلّيا عن هديّته الثمينةِ (سيفٌ مرصّع أصيلٌ) لفائده رفيقه إذ وعده بها منذ كانا غلاميْنِ. كما لم يلقِ بالا لشهادة يووان لصالحه في المحكمةِ وكذّبه علانيّةً. على أنّ خيانته الأكبر كانت في النهاية، حين خان نفسَه وانتحرَ بذات السيف. فهل كان انتحارُه محضَ خيانةٍ للذّات؟ أم هو على العكسِ تماما تجلٍّ للوفاءِ في ضروبه القصوى؟
نحن بحاجةٍ إلى الاقترابِ أكثرَ من ذاتِ ديَيْ، حتّى نتبيّن الوفاء من الخيانةِ. سيطالعُنا مستويان متداخلان: مستوى فنّيٌّ وآخر جنسيٌّ. فأمّا الفنيُّ فيتعلّق بتصوّره الخاصّ لفنّ الأوبرا. إنّها كما يشهدُ شياولو على الملإ، الشيءُ الوحيدُ الّذي يُخلِص له رفيقُه، ربّما إلى حدّ الهوسِ. فعندَ ديَيْ لا يقفُ الأداءُ على خشبةِ المسرحِ وإنّما يتواصلُ في الواقعِ. وربّما استمدَّ عبقريّته وأداءه الباهرَ من هذا التصوّرِ لأنّه… لم يكن يمثّل أصلا! لقد ظهر التباسُ الواقعِ والخيالِ عنده منذ البدايةِ حينَ عجزَ خلال أداء دور الخليلةِ أن يخبرَ أنّه بطبعه بنتٌ وليس ولدا. ولكنّه أضحى جليّا بعد سنواتٍ حينما طالب رفيقَه بأن يعاهده بأن لا يفارقه بقية حياتهما. يسأله ذلك كما تفعلُ الخليلةُ مع ملكِها في الأوبرا الّتي اشتهرا به. غير أنّ الملكَ/شياولو يحملُ فلسفةَ مغايرة. فالعهد عنده يعني الرفقة على المسرح فحسب، وهو ما أغضب ديَي إذ هتف: الحياة كلّها تعني كلّ لحظة!
لقد كان الملكُ في شخصِ شياولو (وهو الّذي يتعرّضُ لخيانةِ الجميعِ من حولِه إلا حصانَه وخليلته) نموذجا معاكسا لفكرةِ ديَي عن المسرحِ. فبينما كان الثاني يعيشُ دوره المسرحيَّ بجديّة الواقعِ، كان الأولُ يلعبُ في الواقعِ أدوارا مسرحيّةً. ولا أوضحَ في ذلك من حادثةِ زواجهِ بــجوشان الّتي بدأت بتمثيليّة مضحكة في الماخورِ ادّعى فيها أنّها خطيبَتُه وانتهت بها أمام غرفةِ الكواليس في الأوبرا تطالبه بأن يفيَ بوعدهِ. لقد ذكّر شياولو دائما بأنّ "وداعا يا خليلتي" مجرّد مسرحيّةٍ، وكان كثيرا ما يقدّم عليها الأمور الأخرى: إبداء معاداته للاحتلال اليابانيِّ، إيقاف العرض أمام تجاوزات المتفرّجين من القوميين، الإذعان لرؤى الشيوعيّين الثقافية. وحينما قبِل التمثيلَ مع شياو سر عوض رفيقِه في دور الخليلة، حاول أن يهوّن الأمر على ديي بقوله: إنّها مجرّد مسرحية! وما الحياة عند ديي إن لم تكن عرضا مسرحيّا؟! لقد عاش دْيَي ممتلئا بروحِ الخليلةِ Yu أكثر ممّا عاش نجما شهيرا لأوبرا بيكين. ولم يكن يتوقّف عن دورِه إلا في لحظة وحيدة في كلِّ مرّةٍ، وهي لحظةُ الانتحار، إذ تفيض روحُ Yu ويظلُّ هو حيّا يتلقّى تصفيق المشاهدين. لم نرَ في النّهاية ماذا فعل ديَيْ بسيف الملك الّذي اختطفه اختطافا، ولكن من المرجّح أن يكون قطعا مع لحظة القطع، توقّفا عن التّوقف، كأنما قرّر أن يكون الخليلة إلى الأبد. أليس هذا عكس ما يبدو، وفاء للذات بأعنف الصّور؟ ألا يكون دْيَي في وفائه لحقيقته الخاصّةِ فذّا أصيلا وسط عالمٍ مزيّف؟
يشجّعنا التساؤل على العودةِ إلى ازدواجيّة الصّورةِ بين الفرديّ والجماعيِّ، وبين البطلِ الدّراميِّ ودلالتِه السّياسيّةِ. إنّ دْيَيْ لا يرمزُ إلى الصّينِ فحسب، بل يرمزُ إلى الصّينِ الأصيلةِ، الصّين الّتي صقلتْ عبقريَّتَها بفضل تعاليمِ كونفوشيوس القاسية، وظلّت هناك تعرِضُ فتنتها أمام حُكّامِها المتعاقبين بمنتهى الإخلاصِ لجوهرها. لقد حوّل كيْكه مسرحَ بيكين إلى وجهٍ يختصرُ ملامِحَ الصّينِ. وهي استعارةٌ استعملها هو نفسُه على لسانِ شياولو حين عاتبه القوميّون على مواصلة تقديم العروض وبلادُه تتعرّض للغزو اليابانيّ، إذ هتف غاضبا: تمعّنوا في وجهيْنا! ألا ترون أنّنا صينيّان؟! ثمّ إنّه (كَيكه) انطلاقا من المسرحِ، رصدَ عبرَ تطوّرِ طبيعةِ المتفرّجينَ تبايُنَ مواقفِ الحكّامِ المتعاقبين على تاريخها طيلة القرنِ من المسرح/الصينِ، معبّرا عن تصوّرِه لحقبِهم من خلالِ ردودِ أفعالهم. تباينت ردود الأفعال بين الاحترام والانتهاك، لكنّها جميعا ردودٌ عَرَضيّةٌ لا تكادُ تقارنُ بالوقفة المطوّلة مع معاملةِ الشيوعيّين لمسرحِ بيكين. لقد طرق هؤلاء جوهر الهويّةِ الصّينيّة ودفعوا إلى تجاوزِها بأعنف السبلِ. فكانت الثورةُ الثقافيةُ محرقةً حقيقيّةً حوكم خلالَها جوهرُ الذّات الصّينيّةِ واتُّهم بخيانة مبادئ الثورةِ. من الغريب أن يخونَ التّليدُ الطّارفَ، والجوهرُ العَرَضَ، والمتأصّلُ المستحدثَ. بل ذهب كيكه لتصوير الموقف بصورة أبشع حينما جعلَ الخيانة بين التلميذ ومعلّمه، وبين الابنِ وأبيه. كذلك كان الأمرُ بين ديَيْ وشياو سر ذلك الطّفلِ الّذي انتشله الأوّلُ واستقدمَه للمدرسةِ، وعلّمه بعد موت المعلِّم الأوّلِ، فإذا به ينضمُّ إلى الشيوعيّين حالما شبَّ ودفع صاحبَ المسرحِ دفعا لتبنّي الواقعيّة الاشتراكيّة والتخلّي عن مظاهر التّرف الّذي تمثّله أوبرا بيكين.
كأنّما كان الفلمُ يمضي منذ البداية نحو مشهدِ المحاكمة الكبير، حتّى يُقيمَ محاكمةً للمحاكمةِ، وحتّى يعيد الحقَّ لآلاف الفنّانين الصّينيّين الّذين اضطُهدوا خلال تلك العشريّة الثقافيّة السوداء. من المؤكّد أنّ الصّين كدأبها حين تريد التّراجع عن سياسةٍ ما، تشيح بوجه الرّقابة عن الفنّانين حتّى يقولوا في تلك السياسة المتروكة ما قال مالك في الخمرة (وهذا ما حدث مؤخّرا مع سياسة الطفل الواحد). لكنّنا لا يمكن أن نشكّك في قيمة شهادةِ مخرجٍ مثل تشن كيكه، وهو الّذي لعبَ دور شياو سر في شبابِه، ووشى بأبيه الفنّان المسرحيِّ للحرسِ الأحمرِ بالفعل! لقد كانت محنةُ دْيَيْ محنةً شخصيّةً، ولقد كان هو الشخصَ الآثمَ فيها. حين ندمَ على ما اقترفه، كان تشن كيكه ـ ربما دون أن يدري ـ يستجيبُ لسياسة الحزبِ الجديدة، من انفتاحٍ على الغربِ، ونكرانٍ للتّجارب الشيوعيّة القاسية، واستعادةٍ لروحِ القوميّةِ. عادت الصّين مع كيكه، كونفوشيوسيّةً امبراطوريّةً ذاتِ قيمٍ إنسانيّة أقربَ إلى الغربِ الرّأسماليِّ منها عندما كانت ماويّةً، وذاتِ خصائصَ ثقافيّةٍ عاليةِ القيمةِ في السّوق العالمية! أليس مثيرا للمشاهدِ الغربيِّ أن يرى كيف كانت الصّينُ الأصيلةُ متسامحةً مع المثليّين والكويريّين قبل أن تصبح شيوعيّةً؟ أليس مثيرا أن نتعرّف كيف مارسَ الكويريّون الصينيّون حياتهم الحقيقيّةَ عبر خشبة المسرحِ، حيث يؤدّون وظيفة الـدّان Dan أي الدّور الأنثويِّ في الأوبرا؟
يأخذنا التّساؤل إلى المستوى الثّاني الّذي تنبني عليه شخصيّة دْيَيْ، وأعني المستوى الجنسيِّ. لقد أدّى الفنّان الصينيُّ العظيمُ لسلي تشونغ Leslie Cheung شخصيّة دْيَي بشكل آسرٍ يستحيل تكرار مثله، وقد يكون أهمّ شخصيّة كويريّة في تاريخ السينما. وهو بلا شكّ أحد أهمّ الشخصيات الّتي قدّمتها الشاشةُ الفضيّةُ. مردُّ ذلك هو تلك الدّقّة المتناهية الّتي فصلَ بها تشونغ بين الرّقةِ والميوعةِ، وبين الأنوثةِ والهستيريا. كانت شخصيّةُ ديَيْ حدثا مدويّا من الشرق الأقصى ومن رقابته الصّارمةِ، ومن المؤكّد أنّ للدّويِّ أثرَه في فوزِ الفلمِ بسعفةِ كانّ الذهبيّةِ. لكن من الظّلمِ أن نتوقّف ها هنا، ولا نرى فيها أبعدَ من طعمٍ ناجح لاصطياد الجوائز العالمية. لقد بينّنا أنّ الصّراعَ الحقيقيَّ في "وداعا يا خليلتي" هو صراعُ الخيانةِ للذّاتِ والوفاءِ لها. وإن كنّا قد بيّنّا ذلك من خلالِ تأصيل الذّات الجماعيّة بالفنِّ، فإنّه بإمكاننا البحثُ في تأصيل الّذاتِ الفرديّة بالجنسِ.
من هو ديَيْ؟ هو الطّفلُ دوزي Douzi المهجورُ من والديْهِ وتلميذُ الأوبرا الخائفُ. هو الشّابُّ دْيَيْ نجمُ الأوبرا الصّاعدُ والعبقريُّ في أداء أدوار الدّان بمنتهى الحرفيّةِ والإخلاصِ. وأخيرا هو الخليلةُ يو Yu المحبّةُ الوفيّةُ حتّى الموتِ لملكها ورفيقها. هو ثلاثتهم في آنٍ، وإنّ من العبقريِّ أن يحملَ كلٌّ منهم اسما يميّزُه. لقد منحَت الأوبرا لـدْيَي فرصةً عظيمةً ليعبّر عن جزءٍ مهمٍّ من ذاتِه المركّبة، إذ تمثّلُ وظيفةُ الدّان ـ أي اضطلاع الرّجل بتقمص الدور النسائي ـ ممرَّ تهوئةً في حضرة تضييق مجتمعيّ. وبعبارة أخرى، فإنّ المخنَّث يُعامل باحترامٍ وإجلالٍ طالما كان في موقعِه من خشبةِ المسرحِ، تماما كما تعاملُ المومِسُ باحترامٍ داخل بيت الدعارةِ. وكما يحدثُ مع المومساتِ، يأتي أفاضلُ القومِ ويستحسنون أداءَ الدّان، ويطلبونه. لقد تشكّلت علاقةُ مطابقةٍ مثيرةٍ منذ البدايةِ بين بيتِ الأوبرا وبيت الدّعارةِ، وبين عاملِ المسرحِ وعاملةِ الجنسِ. فالثانيةُ تمنحُ المسرحَ ممثّليهِ، والأوّلُ يمنحُ الماخورَ روّاده. وهذا ما جعلَ من جوشان بائعة الهوى وزوجة شياولو، غريما حقيقيّا لـدْيَيْ. لقد فهمته جوشان أكثر من أي شخصٍ آخر، وأدركت أنّه بتفانيه المطلقِ يمثّل التهديد الأكبرَ لعلاقتها بـشياولو أي لخلاصها. ولم يخيّب ديَي ظنّها فكان أفضل خصمٍ ممكنٍ. علاقةُ ديَيْ بـجوشان شيءٌ معقّدٌ وعظيمٌ كعلاقة أيّ امرأتيْن تخلصان في محبّة رجلٍ واحدٍ. تتبادلان الكرهَ والفهمَ والاحترامَ. فحين اعتُقلَ دْيَيْ بتهمةِ التطبيع مع اليابانيّين، كانت جوشان الأقدرَ على إقناعِ النبيلِ يوان شيقنق Yuan Chiqing بمساعدته. وحينما ألقي سيفُ ديَيْ في نيران الثورةِ الغاضبةِ، رمت جوشان يدها في الجحيم لتنقذه. كأنّها الوحيدةُ الّتي تعرف قيمته. وحين انتحرت، لم يبكها أحدٌ مثل ديَيْ. الحقيقةُ أنّ بطلنا، لم يحقّق أنوثته بقدر ما فعلَ بفضل خصامِه مع جوشان. وقبلها، أزهرت (أنوثته) ببطء منذ كان صغيرا يحيطُ بجسدهِ الضّئيلِ والدافئِ جسدَ رفيقه شياولو (كان اسمه شيتو Shitou) المعاقبِ. بل قبل ذلك، حين قطعت أمُّه إصبع يدهِ السّادس حتّى يصبحَ شخصا عاديًّا لا يثير ذعر المتفرّجين. هل قطعت إصبع يدٍ أم قطعت علاقته بالذّكورة الكلاسيكيّةِ؟ وعدتْ كلّ هذه التّفاصيلُ بشيء لاحقٍ، سرعانما أخذ في التبلور حينما التبس الأمرُ على الفتى وهو يتلو عبارة "وأنا بطبيعتي بنتٌ ولستُ ولدًا" وبات جليّا أنّه يعاني من إشكالٍ في استيعابِ حقيقةِ ذاته، وتقبُّلها. لم يكن سهلا أن يقلبَ ديَي الآيةَ، فيصبح بطبعه امرأة لا ولدا، لكنّه حالما فعلَ، تحوّلَ إلى امتدادٍ لشخصيّة الخليلةِ يو في عالمِ الواقعِ، وصار إخلاصُه لدورِه إخلاصا لجوهرِه، لهويّته الّتي أرادها لنفسه، أو تراهُ لم يفعل…
الحقيقةُ أنّ البحثَ عن جوهرِ ديَيْ وسط كلِّ هذه الأحداثِ والوسائطِ أمرٌ شائكٌ ومعقّد. وبينما نحاولُ أن نبحثَ عن إرادةٍ حرّةٍ أصيلةٍ حقّق بها ديي ذاتَه وأخلصَ لها حتّى الانتحارِ، تطالعُنا ذاتُ الصّور بقراءةٍ مناقضةٍ. وإذا بـديَيْ يُدفَعُ دفعًا إلى أن يُصبحَ "امرأةً بطبيعتها لا رجلا". بل أكثر من الدّفعِ، كان يتعرّض لانتهاك جسديٍّ فمويٍّ من رفيقهِ لا تخفى على أحدٍ طبيعتُه الجنسيّةُ حتّى يتمكّن من قول "الحقيقةِ المسرحيّةِ". فهل أرغِم بطلُنا إرغاما على إرادتِه الحرّةِ؟ نعود في هذه اللحظة بذاكرتنا إلى مشهد القطع/الخصي حين أزالت أمُّه إصبعَه الإضافيّة حتّى يتمكّن من دخول المدرسة، فنكتشف أنّه مرّة أخرى كان مُرغَمًا. ولئن لم أشكَّ في كويريّة ديَيْ فإنّني أشكُّ في نسبتها الخالصة إليهِ. إنّها مثلُ المسرحِ سليلةُ مجتمعٍ كاملٍ أسرَّها إليه، فتلقّفها مكرها ثمَّ متقبّلا ثمَّ مناضلا. فإذا هو في محاولةِ الإخلاصِ لحقيقتِه، إنّما يخلصُ لحقيقةٍ جماعيّة أشملَ وأعمقَ وأعرقَ. حقيقةٍ لا تنكرُ الهويّة الفرديّةَ ولكنّها لا تخلّصُها من أثرِ الجماعةِ. ألا نلمسُ في هذا مرّة أخرى صوتا قوميّا يحاول أن يتأسّس على أنقاضِ جماعيّة اشتراكيّةٍ "متهوّرة" وجب تجاوزُ خيباتها؟ المقارنة حاصلةٌ بالفعلِ من خلالِ ديَيْ وتلميذِه شياو سر، خصوصا في مشهدِ الخليلتيْنِ والملكِ في الكواليسِ. وهو مشهدٌ عظيمٌ آخرُ في تفاصيلِه وجماليّته. نرى خلالَه الممثلين وقد تضاعف عددهم بشكل غير مسبوق يُجرون زينتهم على وجوههم في ممارسةٍ عُمّاليّة للفنِّ، وبمثل ذلك تناقلت الأيدي البروليتاريّةُ خوذة الملكِ حتى وصولِها إلى ديَيْ. لقد كانت نتيجةُ الصّراع بين الخليلتيْن محسومة سلفا بفضلِ هذا التناقلِ. وهي نتيجة تراجيديّة دون شكٍّ، انهزمت فيها الفكرةُ الأصيلةُ أمام نسخة سخيفةٍ يمثّلها شياو سر، ذلك اليتيمُ الّذي لم يُنهِ تكوينه، واندفع بصبيانية وجهل نحو أفكارٍ لا يكادُ يفهمها ونحو مشروعٍ لا يعرفُ مغبّته. يصوّرُ المخرجُ كَيكه في شياو سر، خيبَتَه الأولى الّتي اقترفها شابّا وندمَ عليها. وهو ندمٌ صادقٌ في ما يبدو وإن كان موافقا للسّياسات العامّة للدّولةِ.
وداعا يا خليلتي، هو قصّةُ الخليلةِ يُو وملِكها المهزومِ. وهو قصّةُ دْيَيْ ورفيق دربه شياو لو وغريمته جوشان. وهو أيضا قصّةُ بلدٍ يخلعُ بدلةً فشلَ في تقمّصها ويحاول أن يستعيدَ بدلته القديمةَ، عسى أن تشفع له أمام الآخرين، فيروْنه بغير صورتِه المكروهةِ. لقد حاولَ الفلمُ أن يعيدَ الاعتبار إلى الفردِ دون تجاوزِ الجماعةِ فاستنبط صورةً أقرب إلى القوميّةِ الأوروبيّةِ ذات القيمِ الكونيّةِ. ومن خلالِ مخرجِه بدا وكأنّ الصّين تروّج إلى عهدٍ من الحرّيات الجزئيةِ، يمكنُ فيها للفنّان أن ينتقدَ تجارب الحزبِ الواحدِ الفاشلةِ، أو أن يخوض في المواضيع الّتي تبدو محرّمةً أو جريئةً. لكنّنا نعرف أنّ الحزبَ ما كان ليسمح بهذا لو كان فيه تعارضٌ مع سياساته. ونحن نعرفُ أيضا، أنّ ذلك يحدث في فترةٍ وُصمتْ فيها الصّينُ بمجزرة تيانانمان الشهيرة (1989). لا يقلّلُ كلُّ ذلك من جماليّة الفلمِ ولا من بديع تركيبه أو جمالِ تفاصيله، ويكفيه قيمةً أنّه قدّم لنا أحد أجمل الشخصيات في تاريخ السينما، وأنّه عرض علينا وإن بإيجازٍ ملحمةَ شعبٍ يحاول أن يخلصَ لذاتِه.
------
العنوان: وداعا يا خليلتي (الملكُ المهيْمنُ يودّعُ خليلتَه)
المُخرج: تشن كَيْكَه Chen Kaige
البلد: الصّين
السنة: 1993
المدّة: 171 دقيقة
البطولة: لسلي تشونغ Leslie Cheung، جانغ فنغ-يي Zhang Fengyi، غونغ لي Gong li
ملاحظات:
1 جيني كْوُكْ واه لاَو Jenny Kwok Wah Lau - وداعا يا خليلتي : التاريخ والميلودراما والإديولوجيا في السينما النّاطقة بالصّينيّة. Farewell My Concubine: History, Melodrama, and Ideology in Contemporary Pan-Chinese Cinema
2 اِهتمَّ فلمٌ شهيرٌ آخر بقصّة Puyi وهو رائعةُ برتولوتشي "الامبراطور الأخير" The last emperor 1987